آفاق المقاطعة الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل

في عام 1949، كتب أحد أعضاء "الهيئة العربية العليا" (في مذكرات نشرت مؤخرا فقط) عن محاولات فرض المقاطعة على الاقتصاد اليهودي في فترة ما قبل النكبة، متسائلاً إذا كان الشعب الفلسطيني وقيادته واقتصاده جاهزين فعلاً لخوض "حرب اقتصادية اجتماعية لا هوادة فيها" للانفصال عن الهيمنة الصهيونية وكسر الطوق التجاري والمالي المفروض، وما أسماه حينذاك "تشابك مصالح العرب بمصالح
2016-03-24

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
على جدار الفصل العنصري: قاطعوا إسرائيل

في عام 1949، كتب أحد أعضاء "الهيئة العربية العليا" (في مذكرات نشرت مؤخرا فقط) عن محاولات فرض المقاطعة على الاقتصاد اليهودي في فترة ما قبل النكبة، متسائلاً إذا كان الشعب الفلسطيني وقيادته واقتصاده جاهزين فعلاً لخوض "حرب اقتصادية اجتماعية لا هوادة فيها" للانفصال عن الهيمنة الصهيونية وكسر الطوق التجاري والمالي المفروض، وما أسماه حينذاك "تشابك مصالح العرب بمصالح اليهود". للأسف، فإنه بعد 70 سنة ما زال هذا السؤال مطروحاً، والإجابة عليه عند طرحه وحتى اليوم، ما تزال بالنفي. وهذا يعتبر السياق الأنسب لاستعراض احتمالات وأساليب استخدام المقاطعة الاقتصادية الفلسطينية والدولية لإسرائيل.

تاريخ نضالي عريق لسلاح المقاطعة

ضمن المساعي لتصميم بدائل واقعية لتغيير الوضع الفلسطيني الراهن واستشراف الاستراتيجيات الجديدة الكفيلة بإخراج القضية الفلسطينية من "القفص الحديدي" الذي بات يشكله إرث اتفاقيات أوسلو وإفرازاتها السياسية والمؤسسية، فإن أحدى أبرز الوسائل النضالية المنتشرة حديثاً التي يبدو أنها قد تشكّل أداة فاعلة في مواجهة إسرائيل تكمن في ما يعرف بـ "المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS)"، التي ظهرت في إطار حملات التضامن الدولية مع فلسطين، وتقوم بالترويج لها لجنة وطنية فلسطينية. وهي تشكل نموذجا آخر لحملات مقاطعة إسرائيل أو المؤسسات الاستعمارية والصهيونية تبناها الشعب الفلسطيني في مواجهاته المتواصلة مع الصهيونية والاحتلال، ابتداءً من إضرابات ثورة 1936-1939 مروراً بمرحلة مقاطعة جامعة الدول العربية إبّان نكبة فلسطين عام 1948 والمساعي الوطنية لممارسة المقاطعة المحلية في المواجهة مع الحركة الصهيونية والاقتصاد اليهودي، لتتجدد موجاتها في الامتناع عن العمل داخل إسرائيل وعن تسديد الضرائب الإسرائيلية، والإضرابات التجارية أثناء الانتفاضة الأولى اعتبارا من عام 1988.

