هل تضاء بيوت القاهرة وعمان بالغاز الإسرائيلي؟

تقولُ القصّة إنّ اكتشافات الغاز البحريّة الإسرائيليّة لم تكن مُمكنة بدون المُغامرة الجريئة التي أقدم عليها مُحامٍ إسرائيليّ شاب يُدعى جدعون تادمور في التسعينيات. بدأ هذا حياته العمليّة كمستثمرٍ عقاريّ، لكنّه سرعان ما أبدى شغفاً خاصّاً بتوسيع أعماله لتشمل التنقيب عن الموارد الطبيعيّة في السواحل الإسرائيليّة. لم تكن مُغامرة رجل الأعمال الطامح للمزيد من الربح والمُستفيد بشكلٍ أساسيّ من احتلال
2015-05-28

رامي خريس

باحث إقتصادي من فلسطين


شارك
عزّة الشريف-سوريا

تقولُ القصّة إنّ اكتشافات الغاز البحريّة الإسرائيليّة لم تكن مُمكنة بدون المُغامرة الجريئة التي أقدم عليها مُحامٍ إسرائيليّ شاب يُدعى جدعون تادمور في التسعينيات. بدأ هذا حياته العمليّة كمستثمرٍ عقاريّ، لكنّه سرعان ما أبدى شغفاً خاصّاً بتوسيع أعماله لتشمل التنقيب عن الموارد الطبيعيّة في السواحل الإسرائيليّة. لم تكن مُغامرة رجل الأعمال الطامح للمزيد من الربح والمُستفيد بشكلٍ أساسيّ من احتلال دولته مياه شرق المتوسّط مدفوعة بنبوءة خاصّة، بل بإلمامٍ جيّد بقواعد الصناعة النفطيّة وقوانين عملها. في الاقتصاد السياسيّ لصناعة النفط والغاز، لا يكونُ مُهمّاً معرفة الحدود السياسيّة القائمة بين الدول فحسب، بل وأيضاً، تلك الحدود الجيولوجيّة التي تكوّنت في طبقات الأرض عبر ملايين السنين.
تشتركُ المنطقة البحريّة التي تمتدّ من سواحل فلسطين مروراً بشرق المتوسّط وصولاً إلى جزيرة قُبرص في حوضٍ جيولوجيّ واحد اسمه "الشرق"، وهو يُغطّي مساحة مائيّة تبلغ 83 ألف كم²، وتُقدَّر احتياطيّاته المُحتملة من الغاز بـ 122 تريليون قدمٍ مُكعّب. كانت معرفة جدعون تادمور لهذا الدرس الجيولوجي تجعله يستقبل أخبار الاكتشافات الغازيّة في السواحل المصريّة مُنتصف التسعينيات بحبورٍ شديد، وتمنحه الشجاعة لمُباشرة أعمال التنقيب قُبالة سواحل حيفا وعسقلان. لكنّ الشجاعة وحدها لم تكن كافية للولوج إلى طبقات الأرض الصخريّة واستخراج الغاز من أعماق البحار، حيث تتطلّب عمليّات التنقيب تكنولوجيا خاصّة ومُتقدّمة للتغلّب على الشروط الفنيّة والجيولوجيّة التي تفرضها البيئة البحريّة.
افتقار إسرائيل لهذه التكنولوجيا، علاوة على خبرتها المُتواضعة في التنقيب عن الموارد الطبيعيّة، دفعا تادمور للبحث عن شريكٍ أجنبي سرعان ما وجده في شركة أميركيّة من تكساس تُدعى "نوبل إنيرجي". في العام 1999 نجحت شركة "أفنير" التي يُديرها تادمور مع شريكتها الأميركيّة في اكتشاف حقل "نوعاه" في سواحل عسقلان، لكنّ احتياطيّات الغاز في الحقل كانت مُتواضعة. ولم يمضِ عام واحدٌ حّتى اكتشفتْ الشركتان حقل "ماري بي" الذي دشّن باكورة صناعة الغاز الإسرائيليّة حين وُضع في الإنتاج عام 2004، مُسهماً على مدار عقدٍ تقريباً في تغطية ما يزيد عن 40 في المئة من احتياجات إسرائيل من الغاز. لكنّ الدفعة المُذهلة من الاكتشافات جاءت في أواخر العقد الأوّل من الألفيّة الجديدة حين اُكتشف حقل "تامار" عام 2009 باحتياطيّات تبلغُ 10 تريليون قدم مُكعّب، قبل أن يُكتشف في العام 2010 حقلُ "الليفياثان" الضخم الذي عُدَّ يومها أكبر اكتشاف غازيّ بحري في العالم خلال العقد السابق على اكتشافه، باحتياطيّات تبلغُ 18 تريليون قدمٍ مُكعّب.
يقفُ تادمور وشركاؤه اليوم على رأس مجموعة استثماريّة تُدير الحقلين الكبيرين اللذين تقول التقديرات بأنّهما سيعودان بحوالي 70 مليار دولار على الخزينة الإسرائيليّة خلال العقدين القادمين، وأنّهما سيُغطّيان احتياجات إسرائيل من الغاز لأربعة عقود، وسيُغيّران، ربما، من خريطة إمدادات الطاقة في شرق المتوسّط.

