أطراف فلسطين تتلاشى

من بين أخطر سمات مشهد التّشتّت الجغرافي والاقتصادي والسياسي الفلسطيني اليوم هو الانفصال المتزايد لثلاثة "أطراف" من الأرض المحتلة عن "المركز"، أي كل من قطاع غزة والقدس الشرقية العربية والمناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية. ومع أن المناطق الأخيرة تتضمن 60 في المئة من مساحة الضفة، وأن القدس تعتبر أكبر وأقدم مدينة فلسطينية، بينما تعادل مساحة غزة 10 في المئة من مساحة
2015-05-14

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
تصوير محمود غانم(من مشروع "مكمْلين" لتوثيق حكايا عائلات فلسطينية مهجّرة)

من بين أخطر سمات مشهد التّشتّت الجغرافي والاقتصادي والسياسي الفلسطيني اليوم هو الانفصال المتزايد لثلاثة "أطراف" من الأرض المحتلة عن "المركز"، أي كل من قطاع غزة والقدس الشرقية العربية والمناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية. ومع أن المناطق الأخيرة تتضمن 60 في المئة من مساحة الضفة، وأن القدس تعتبر أكبر وأقدم مدينة فلسطينية، بينما تعادل مساحة غزة 10 في المئة من مساحة الضفة ولكنها تأوي ما يعادل ثلث الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.. فإن جميع هذه الأطراف تقع خارج ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي مهمشة اقتصادياً وخاضعة لحكم (أو حصار) إسرائيلي مباشر. هذه ليست وليدة ظروف سياسيّة جديدة فحسب، بل تعتبر من إفرازات إطار أوسلو المتفق عليها (أو الحتمية) بعد 20 سنة من سريانها.
وفي 1993، وافق المفاوض الفلسطيني على تأجيل البتّ بقضيّة القدس إلى مرحلة "الحلّ الدائم"، وعلى اقتطاع المناطق المسماة "ج" من مناطق نفوذه ("أ" و"ب") وإبقاء أهلها تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، بينما بقيت إسرائيل تتحكم بمحاور التواصل الجغرافي بين غزة وبقية الأرض المحتلة. ونتيجة ذلك كانت أن جُعل من السهل حصار قطاع غزة وفصل مصيره (كما القدس والمناطق "ج") عن المسار السّياسي والاقتصادي والقانوني الذي تسلكه سلطة الحكم الذّاتي في رام الله والمدن الفلسطينية الأخرى والقرى المحيطة بها. وتمارس هذه السلطة صلاحياتها المدنية والخدمية المحدودة بقدراتها والأمنية الداخلية على مساحة لا تتمتع بالسيادة عليها، وهي تقل عن ثلث مساحة الأرض المحتلة العام 1967 وربما عن 7 في المئة من أرض فلسطين التاريخية.

