تطبيع القمع

في كانون الأول/ ديسمبر 1985، وقف الجنرال فيدالا وثمانية من كبار مساعديه أمام المحكمة في الأرجنتين بتهم التعذيب والقتل والخطف، وهي الأفعال التي وقعت خلال فترة حكمه كرئيس للأرجنتين من 1976 إلى 1981. قبل تاريخ المحاكمة بسنوات، كان الجنرال - الرئيس يحظى بدعم شعبي غير مسبوق بعد أن أطاح النظام السابق، بدعوى إنقاذ البلاد من التردي الاقتصادي ومحاربة إرهاب الجماعات المسلحة. خلال فترة حكمه وحتى انتهاء
2015-11-05

رباب المهدي

استاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية بالقاهرة


شارك

في كانون الأول/ ديسمبر 1985، وقف الجنرال فيدالا وثمانية من كبار مساعديه أمام المحكمة في الأرجنتين بتهم التعذيب والقتل والخطف، وهي الأفعال التي وقعت خلال فترة حكمه كرئيس للأرجنتين من 1976 إلى 1981. قبل تاريخ المحاكمة بسنوات، كان الجنرال - الرئيس يحظى بدعم شعبي غير مسبوق بعد أن أطاح النظام السابق، بدعوى إنقاذ البلاد من التردي الاقتصادي ومحاربة إرهاب الجماعات المسلحة. خلال فترة حكمه وحتى انتهاء الحكم العسكري في الأرجنتين عام 1983، كان مئات الآلاف قد تعرضوا للقتل أو الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري.
في مصر، رصدت التقارير الحقوقية خلال الشهور المنصرمة من عام 2015 أكثر من ألف حالة إخفاء قسري لمواطنين وواحد وعشرون حالة تصفية أو قتل خارج القانون أدت لمقتل 45 مواطناً في شقق سكنية أو أراض زراعية من دون محاكمة (ولا يشمل هذا العدد من تمت تصفيتهم في مواجهات ما يسمى الحرب على الإرهاب في سيناء). في جميع هذه الحالات، نشرت التقارير الحقوقية وحتى بعض المنصات الإعلامية أسماء للمختفين وصوراً للقتلى ولم تهتم أجهزة الدولة بالإجابة أو حتى بنفي هذه التهم عن نفسها.
لماذا يلجأ نظام تكتظ معتقلاته بأكثر من 40 ألف سجين سياسي، ويصدر رئيسه القانون تلو الآخر لتقنين قمع الحريات من دون رقابة أو محاسبة، ويتحول قضاؤه ماكينة لإصدار أحكام الإعدام على المئات في أعلى معدلات تاريخية من دون أدنى ضمانة لمحاكمة عادلة.. لماذا يلجأ مثل هذا النظام لاستخدام الإخفاء القسري أو التصفية خارج القانون، وهو يملك كل هذه الأدوات الأخرى شبه القانونية؟ الإجابة: لتطبيع القمع.
على خلفية الانقلاب، قام الجنرال فيدالا ونظامه في الأرجنتين بإطلاق ما أسموه "عملية إعادة التنظيم الوطني" التي عُرفت فيما بعد باسم "الحرب القذرة". كانت هذه العملية تقوم على استخدام خطاب إعلامي يشيطن المعارضين ويصِمهم بأنهم خارجون على الإجماع الوطني ويستهدفون قيم المجتمع الأرجنتيني بدعم من الخارج، وأنهم جزء من مؤامرة شيوعية تسعى لتقويض الدولة عن طريق العنف وزعزعة الأمن وانهيار الاقتصاد. وعلى خلفية التدهور الاقتصادي ووجود جماعات مسلحة مناهضة للحكم وفوضى، كان لهذا الخطاب صدى شعبي كبير، وصاحبته ليس فقط حملات اعتقال واسعة ولكن أيضاً أكبر حملة للإخفاء القسري عرفها التاريخ. اختطاف المعارضين وغيابهم بحيث لا يُعرف شيء عنهم. حتى أن التقديرات إلى الآن ما زالت غير محددة وتتراوح بين 7 آلاف و30 آلفاً. هذا إلى جانب اقتحام بعض البيوت التي تعقد فيها اجتماعات لمعارضين وقتل من فيها بدعاوى مقاومة السلطات. استخدام آليات القمع خارج إطار القانون كان جزءاً من "عملية إعادة التنظيم"، ليس فقط لإشاعة الخوف والترهيب على نطاق عام، وأوسع مما يجري داخل المعتقلات، ولكن لإشراك المجتمع في عملية القمع ليس كمتفرج ولكن كفاعل وشريك.
في مصر بدأ هذا النمط مع مذبحة رابعة في آب/أغسطس 2013. أن يتم القتل بشكل جماعي في وضح النهار داخل حي سكني في قلب العاصمة، لم يجعل فقط من قام بالقتل هو المذنب، ولكنه جعل المجتمع ككل شريكاً ضمنياً. فكانت وما زالت ردود الأفعال تتراوح بين مؤيد ومبرر للمذبحة بشراسة، وبين معتذر عنها متبرئ منها. وفي كل الأحوال، كان التفويض الذي طلبه المشير عبد الفتاح السيسي قبل المذبحة بأقل من شهر جزءاً لا يتجزأ من عملية إشراك المجتمع وتوريطه في القرار حتى وإن كان لم ينفذه بيديه. واستمرت العملية بحشد المجتمع للعمل كمخبرين للنظام والإعلان عن أرقام للإبلاغ عن جار أو صديق أو حتى فرد من العائلة يُشك في انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين او تعاطفه معها. الفكرة هنا هي الخروج بالقمع من وراء الأبواب المغلقة داخل الزنازين وفي أروقة المحاكم، واستغلاله كآلية لإعادة تشكيل المجال العام، ليشمل ليس فقط من يقومون بالقمع من داخل أجهزة النظام ولا حتى من يطولهم القمع من المعارضين، ولكن المجتمع ككل الذي يصبح شاهداً وبمعنى ما متواطئاً مع القمع، فتتكون الحيل الدفاعية، سواء كانت بالمنافحة عن مثل هذه الممارسات أو بتبريرها، أو بالإنكار أو بالانسحاب وعدم الاهتمام بالشأن العام.
