مقاضاة إسرائيل دولياً.. في التجارة

بجانب تصعيد المواجهات الجماهيرية العارمة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، يتواصل الحديث السياسي والإعلامي الفلسطيني حول إمكانية متابعة الاستراتيجية القانونية الديبلوماسية التي انطلقت عند المحاولة الأولى في 2011 لتثبيت الاعتراف الأممي بدولة فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967. راوحت هذه الاستراتيجية في مكانها تقريبا خلال السنوات الأربع الأخيرة، مع تحقيق انتصارات معنوية مثل تغيير تسمية
2015-10-14

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
جمان النمري - الأردن

بجانب تصعيد المواجهات الجماهيرية العارمة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، يتواصل الحديث السياسي والإعلامي الفلسطيني حول إمكانية متابعة الاستراتيجية القانونية الديبلوماسية التي انطلقت عند المحاولة الأولى في 2011 لتثبيت الاعتراف الأممي بدولة فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967. راوحت هذه الاستراتيجية في مكانها تقريبا خلال السنوات الأربع الأخيرة، مع تحقيق انتصارات معنوية مثل تغيير تسمية التمثيل المراقِب في الأمم المتحدة إلى "فلسطين (دولة)"، ورفع العلم الفلسطيني أمام مقرات الأمم المتحدة. بينما انضمت دولة فلسطين إلى 15 معاهدة دولية، وترتب على ذلك احياناُ التزامات تشريعية وأعباء إدارية على السلطة هي بغنى عنها. كما أن احتمال الاستفادة من الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، وهي تستند إلى أكثر المعاهدات الدولية فتاكة في حال توجيهها نحو ممارسات إسرائيل، أصبح رهينة لتوازنات دولية وداخلية فلسطينية عطلت مفعولها حتى الآن. ومهما يكون مصير القرار الفلسطيني الجديد الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وما تبعه من موجة احتجاجات وعمليات مقاومة شعبية متصاعدة، فإن احتمالات النجاح في "تدويل" القضية الفلسطينية بعد احتجازها لأكثر من 20 عاماً في قفص اتفاقيات أوسلو تبدو ضئيلة في المناخ الإقليمي الذي لا يمنح آفاقا لحل سياسي قبل إنهاء الصراعات الدائرة في سوريا والمنطقة بأسرها. وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية تخشى أن دورها في "الحكم" سيتهدد جراء الانجرار في أحداث قد تتحول إلى معركة مسلحة مع إسرائيل، فان ورقة المواجهة القانونية الديبلوماسية تبقى احدى أهم الأسلحة التي يمكن لها إبرازها لكي تحافظ على دورها التمثيلي الرسمي وعلى مصداقيتها كقيادة شعب.   

خذ وطالب

إذا وضعنا جانباً الجدل اللامتناهي حول جدوى الحرب القانونية (lawfare) مقابل أشكال أخرى لمقاومة الاحتلال والاستيطان وإنهاءهما، وافترضنا أن جميع أشكال مواجهة إسرائيل السلمية مشروعة ومباحة، وأن لكل فئة وجهة وطنية (شباب، جماهير، سلطة، قطاع خاص) دورها المميز في ذلك، يجب في هذه المرحلة التركيز على إحراز مكاسب ملموسة وتدريجية قابلة للتحقق والابتعاد عن مساعي كبرى قد تجلب نجاحات رمزية دون المس بميزان القوى، ناهيك عن زعزعته. من المفاهيم الابتدائية في علم الاقتصاد ما يسمى بـ "قطف الفاكهة المنخفضة" (low-hanging fruit)، أي استخدام تلك الموارد التي لا تتوفر لها فرص توظيف أفضل، قبل استنزاف موارد أخرى تكون تكلفة توظيفها أعلى. إذا طبقنا هذا المبدأ على الجهود الفلسطينية لمواجهة إسرائيل دولياً ومحاسبتها وعزلها، فأنه من الأفضل استهداف الخصم الإسرائيلي في محافل دولية لا تخسر فلسطين شيئاً من الدخول اليها ويمكنها حشد الدعم لجهودها دون تبذير القليل من التعاطف والدعم الدولي الرسمي المتبقي لصالحها. 
المحافل الأهم (مجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية)، شبه محظورة على دخول فلسطين في هذه المرحلة، بالرغم من تصاعد عدد الضحايا والممارسات الإسرائيلية المنتهِكة لحقوق البشر. كما يبدو أن دول العالم ليست مستعدة للانضمام رسمياُ إلى الحملة الشعبية لفرض المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS). لذلك لا بد من الالتفاف على تلك الحواجز واختيار ميادين أخرى جديدة لمواجهة سياسات إسرائيل المخالفة للقانون الدولي، في شكل من أشكال حرب العصابات القانونية الديبلوماسية، بغية إرباك العدو، واستنزاف قواه الديبلوماسية، وتحقيق مكاسب محددة أبعد من تغطية إعلامية متعاطفة أو تصريحات مؤيدة. ضمن مثل هذه الاستراتيجية، يمكن البناء تدريجيا على نجاحات صغيرة متراكمة في معارك على عدة جبهات، بانتظار اللحظة الوطنية والإقليمية المناسِبة لخوض المعركة الأكبر لنيل الاستقلال وتقرير المصير. وفي هذا "الزمن العربي الرديء"، على الفلسطينيين الاكتفاء بما يمكن تحقيقه حينما يمكن، ميدانياً ودولياً، ضمن قرارهم المستقل وبرنامج م.ت.ف. – وذلك مهما تميز المشهد الدولي بالتضامن الشعبي مع فلسطين والتأييد اللفظي للحقوق الفلسطينية. 