وعاصمتها القدس؟

نفترض أن الجانب الفلسطيني لم يكن يتصور بأن تصل الأوضاع إلى مثل هذه الحالة بعد عقدين من توقيعه صكوك أوسلو، لكن إسرائيل عملت بالتأكيد كل ما بوسعها لجعل هذه الأوضاع واقعاً من الصعب جداً التراجع عنه. ومع أن انفصال قطاع غزة السياسي قد يكون قابل للمعالجة في حالة حدوث اختراق ما في المصالحة الوطنية العتيدة، وباستطاعة الـ10 في المئة من سكان الضفة القاطنين في مناطق "ج" الوصول إلى بعض الخدمات والتواصل مع المجتمع الفلسطيني في مناطق "أ" و "ب"، فإن القدس العربية لم تعد عربية، ومكانة المدينة الاقتصادية والسياسية والثقافية التاريخية باتت في مهب الريح. وانسلاخ القدس عن التيار الفلسطيني العام أفقد الأخير البوصلة والمبرر والقدسية التي أشهرها الزعيم الشهيد ياسر عرفات بالهتاف كان يردده في السنوات الأخيرة قبل رحيله: "للقدس رايحين، شهداء بالملايين".
توصلت دراسة للأمم المتحدة شاركتُ بإعدادها في 2013 حول اقتصاد القدس العربية ("الاقتصاد الفلسطيني في القدس الشرقية: الصمود في وجـه الضم والعزل والتفكك") إلى أن اتجاهات المؤشرات الاقتصادية (إنتاج محلي، عمالة، فقر، خدمات، إنشاءات، الخ..) تدلُّ علـى الاسـتبعاد المُمَنهج للقدس الفلسطينية من الدولة التي ضُمَّت إليها من جانب واحد، وفصلها في الوقت نفسه عن بقيـة الـضفة الغربية المحتلة. ونتيجةً لذلك، يجد اقتصاد القدس الشرقية نفسه في عالم منفصل تماماً عن كلا الاقتصادين، الفلسطيني والإسرائيلي، اللذين يرتبط بهما. فهو غير مدمج في أي منهما، ومع ذلك فإنه يعتمد من الناحية البنيوية على اقتصاد الضفة الغربية لـدعم إنتاجه وتجارته في السلع والخدمات ولتوفير فرص العمل، وهو في الوقت نفسه يعتمد قسراً على الأسواق الإسرائيلية التي يجب أن يخضع للوائحها وأنظمتها، والتي تشكِّل مصدراً للعمالة والتجارة، كما تشكِّل القناة الرئيسية للسياحة المتجهة إلى المدينة.
وبحسب التقرير الأممي، قد أدَّت هذه العلاقات المتناقضة والمتعارضة فعلياً إلى ترك اقتصاد القدس الشرقية ليعين نفسه بنفسه ويتدبر أمره، بانتظار مصير تنميته المُعلَّقة. فهو من جهة منفصل عن ولاية السلطة الفلسطينية، وهو خاضع من جهة ثانية لما تمليه متطلّبـات السكان اليهود والاستراتيجيات الاستيطانية التي تنتهجها السلطات البلدية والحكومية الإسرائيلية. لقد بات المسار الاقتصادي للقدس الشرقية منحرفاً عن المسار الاقتصادي لبقية الضفة الغربية. وهذه الاتجاهات تنطوي على خطر جعل المفهوم المكرَّس في قرارات الأمم المتحدة واتفاقات أوسلو، وهو أن قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيهـا القـدس الشرقية، يشكِّلان كياناً إقليمياً وقانونياً واحداً، مفهوماً لم يعد له معنى.