تاريخياً، استخدام هذه الآليات ليس جديداً. فمن محاكم التفتيش، الى إحراق الساحرات في القرون الوسطى وحتى الإعدام في الساحات العامة، فإن استخدام العنف بشكل معلن في المجال العام يظل آلية ناجحة ليس فقط للترويع ولكن أيضاً لمداعبة رغبات بدائية في العنف والانتقام والانتصار حتى وإن كان زائفاً. فحينما وصف جورج أورويل في روايتة 1984 مشاهد التشجيع الهستيري لإعدام ما يسمى "الأعداء" في شوارع مدينته التي تئن تحت وطأة نظام شمولي، كان يصف الحالة الإنسانية في أدنى صورها، وبعد تجريدها من كل وسائل مقاومة الظلم حتى لا تملك إلا أن تكون مشجعة له كحيلة دفاع أخيرة عن النفس ضد الجنون أو الموت.
القائمون على النظام المصري لم يقرأوا أورويل على الارجح، أو أنهم لا يعرفون عن الأرجنتين أكثر من أسماء بعض لاعبي كرة القدم، ولكن الديكتاتوريات عموما تشرب من المعين نفسه وتستخدم المصادر نفسها وتوارد الخواطر سببه تشابه الظروف. فعلى خلفية الحراك الجماهيري وتردي الأوضاع العامة سواء في الأرجنتين في السبعينيات من القرن الماضي أو في مصر بعد ثورة يناير، تصبح أدوات القمع التقليدية غير كافية للسيطرة على مجتمع عرف الخروج على حاكميه فيما هو ما زال يعاني من الظلمات نفسها التي دفعته للخروج، وبالتالي تصبح هناك ضرورة لتدجين المجتمع ككل. فإذا كان هذا غير وارد عن طريق سجن جميع أفراده، يكون الطريق الأمثل هو جعله متواطئاً أو شريكاً أصغر، وهي عملية إحلال وإبدال واسعة.
نجح الجنرال فيدالا في تطبيع القمع وترهيب المجتمع الى أن تمّ سحق المعارضة، وفي الوقت نفسه واجه الانتقادات الدولية تجاه نظامه على أنها انتقادات للأرجنتين وشعبها، وهو استأجر وكالة علاقات عامة دولية للرد على سجل الانتهاكات بحملة تحت شعار "الأرجنتينيون مستقيمون وإنسانيون" وكأن انتهاكات نظامه هي فعل جماعي مردود عليه من شعب الأرجنتين ككل، وليس من أجهزته. وفي الوقت نفسه نجح النظام في تنظيم كأس العالم لكرة القدم في عام 1978 وسوّق لهذا الحدث على أنه انتصار عظيم، مثله في ذلك مثل النظام المصري الحالي في التعامل مع مشروع قناة السويس الجديدة "هدية مصر للعالم"، كما سُميت. ولكن في وسط الترويع والترغيب، ظهرت ثلاث عشرة سيدة من أمهات المختفين قسرياً وبدأن تجمعاً أسبوعياً في ميدان اسمه "مايو"، فأُطلق عليهن "أمهات ميدان مايو" بدلاً من أمهات المختفين لأن الاختفاء القسري لم يكن معترفاً به بعد. وعلى الرغم من قلة عددهن، وعلى الرغم من تعرض ثلاث منهن للإخفاء فيما بعد، إلا أن وقفاتهن كسرت حاجز الصمت والإيهام. فبوجودهن لم يعد التواطؤ هو الخيار الوحيد، ولم يعد التطبيع مع القمع هو السبيل الأوحد للتعامل مع جنون اللحظة. بدأن في عام 1977، ولم يسقط النظام حتى عام 1983، بعد هزيمته في حرب فوكلاند وظهور مجموعات أخرى تطالب بالحرية ولا ترى في نفسها جزءاً من النظام ولا ترى أن النظام هو الوطن أو الشعب. ثلاث عشرة سيدة بدأن مساراً طويلاً وشاقاً من أجل أولادهن، فساهمن في إيقاظ شعب جعله الديكتاتور شريكاً في المحافظة على نظامه.. وإن لم يكن له فيه لا ناقة ولا جمل.

للكاتب نفسه

عن كسر الإيهام ومحاربة الأوهام

أسس الكاتب والمخرج المسرحي الألماني برتولد بريخت لما سُمّي "كسر الجدار الرابع"، أو كسر الإيهام، وهي المدرسة التي تقوم على إلغاء حالة الفصل بين العرض الفني والجمهور، وتجعل الأخير مشاركاً...

بعد خمس سنوات.. هل فشلت الثورة؟

مزيج من الغضب المكتوم و الحسرة والملل يغلف المدينة التي عرفْتها "قاهرة" وقاسية، ولكن نابضة بالحياة. على مدى خمس سنوات تغيرت المدينة - على الأقل في إدراكي ومخيلتي- ليس للأسوأ...