إنها التجارة يا غبي

من أبرز دروس حملات BDS الشعبية الدولية أنها أظهرت مدى تخوف المؤسسات السياسية والاقتصادية الإسرائيلية من انتشار المقاطعة لتشمل الحكومات، وثم كل ما هو إنتاج إسرائيلي، وليس فقط إنتاج مستوطناتها في الأراضي المحتلة. رغم التحديات الكبيرة التي تواجه توسيع رقعة المقاطعة، فإنه من المؤكد أن احدى نقاط الضعف الإسرائيلية في موقعها الدولي تكمن في كل ما يمس بسمعة اقتصادها وتجارتها الدولية والاستثمارات الأجنبية في صناعاتها، ناهيك عما يمكن أن يهدد سيطرتها على الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية ومقدراتها، من خلال تحكمها باقتصاد فلسطين وتجارتها الخارجية البالغة حوالي 6 مليار دولار سنويا (واردات وصادرات). لذلك فإن أية "فاكهة منخفضة" يمكن قطفها في هذا المجال تستحق العمل على حصادها، اعتمادا على الشعار الانتخابي الذي فاز من خلاله بيل كلينتون في رئاسيات 1992 الأميركي عندما أبرز همّ المواطن الأمريكي الحقيقي حينذاك "إنه الاقتصاد يا غبي!"
ومع أن السوق الفلسطينية ليست هامة بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، سوى في بعض القطاعات، فإن سيطرة إسرائيل الكاملة على معابر التجارة إلى ومن فلسطين لا توفر لها أداة تحكم وعقاب استعماري فحسب، بل تعتبر من مقتضيات الحفاظ على أمنها القومي الاقتصادي. لذلك فإن كل إخلال بهذا التحكم المطلق وكل مكسب يُسهِّل انسياب التدفقات التجارية الفلسطينية، وكل عبء  يمكن تحميله للاحتلال بدل التاجر والمنتج والمستهلك الفلسطيني، سيكون بمثابة انتصارات ملموسة ومجدية، تتراكم في الميزان لصالح الطرف الفلسطيني الأضعف وتدعم الصمود الفلسطيني في مرحلة حرجة، وتشكل اللبنات الأولى لبروز كيان اقتصادي فلسطيني منفصل عن الاقتصاد الإسرائيلي الذي يحيط به من كافة الجهات. قد يعتبر كل من المراقب الاقتصادي والمواطن على حد سواء بأن أول خطوة في فك الحصار الاقتصادي تكمن في نبذ "بروتوكول باريس الاقتصادي" أو الامتناع عن تطبيقه من جانب أحادي، إلا أنه علينا الافتراض بأن ذلك قد يكون أصعب على السلطة الفلسطينية من وقف المفاوضات السياسية أو حتى التنسيق الأمني، مع أن الرئيس الفلسطيني نفسه طالب قبل غيره في 2011 بإعادة النظر باتفاقية باريس.
وبالتالي، فيجب البحث عن سبل قانونية دبلوماسية أخرى خارج إطار أوسلو/باريس يمكن من خلالها مواجهة إسرائيل اقتصاديا. وإن لم يكن من الممكن الحاق الضرر باقتصادها، فيتم على الأقل السعي لحماية الاقتصاد الفلسطيني من خلال القانون الدولي، الإنساني والتجاري. ويمكن متابعة ذلك دون الحاجة لخوض معارك غير مضمونة النتائج للانضمام إلى منظمات أو معاهدات دولية، ودون خسارة الرصيد الإيجابي المتراكم لدى الرأي العام الدولي. بل بما يمكن تعظيمه مستقبلاً، مع إمكانية حشر إسرائيل في الزاوية في إحدى أهم المحافل الدولية، وإحراز تنازلات منها لصالح قطاع التجارة الخارجية الفلسطينية، وكيان "الإقليم الجمركي المستقل" الذي لا بد من تكوينه ونيل الاعتراف به إذا كان سيقام يوماً اقتصاد وطني لدولة فلسطين.