هذا الوضع الشاذ للقدس لا يحمل فحسب مخاطر استراتيجية على مشروع الوحدة الفلسطينية والاستقلال الوطني والسيادة، بل يعكس أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة ومزمنة يعيشها فلسطينيو القدس المحتلة والبالغ عددهم حوالي 300.000 نسمة (داخل الجدار) بالإضافة إلى ما يزيد عن 100.000 مقدسي يقطنون في الضواحي الشمالية والشرقية للمدينة (خارج الجدار) في مناطق تخضع قانونيا لبلدية القدس (مثل قلنديا وكفرعقب) أو لولاية السلطة الفلسطينية (مثل العيزرية وأبو ديس).
فبلدية القدس الإسرائيلية التي لا يتمثل فيها هؤلاء "المقيمين الدائمين" الفلسطينيين (كما يصنفهم القانون الإسرائيلي) لا تهتم كثيرا باحتياجاتهم الخدمية المختلفة. ويظهر ذلك في سوء توفير خدمات أساسية مثل جمع القمامة، تنظيم الشوارع الداخلية المهملة من نواحي التخطيط والتعبيد والإنارة والأرصفة، توفير الماء بانتظام للحارات الفقيرة. وهي تماطل بإصدار تصاريح البناء والترميم (وحتى تمنع دخول مواد البناء العادية إلى البلدة القديمة من دون تصريح مسبق)، وتمتنع عن توفير إسكان لذوي الدخل المحدود، بينما يتم عصر كل مواطن فلسطيني لدفع كافة الضرائب البلدية وفواتير الكهرباء والماء والغرامات وغيرها من التكاليف التي تجعل مجرد البقاء في المدينة عملية مكلفة وبطولية. وتضاف إلى ذلك نسب الفقر المرتفعة (لما يزيد عن 70 في المئة من فلسطينيي القدس، بالمقارنة مع خط الفقر المطبق في إسرائيل)، والبطالة التي تنتشر بين الشباب بالوتيرة نفسها التي تفاقم مختلف المشاكل الاجتماعية من إدمان وجنح وعنف أسري و"أسرلة" ثقافية. وكل هذه الأزمات تفتقد إلى جهات عامة لمعالجتها، ما عدا بعض المنظمات الأهلية الصغيرة الممولة من جهات مانحة أوروبية وأممية تقيم بعض البرامج الاجتماعية المحلية لسد الفراغ الخدماتي.
ومنذ إغلاق المؤسسة السياسية الفلسطينية القائدة في القدس ("بيت الشرق") في 2001 ورحيل الزعيم فيصل الحسيني الذي كان يوحد صوت المقدسيين، لم تعد في المدينة "مؤسسات" عربية فعلية سوى "مستشفى المقاصد" و "شركة كهرباء القدس"، وبعض كليات "جامعة القدس"، ثم "الأوقاف العامة" التابعة للحكومة الأردنية والمكلفة بإدارة الحرم القدسي الشريف والأوقاف العامة هنا وهناك. ومع أن السلطة الفلسطينية تحاول أن تلعب دوراً ما في القدس بوسائل التحكم عن بُعد، فان محافظ القدس ووزير شؤون القدس غير مسموح له بالعمل داخل القدس علناً وغير مجهز بالموارد أو الآليات لممارسة نفوذه. وهكذا نشأ فراغٌ سياسي وخدمي وازدواجية (بل ثلاثية) قانونية للقدس، تقضي بمحاولة السلطة التصرف رسمياً على أساس أنها جزء من "دولة فلسطين" وبتعامل الأردن معها ضمن المسؤوليات الهاشمية الضيقة تجاه الأماكن المقدسة، بينما الولاية السيادية الفعلية السارية هي تلك التي تفرضها إسرائيل كما تشاء من خلال قوانينها وأجهزتها الحكومية المختلفة (البلدية، لجان التخطيط، الضرائب والتأمين الوطني، جمعيات الاستيطان اليهودي والشرطة وقوى الأمن). وهكذا استبيحت القدس الشريف أمام مطامع جعلها عاصمة إسرائيل الأبدية من خلال محو هويتها العربية والإسلامية وتاريخها السياسي المركزي في نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار ومن اجل الحرية والاستقلال.