مصير الحملات المحلية

تجددت حملات المقاطعة الدولية خلال السنوات العشر الماضية في إطار (BDS)، مما ساعد على تشجيع مبادرات رسمية فلسطينية منذ 2010 حينما اعتمدت السلطة الفلسطينية، وطبقت بفعالية، قانوناً يحرِّم التجارة مع سلع وخدمات المستوطنات الإسرائيلية، وتشجيع كذلك حملات شعبية محلية، خاصة بعد العدوان على غزة عام 2014، للتوقف عن شراء وبيع المنتجات الاستهلاكية الإسرائيلية وخاصة الغذائية. ومع التفاوت بين كل هذه المستويات للمقاطعة (والتجارب التاريخية المذكورة) التي لكل منها أهدافها ووسائلها وحدودها وخصوصيتها من حيث الغايات والشمولية، والآليات المستخدمة، فإن مصيرها كان غالباً (ما عدا الحملة الدولية BDS) الانحسار ونتائجها محدودة مقارنة بأهدافها المعلنة، وهي أحبطت أو انهارت رغم مساهمتها المرحلية ربما في تعزيز وتنويع الجهد النضالي ضد الصهيونية والاستعمار والاحتلال.
إن نجاح سياسات المقاطعة في تجارب أخرى غير فلسطينية (وخاصة النضال ضد الأبارتيد في جنوب أفريقيا) يظهر أنها قد تشكل سلاحاً فتاكاً في ظروف معينة. كما أن إمكانية فرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية على الدول المتمردة على النظام العالمي أصبحت إحدى أبرز الأدوات التي يلجأ لها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في معالجة الخلافات الدبلوماسية الدولية. حان الوقت لاستخلاص أهم الدروس من تلك التجارب لتقييم فرص النجاح لأية جهود قادمة وتعزيزها من خلال التخطيط السليم والقيادة الموسعة والمشاركة الجماهيرية لمختلف أشكال حملات المقاطعة التي يمكن أن تقام بفرصة معقولة للنجاح. وفي سياق البحث عن توجهات جديدة تعيد للنضال الوطني الفلسطيني قدرته على إيذاء الخصم وبناء الثقافة الكفاحية الجماعية، من المفيد دراسة احتمالات اعتماد إستراتيجية مقاطعة فلسطينية وطنية لإسرائيل والتبعات والتأثيرات المحتملة لذلك في الأمدين المباشر والمتوسط، ضمن سيناريوهات مختلفة، تتغير أهداف وأشكال المقاطعة فيها بحسب الظروف المحيطة والقوى المشاركة.

.. كجزء من برنامج مقاومة شاملة

بالاستناد إلى الهدف الانفصالي الاقتصادي كسياق طويل المدى لإستراتيجية جديدة لإطلاق حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال الإسرائيلي، هذه بعض السيناريوهات المعقولة والمتميزة لإتباع توجهات "لتغيير الوضع القائم" من خلال تفعيل وتصعيد وتنسيق مبادرات المقاطعة لإسرائيل في السنوات القادمة. ونحاول هنا تنظيم النقاش والتوصيات بشأن كل مستوى من مستويات المقاطعة الممكنة بحسب العوامل الخارجية المحددة لها:

i. مواصلة التهدئة الحالية في غزة وعدم انجرار السلطة إلى انتفاضة 2015
بقاء الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي الحالي يحد من إمكانية النهوض بحملات مقاطعة مؤثرة ومنظمة، شعبية أو رسمية، خاصة بسبب الحصار الشديد الذي ما زال مفروضاً على قطاع غزة الذي لا يتموّن سوى من إسرائيل والقليل من الإنتاج الذي يستطيع اقتصاده المكبل الحفاظ عليه بعد حوالي عقد من الحصار والحرب والدمار. لكن هذا لا يمنع السلطة الفلسطينية من إقرار تصعيد تطبيق قانون 2010 خاصة بما يتعلق بإحياء "صندوق الكرامة" إلى جانب تطوير الحملات الطوعية الشعبية والدولية، وتطبيق تدريجي لسحب الأيدي العاملة الفلسطينية من المستوطنات، بالإضافة إلى تحضير رزمة من إجراءات الحماية للمنتجات الوطنية الزراعية والصناعية التحويلية والمعدنية والخدماتية بالاستناد إلى دراسات اقتصادية وقانونية ولوجستية. وإذا قررت م.ت.ف. استخدام سلاحها الدبلوماسي المتوفر للترويج لفرض عقوبات دولية في الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية على التجارة مع اقتصاد المستوطنات الإسرائيلية، وإذا امتنعت عن تصريحات تشكك بجدوى أو شرعية أعمال BDS الدولية، فإنها حتما ستجد آذاناً صاغية لدى الجمهور السياسي الأوروبي والعالمي، وحشد جماهيري فلسطيني يؤيد التحرك الرسمي. وضمن الظروف الراهنة فهذا الحد الأدنى هو ربما أبعد ما يمكن تصوره من تحول في استراتيجيات المقاطعة.