كيف يختلفُ الغاز؟

يتمتّع الغاز بمجموعة من المزايا الخاصّة التي تجعل منه مورد طاقة ذا قيمة استثنائيّة لأيّ بلد يكتشفه بكميّات تجاريّة، كما حصل مع إسرائيل. فالغازُ نظيفٌ وآمن، تقلّ انبعاثات الكربون الناجمة عن احتراقه بـ 30 في المئة عن تلك المُنبعثة من احتراق النفط. وهو أيضا سهل النقل، ويُمكن تعميم استخدامه في كلّ مرافق الاقتصاد بسهولة نسبيّة إذا توافرت بنية تحتيّة جيّدة من شبكات التوزيع. لكنّ ميزته الحاسمة تتمثّل في كونه مصدراً رخيصاً لتوليد الكهرباء، وهو ما يجعل توفّره عاملا حيويّاً في عمليّة تشييد بنيّة تحتيّة مثاليّة لصناعات الألمنيوم والصلب والاسمنت والأسمدة وغيرها، ومنحها مزايا تنافسيّة في التصدير نظراً لاعتمادها الكثيف على الكهرباء (حين يُصدّر بلدٌ ما الألمنيوم فإنّه يُصدّر الكهرباء فعليّا لأنّ الكهرباء تُمثّل حوالى 40 في المئة من هيكل تكاليف صناعته).
لكن، إذا كان الغازُ بحدّ ذاته، كمادة عضويّة مُختزنة في باطن الأرض، يحمل كلّ هذه المزايا، فإنّ عمليّة استخراجه ومُعالجته وتشييد المرافق الخاصّة بتصديره مثل أنابيب النقل والناقلات البحريّة، تنطوي على مخاطر كبيرة وتعقيدات جمّة تتسبّب بالكثير من المتاعب للاقتصاديّين الذين يرسمون سياسات الطاقة وخبراء الصناعة والمستثمرين فيها على السواء. يُمكن إرجاع هذه التعقيدات إلى ثلاثة عوامل مُتداخلة. الأوّل طبيعة المشروع الغازيّ نفسه. إذ تتطلّب عمليّات الحفر واختراق الصخور بعمق آلاف الأمتار، وخاصّة تحت سطح البحر، تكنولوجيا مُتقدّمة وأنظمة رقابة ومرافق إنتاجيّة معقدة، وهو ما يجعل تكاليفه الاستثماريّة مُرتفعة نسبيّا (تبلغ تكاليف تطوير المرحلة الأولى من حقل "ليفياثان" 6 مليارات دولار). الثاني أنّ مُعالجة الغاز لتجهيزه للتصدير ــ وهي عمليّة تقوم بالأساس على تحويله من حالته الغازيّة إلى مادة سائلة عبر تبريده إلى 162 درجة مئويّة تحت الصفر ــ تتطلّب تقنيّات لا تمتلكها في الغالب إلا الشركات الكبيرة ذات الموارد الماليّة والخبرة الطويلة في هذا المجال. الثالث هو أنّ سيناريوهات تصدير الغاز سرعان ما تفرض على صنّاع القرار مجموعة من الهواجس الجيو ــ سياسيّة التي تُثير أسئلة مُركّبة من نوع: إلى أيّ دولة سنصدّر الغاز؟ أيّ خطوطٍ ستقطعها خطوط النقل؟ هل ستكون هذه الخطوط آمنة؟ هل تربطنا مع الدول التي سيمرّ فيها الغاز مصالح مُشتركة وعلاقات وديّة؟
تجتمعُ هذه العوامل لتجعل من هيكل تسعير الغاز مُختلفا عن موارد الطاقة الأخرى، وعلى رأسها النفط. فالغازُ لا يحظى بسوقٍ دولي بالمعنى المتعارف عليه، وعمليّات بيعه تتمّ بناءً على عقودٍ طويلة الأجل، بحيث تحمل كلّ صفقة سعراً خاصّاً يعكس الوزن النسبي للتعقيدات آنفة الذكر ونوعيّة الإجابات المُقدّمة عليها. ويعني هذا بإيجازٍ مُقتضب، أنّ المخاطر المترتّبة على المغامرة بدخول صناعة الغاز وتصديره تتطلّب وجود تصوّرات عمليّة مُسبقة حول كلّ التحدّيات التقنيّة والتجاريّة والسياسيّة المرتبطة بهذه العمليّة.