... بينما تنهض رام الله

وما يثير التساؤل والارتباك، هو أنه على بعد اقل من 20 كلم عن البلدة القديمة الرازحة تحت تهديد التهويد، تنمو وتتوسع وتتنظم مدينة رام الله /البيرة، المحتضنة لأبراج ومجمعات تجارية ضخمة ولعمارات عملاقة لوزارات الدولة والشركات والبنوك ومشاريع الإسكان الفخمة بأسماء لطيفة ("الريحان" و "روابي" و "ريف" و "الحي الديبلوماسي"..) وقصور الثقافة والمتاحف وقاعات الفنون الجميلة، وغيرها من مظاهر بناء وتنظيم العاصمة الفلسطينية، بما في ذلك اعتماد رزمة القيم والغايات الليبرالية لأي مجتمع "معاصر". قد يفاجِئ الزائر إلى رام الله التخطيط المكثف والموارد الهائلة التي توفرها البلدية فقط في عملية تنظيم الشوارع وتعبيدها وتبليط الأرصفة، ونصب الإشارات المرورية وطلاء مواقع توقف السيارات وإشارات المشاة مرتين كل سنة.
وقد يعترض "أهالي منطقة أ" على أي مس أو تشكيك بهذا المسار الاقتصادي "العادي" الذي انطلق فعلاً منذ تولي النظام ما بعد - العرفاتي مقاليد الحكم العام 2005. ولا نريد أن نقلل من القدرة الفلسطينية على بناء مثل هذا المجتمع العصري المرتكز أساسا على طبقة رأسمالية ناشئة ومتعاونة مع طبقة وسطى جديدة من الموظفين الحكوميين والعاملين في الشركات والبنوك الكبرى والمهنيين والتجار، أي برجوازية صغيرة وكبيرة معا. لكن مثل هذا المسار في "المركز" الفلسطيني، المتباعد أكثر فأكثر عن الأطراف، وربما عن 99 في المئة من الشعب الفلسطيني (مقابل "1 في المئة" في المركز!)، يحمل في طياته المزيد من الانحلال والتشتت الفلسطيني ونقل الصراع من مواجهة الخارج الإسرائيلي إلى الاهتمام بالجبهات الداخلية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والفجوات الشاسعة في واقع الحياة بين "كوكب" القدس و"شمس" رام الله أصبحت تهدد مشروع الدولة الفلسطينية بقدر ما تعكس التناقض في مطلبه الرئيس "..وعاصمتها القدس الشريف".
هل من خلاص؟
ليس في هذا السرد الكثير الذي يشجع على التفاؤل سوى مؤشرات هنا وهناك بأن هذا الشعب لن يستسلم، وهناك ثلاثة مشاهد عينية متواضعة تدل على شيء من الأمل أو الاتجاه المعاكس لمسار التشتت والانفصال:
-    عندما هب أهالي القدس في صيف 2014 على إثر مقتل الفتى محمد أبو خضير، لم يعكس ذلك فقط رغبة الانتقام والغضب ضد العنصرية والفاشية، أو أحوالهم الاجتماعية المهمشة فحسب، بل كان بمثابة صرخة عفوية من المقدسيين انهم باقون ومستعدون لتحمل العقاب الحتمي لتمردهم من دون الركوع، وانهم يستطيعون تدبير أمورهم الأصعب والأهم، وحيدين في الميدان إذا كان ذلك مصيرهم،
-    خلال العواصف الثلجية في العامين 2014 و2015، أغلقت شوارع الأحياء العربية وأزقة البلدة القديمة، فعملت جرافات بلدية القدس على فتح شوارع الأحياء اليهودية، بينما نزلت العديد من الجرافات العربية (الخاصة أو التابعة لجمعيات) لفتح شوارع الأحياء الفلسطينية، وتولت مهمة الدفاع المدني الطوعي الأولي من دون إيعاز أو إشراف أو تمويل من أية جهات عُليا،
-    في النقطة الفاصلة بين القدس ورام الله، عند معبر قلنديا، شريان الحياة لآلاف المقدسيين الوافدين إلى رام الله يوميا للعمل أو التجارة أو الزيارة العائلية، فإن إهمال سلطات الاحتلال لترتيبات المرور والشوارع والاتجاهات المتضاربة للسير خلق منذ سنوات حالة اختناق مروري مخيفة، عجزت السلطة وتوني بلير والرباعية الدولية والـUSAID عن معالجتها! وعلى الرغم من ذلك، فهناك ثلة من شباب قلنديا لولاهم لكان انقطع هذا التواصل الفلسطيني الحيوي، فهم يقفون ليلاً نهاراً على مفترقات شوارع المعبر المغبرة، ينظمون حركة السير قدر الإمكان، وسط الضجيج المستمر ومحاولات السائقين التحايل على تعليماتهم والالتفاف حول قطع من المكعبات الإسمنتية والحجارة وإطارات السيارات التي وضعوها وعليها لوحات حديدية تبرعت بها مطبعة محلية تحمل عبارة واحدة موجهة للسّائقين العصبيين: أذكر الله!
وهذه هي البشرى السارة من قلب فلسطين.

 

للكاتب نفسه