ii. إزالة آثار الانقسام الفلسطيني
لا نحتاج إلى خبير مختص ليؤكد على مدى الفائدة المحتملة على جميع الأصعدة الحياتية الفلسطينية من تحقيق المصالحة الوطنية وإزالة آثار الانقسام المدمر للمشروع الوطني والتحرري والتنموي الفلسطيني. واقتصادياً فإن مثل تلك التطورات يجب أن ينطوي على فتح فرص اندماج وتبادل اقتصادي بين الضفة والقطاع، وبين القطاع ومصر، في التخطيط التنموي الاستراتيجي في جميع مجالات البنية التحتية (الطاقة، الاتصالات، الموارد الطبيعية والاتصالات والمواصلات وغيرها من قطاعات الأمن القومي الاقتصادي). وهذا بدوره يمهد لبلورة استراتيجيات مقاطعة وطنية انتقائية ثم متدحرجة، بالتوازي مع "دفعة كبرى" للاستثمار في القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية، وحملة دبلوماسية لفتح المعابر التجارية الفلسطينية على الحدود مع الأردن ومع مصر، بالإضافة إلى إجبار إسرائيل (في محافل منظمة التجارة العالمية) على تطبيق اتفاقية تسهيل التجارة لعام 2013 على التدفقات التجارية من وإلى الأراضي الفلسطينية عبر الموانئ الإسرائيلية. وحتى دون التوجه في المرحلة الأولى إلى مواجهة تجارية شاملة مع إسرائيل، والاكتفاء بتطبيق قانون 2010 وبعض الإجراءات القطاعية الإدارية/ الموسمية الحمائية لتشجيع الإنتاج والاستهلاك المحلي، فإن من شأن إزالة آثار الانقسام توفير دفعة داخلية قوية للمضي في خطة المقاطعة والانفصال الاقتصادي وتعبئة الناس حولها.

iii. تغيير طبيعة العلاقة بين نظام الحكم والشعب
مما لا شك به أن ثقة المواطنين، بما توفره حكومتهم من خدمات وبما تعلنه القيادة من استراتيجيات، ليست بأعلى مستوياتها بعد 20 سنة من أوسلو والتفاوض السياسي الذي بات الجميع مقتنعاً بأنه فشل كمشروع تحرري ونجح كمشروع استعماري. كما وأن فعالية أجهزة السلطة المدنية (ما عدا الأمنية والمالية منها) ليست مقنعة لغالبية المواطنين، حتى أن بعضاً منهم يرون في السلطة وهما ومناصب وانتفاعا وتبذيرا. لذلك فإن النهوض بمقاطعة فعالة يشارك فيها المواطن والتاجر والمزارع والصناعي والموظف والشرطي والوزير يقتضي ضمناً تغييراً في أداء السلطة والقيادة الفلسطينية، وفي رؤية المواطن الشكاك تجاهها. والعكس كذلك صحيح: إن تصعيد الهبات الشعبية والحملات المتواصلة تزيد الضغط على النظام السياسي للتجاوب للرغبات والمطالب الجماهيرية الواسعة، على افتراض أنه نظام ديموقراطي تسيره مواقف غالبية الجماهير، كما أنها تشكل أداة رقابة شعبية على التجار "المنتفعين" والمهربين. ومن المؤكد أن تغييراً إيجابياً في علاقة المواطن بالحكم من خلال تجديد الأخير وإحياء روحه النضالية التي تراجعت بعد إخفاقات انتفاضة الأقصى وسنوات الحكم و "بناء الدولة".. يعتبر من مقومات نجاح أية حملات مقاطعة شاملة وانفصالية أوسع، وهي ستتطلب عدة سنوات من التضحيات المادية والترويج والإدارة النشطة والمنفتحة على المشاركة الجماهيرية، والمزودة بالموارد اللازمة لإحداث تغيير جوهري في العلاقة مع المحتل، بل في إمكانية التحرر من قبضته الاقتصادية على الأقل.