ولا أسهل من تسهيل التجارة

أن المساعي المبذولة منذ 15 سنة للتعامل مع ملف منظمة التجارة العالمية من خلال استيفاء فلسطين شرط عضوية المراقب وبأنها تشكل "إقليم جمركي منفصل يتمتع بالسيطرة على معظم تجارته"، لم تتوج بقبول طلبها المقدم منذ عام 2009، بسبب معارضة إسرائيل السياسية وعدم القدرة على الإثبات بأن فلسطين  تشكل فعلاً إقليماً جمركياً منفصلا. وقد أظهرت دراسة صدرت أخيرا عن معهد السياسات الاقتصادية الفلسطينية (ماس) أسباب هذا الإخفاق وتداعيات مواصلة المساعي الفلسطينية في غياب رؤية تنموية واستراتيجية فنية محكمة. ما هو مهم هنا أن تلك الدراسة بينت ضرورة التركيز على حجة وحيدة لنيل عضوية المراقب، وهي المسعى لجعل فلسطين إقليم جمركي منفصل قولاً وفعلاً. مع أن المسارات الديبلوماسية والقانونية لتجديد طلب الانضمام مسدودة الآن وحتى إشعار آخر، فإن ذلك لا يعني أن الملف الفلسطيني يجب أن يجمد أو يدفن في أروقة منظمة التجارة. بل بالعكس، هنالك فرصة نادرة يمكن للديبلوماسية التجارية الفلسطينية، حكومة وقطاع خاص، انتهازها لمواجهة ولمقاضاة إسرائيل في "محكمة" الرأي العام الدولي حول سياساتها وإجراءاتها المجحفة بحق التجارة الفلسطينية، والضغط عليها في إطار التزاماتها في منظمة التجارة لتطبيق القانون التجاري الدولي على الأراضي المحتلة. وهذا الاستحقاق قادم بحلول نهاية عام 2015، حينما تدخل حيز التنفيذ "اتفاقية تسيير التجارة لعام 2013" التي تفرض على جميع أعضاء المنظمة الالتزام بجميع بنودها ومعاييرها التي تحدد "الممارسات المثلى" لعمليات النقل عند المعابر الحدودية والإجراءات الجمركية والتخليص، وشفافية توفر المعلومات التجارية والنقل العابر، وغيرها من المجالات التي يواجه فيها المستورد والمصدِّر الفلسطيني عقبات مزمنة تكبده تكاليف باهظة، نتيجة التمييز في معاملة سلطات الاحتلال لبضائعها مقارنة بالتسهيلات التي توفرها تلك الجهات الحكومية نفسها للشاحنين الإسرائيليين. وللنجاح في محاسبة إسرائيل على ممارساتها التجارية المخالِفة للقانون الإنساني الدولي ولأحكام اتفاقية تسيير التجارة الأخيرة، لا ينبغي بالضرورة الوصول إلى تقديم شكوى رسمية لدى آليات المنظمة (مع أن ذلك ممكن)، بل أن مجرد طرح الملف رسمياً في إطار منظمة التجارة من قبل أي عضو في المنظمة شريك تجاري لفلسطين (مثل الأردن أو مصر أو تركيا أو الاتحاد الأوروبي) تتأثر تجارته مع فلسطين سلباً بسبب هذه الإجراءات الإسرائيلية، سيعيد الكرة إلى ملعب الخصم. كما سيسهم في خلق حركة متواصلة لمعالجة هذا الملف فعلاً على الأرض وتقوية حجة فلسطين بأنها تسعى جاهدة في إطار القانون الدولي لتكون "إقليما جمركيا منفصلا" بحاجة لدعم دولي لكي يستطيع ان  "يسيطر على معظم تجارته الخارجية". 
قد يقول المتشككون بأن الفكرة جيدة ولكن يلزمها تحضير ودراسة وتخطيط، والسلطة الفلسطينية ليست معنية بمثل هذه المغامرات غير محسوبة العواقب. إلا أن عمليات الدراسة والتخطيط تمت فعلاً، وهناك أجندة تحرك وطني ودولي جاهزة للتنفيذ لو صدقت النوايا الديبلوماسية وتوفرت الإرادة السياسية.. حيث صدرت مؤخراً دراسة قانونية اقتصادية تجارية عن منظمة الأونكتاد بالتعاون مع مجلس الشاحنين الفلسطيني، توثق انتهاكات إسرائيل في مجال تسيير التجارة الفلسطينية، بنداً بنداً، محتوية على أمثلة عديدة وتحليل معمق لسبل إلغاء الممارسات المخالفة وتصحيح العلاقة التجارية الفلسطينية الإسرائيلية حسب معايير دولية التزمت إسرائيل نفسها بتطبيقها، والتي، وبحسب القانون الدولي، لا يستثنى منها قطاع التجارة الفلسطينية الذي تتحكم بمصيره القوة القائمة بالاحتلال وسيادتها المطلقة. كما تقترح الدراسة جملة من الخطوات القانونية والفنية والمؤسسية التي يجب إطلاقها وطنياً وإقليميا وعالمياً، للبدء فعلا بـ"تحرير" التجارة الفلسطينية من القيود الاستعمارية التي باتت خارج القانون التجاري الدولي ولا بد من فضحها والعمل على إلغائها في المحافل المخصصة لذلك. هذه المرة، الدراسة جاهزة والخطة كذلك، وبالتالي ليس هناك مبرر لتفادي التعامل الفلسطيني الرسمي والتجاري النشط مع هذا الملف الذي قد يسخن بسرعة، وقطف هذه "الفاكهة المنخفضة".
 وهذه البشرى السارة من فلسطين!

 

للكاتب نفسه