الهواجس الجيوستراتيجيّة الإسرائيليّة

على الرغم من أنّ لجنة "تزيماح" الحكوميّة التي كُلّفتْ بصياغة سياسة الطاقة الأنسب لإسرائيل أوصتْ بتصدير 40 في المئة من احتياطيّات الغاز الإسرائيليّة تقريبا، إلا أنّ الشركات التي تُدير حقول الغاز الإسرائيلي تُواجه اليوم مُشكلاتٍ جديّة في تحويل سيناريو التصدير هذا إلى واقع حقيقي. تكمن جذور هذه المشكلات في طبيعة الظروف الجيو ــ سياسيّة التي تعمل فيها صناعة الغاز الإسرائيليّة، وهي الظروف التي تجعل من سياسة الطاقة الإسرائيليّة هشّة وغير مُستقرّة، ما يعكس نفسه بشكلٍ مُباشر على البيئة التجاريّة التي تعمل فيها هذه الشركات ويُؤثّر في قدرتها على استقطاب الاستثمار.
في ظلّ عجزها عن تمويل مرافق تسييل الغاز، دخلت هذه الشركات في مفاوضاتٍ مع شركات عملاقة مثل "غازبروم" الروسيّة و "وودسايد" الأستراليّة اللتين تمتلكان الموارد الماليّة والخبرة في هذا النوع من المشروعات، مُقابل حصولهما على حصّة تجاريّة مُعتبرة في حقول الغاز الإسرائيليّة. لكنّ هذه المفاوضات وصلت إلى طريقٍ مسدود بفعل المخاطر العالية للبيئة القانونيّة والسياسيّة الإسرائيليّة. وقد جاء قرار لجنة مُحاربة الاحتكار الإسرائيليّة مؤخراً، والقاضي بفكّ احتكار تحالف الشركات التي تدير حقول الغاز وإجبارها على التخلّي عن بعض حصصها في هذه الحقول لمصلحة منافسين جُدد، ليزيد من حالة عدم اليقين بشأن صناعة الغاز في إسرائيل، وليرفع من منسوب الشكوك لدى المستثمرين الأجانب حول مدى استقرار هذه الصناعة، الأمر الذي سيؤدّي في المحصّلة النهائيّة إلى وضع المزيد من العراقيل في مواجهة خطط إسرائيل لتصدير غازها، وتحديداً من حقل "الليفياثان" الضخم الذي تقول التقديرات إنّ إنتاجه سيتأخر لبعد الموعد الذي كان ينبغي أن يبدأ فيه عام 2017.