iv. تصعيد أعمال الانتفاضة الشعبية ونشوب مواجهات واسعة النطاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي
مع أننا لم ندخل هنا بجميع الوسائل المتاحة لإسرائيل لمعاقبة الشعب والاقتصاد الفلسطينيين في حال تمّ توظيف سلاح المقاطعة بشكل مؤذٍ، خاصة إذا كانت مخالفة صريحة لبنود اتفاقية باريس (بالالتزام بعدم اتخاذ إجراءات قد تضر تجارة الطرف الآخر)، فإن الأسلحة المالية والتجارية المتوفرة لدى إسرائيل عديدة (من وقف تحويل المقاصة، إلى فرض مقاطعات مضادة أو عرقلة التجارة الفلسطينية العابرة لإسرائيل مع الأسواق الأخرى). وفي حال تصعيد المواجهات الدائرة منذ تشرين الأول /أكتوبر 2015، أو نشوب مواجهات بين قطاع غزة وإسرائيل، فإن ذلك سيكون له أثر سلبي مباشر في تعقيد فرص تخطيط وتنفيذ مقاطعات انتقائية أو قطاعية، وخلخلة أداء المؤسسات الرسمية من جهة، وتعظيم الخسائر الاقتصادية جراء الإجراءات الإسرائيلية الانتقامية من جهة أخرى. بينما في المدى المتوسط، فإن روح التضامن والتكافل الوطني ستنتشر، كما أن التعبئة العامة المتوقعة في حال تدهور الأوضاع أمنياً أو تعرض مجتمعات محددة للاعتداء (القدس، غزة، المخيمات)، ستخلق بيئة حاضنة ممتازة لتجديد المبادرات الشعبية للمقاطعة ولدعم المنتج الوطني وإحلاله بدل الواردات من إسرائيل، كما ستشكل عنصر ضغط على السلطة لتقوم بدورها (المحدود أو الأوسع طموحاً) بالإضافة إلى تشكيلها مبرراً جديداً للمطالبة بتوسيع رقعة المقاطعة الدولية للاحتلال الإسرائيلي وعزل إسرائيل دولياً.

إذا اعتمدت الاستراتيجيات المقترحة أعلاه على مختلف الأصعدة، من أبسطها إلى أكثرها شمولاً، سيتطلب ذلك توزيعا متفقا عليه للأدوار وتنسيق الحملات، في سياق سياساتي يخفف قدر الإمكان من الخسائر الاقتصادية ويعظِّم من المكاسب المحتملة، السياسية والتنموية، في الميزان الاقتصادي السياسي للصراع مع الاحتلال. ودون الإقرار بتلك المعادلة مسبقاً فلن يتحول سلاح المقاطعة إلى أكثر من مصدر إزعاج لإسرائيل. أي أنه يجب على القيادة الفلسطينية قبل غيرها من القوى الفاعلة الاستدراك بأن النضال التحرري يتطلب تضحيات مادية مؤقتة مقابل إنجازات سياسية (مواجهة إسرائيل دون استخدام العنف) واقتصادية (بناء قدرة إنتاجية لا بد منها لضمان الأمن القومي الاقتصادي). وإذا التزمت القيادة الفلسطينية بهذا "العقد الاجتماعي" الجديد، فإن ذلك سيتلقى بالتأكيد استعداداً جماهيرياً واسعاً للانخراط بالمقاطعة لكي تصبح مؤثرة، وتعاوناً من القطاع الخاص مما يضطره لمعاودة حساباته التجارية الضيقة بخصوص العلاقة مع إسرائيل.

• مستخلص من ورقة موقف قدمت في مؤتمر "التوجهات الفلسطينية لتغيير الوضع الراهن"، نظمه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" في رام الله، 29/2/2016.

للكاتب نفسه