أهميّة سوق شرق المتوسّط

من هُنا تأتي الأهميّة الإستراتيجيّة لأسواق شرق المتوسّط مثل فلسطين والأردن ومصر بالنسبة لإسرائيل، فهي تُوفّر حلّاً نموذجيّاً لمشكلات صناعة الغاز الإسرائيليّة بسبب مجموعة من الاعتبارات. الأوّل أنّ هذه الأسواق صغيرة، وهو ما يعني أنّ إسرائيل تستطيع أن تُصدِّر إليها الغاز بدون أن تتأثّر احتياطيّاتها التي تدّخرها بشكل أساسي للأسواق الأوروبيّة والآسيويّة (لا يزيد استهلاك الأردن والأراضي الفلسطينيّة على 5 بلايين قدم مُكعّب من الغاز سنويّا، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بحجم الاحتياطيّات الإسرائيليّة). الثاني أنّ تكاليف نقل الغاز إلى هذه المناطق الأقرب جُغرافيّا عبر أنابيب النقل ستكون أقلّ من إنشاء مرافق التسييل التي يتطلّبها التصدير للأسواق البعيدة (السوق المصري يبدو مثاليّاً من هذه الناحية لوجود خطوط أنابيب قائمة أصلا ووجود محطّة تسييل في دمياط بالقرب من شاطئ البحر المتوسّط). الثالث، وهو الأهم، أنّ دخول "اتّفاقيّات النيات" التي وقعتها إسرائيل مع دول شرق المتوسّط مُؤخّراً حيّز التنفيذ يعني أن الشركات الإسرائيليّة التي تُدير حقول الغاز الإسرائيليّة ستكون قادرة على الحصول على التمويل اللازم لمشروعات التسييل الكبيرة، إمّا بشكلٍ مُباشر أو من خلال القروض التي ستحصل عليها بضمان هذه الاتّفاقيّات، ما يعني أنّ سوق شرق المتوسّط ستكون بمثابة جسر تعبره إسرائيل لأسواق أوروبا وآسيا في المُحصّلة النهائيّة. ولعلّ المزايا التي يُقدّمها هذا السوق لإسرائيل هو ما يدفع الديبلوماسيّة الأميركيّة ممثّلة بجون كيري للضغط على دول المنطقة لاستيراد الغاز من إسرائيل (تذكر دراسة حديثة للخبير النفطي وليد خدّوري أنّ شركة "نوبل إنيرجي" عيّنت الرئيس السابق بيل كلينتون للدفاع عن مصالحها أمام الكونغرس والبيت الأبيض، وهو ما يشي بطبيعة الدور الأميركي الساعي لتأهيل إسرائيل للتحوّل إلى مركز للطاقة في شرق المتوسّط).

ما يلي الغاز!

يعني نجاح إسرائيل في التحوّل إلى مركز لتصدير الغاز في شرق المتوسّط أنّ المنطقة ستغدو أكثر اعتماداً عليها لتغطية احتياجاتها من الطاقة. وليس هذا فحسب، بل إنّ قدرة إسرائيل على الاستفادة من الغاز لتوطين الصناعات التي تعتمد على الكهرباء وتطويرها، قد يعني أنّها ستتمكّن مستقبلا من تصدير سلعٍ أخرى للمنطقة، فيكون الغاز، في هذه الحالة، مُجرّد معبر لتعميق النفوذ الاقتصاديّ الإسرائيلي ودفع إسرائيل إلى المزيد من التوسّع.
الذين لا يريدون رؤية هذا السيناريو وهو يتحقّق ربما سيكون عليهم أن يجدوا ضالتهم في الاقتصاد كما وجد جدعون تادمور ضالته في الجيولوجيا. يقول الاقتصاد أنّ السوق أوسع وأكبر من إسرائيل بكثير، وأنّ فرص الحصول على الغاز أصبحت أكثر سهولة من بلدان كالجزائر وقبرص بالنسبة لمصر، وكقطر وإيران بالنسبة للأردن. ففي عالم التجارة والبيع والشراء لا شيء مُستحيلا، والبدائل موجودة دائما إذا توافرت الإرادة المصقولة بالمعرفة بأحوال العالم، والاستعداد لركوب المُخاطرة للحصول على صفقاتٍ أفضل بتكاليف سياسيّة واقتصاديّة أقل.. وتجنّب اليوم الذي تكون فيه منازل القاهرة وعمّان مُضاءة بالكهرباء المُولّدة بالغاز الإسرائيلي. 

للكاتب نفسه

اتّفاق "أوبك": فتّش عن السعوديّة

رامي خريس 2016-12-15

السعودية وقرار "أوبك" خفض إنتاج خام النفط.. القرار وافق على استثناء إيران، وهي كانت العقبة أمام إقراره، وكذلك دول من خارج أوبك. وهو أثار موجة ارتياح كبيرة في الأسواق العالمية....

غزّة: الوجوه المُختلفة للحصار

رامي خريس 2016-07-27

حين غادرتُ غزّة في العام 2011، وكان الحصار الإسرائيليّ قد أرخى بغمامة سوداء ثقيلة على الأحوال المعيشيّة والقدرة الشرائيّة للناس لبضع سنواتٍ آنذاك، كان العديد من المشاريع الصغيرة كمحال البقالة...