دارفور.. الانتقال من "الحرب" إلى "آثارِها"!

هناك خطة لدى طرف داخل الحكومة، لتجفيف معسكرات النزوح بجعلها جحيماً لا يُطاق. وهذا ما حدث قبل أيام بمدينة "الجنينة" بعد الهجوم على معسكر "كريندق" وحرق أجزاء واسعة منه، ما خلّف موجة نزوح من معسكر النزوح. وهذه خطة حكومة البشير نفسها التي كانت تهدف إلى إنهاء مظاهر الحرب، دون دفع استحقاقات الأمن الحقيقية على الأرض.
2021-01-24

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
هند عبد الحميد - السودان

فشل مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى إعلان مشترك بشأن تجدد العنف في إقليم دارفور السوداني، بعد خروج بعثة حفظ السلام المشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة ("يوناميد") منه. عاشت مدينة "الجنينة" غربي إقليم دارفور ساعات متواصلة من الدم والنار في منتصف كانون الثاني/ يناير، راح ضحيتها أكثر من 150 قتيلاً وفقاً للجنة الأطباء، وخلفت جرحى وموجات نزوح. وكما جرت العادة، فالأحداث في هذا الإقليم المأزوم تبدأ بجريمة جنائية، ثم سرعان ما تأخذ الطابعَ القبلي نتيجة التحشيد الذي يصاحب مثل هذه الجرائم، فتتحول مشاجرةٌ بين اثنين إلى اقتتال قبلي، وانفلات أمني يستمر لأيام، ثم تهدأ الأوضاع، ثم تنفجر في مكان آخر مع تكرار التفاصيل ذاتها، وبغياب شبه كامل لمظهر الدولة. ولا تتدخل القوات النظامية إلا بعد فيضان الدم.

ما كان مثار تساؤل في هذه الحادثة، هو أن التحشيد جرى على مسمع ومرأى الجميع، لكن السلطات التزمت الحياد حتى وقوع الكارثة، مع أنه كان بالإمكان التدخل. هذه الحادثة ليست بجديدة في إقليم دارفور الذي ودّع الحرب منذ سنوات، لكنه يرزح تحت آثارها الفتاكة منذ توقف العمليات العسكرية بين الحكومة والحركات المتمردة، حيث انتقل القتال ليصبح بين المكونات القبلية للإقليم، والتي كان بعضها يقاتل مع الحكومة المركزية في حربها ضد الحركات المتمردة منذ 2003، وظلت هذه المجموعات محتفظةً بامتيازاتها التي حصلت عليها نتيجة تحالفها مع الحكومة المركزية وعلى رأسها التسليح. وأعلنت الحكومة السابقة مراراً حملات لجمع السلاح من أيدي القبائل، لكنها لم تفلح في ذلك على الدوام.

إن كان ثمة جديدٌ في ما حدث في مدينة "الجنينة" مؤخراً، فهو أن الحادث يأتي بعد خروج بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لحفظ السلام (يوناميد)، إذ قرر مجلس الأمن في كانون الأول/ ديسمبر الماضي إنهاء مهام البعثة المشتركة بعد أكثر من 13 عاماً من بدء عملياتها في الإقليم، ووافق المجلس بالإجماع على إنهاء مهام "يوناميد" في خطة تستغرق ستة أشهر، ليتم السحب الكامل للبعثة بنهاية حزيران/ يونيو المقبل.

وعلى الرغم من احتجاجات نازحين بمعسكرات دارفور، المطالِبةِ بتمديد بقاء "يوناميد"، وهي أيضاً مطلب بعض الحركات المسلحة، إلا أن قرار مجلس الأمن أتى وفقاً لرغبة الحكومة الانتقالية، وعلى نحو خاص المكوّن العسكري داخل الحكومة. ظاهرياً، يبدو إنهاء مهام البعثة منطقياً لجهة أن الحرب توقفت، وأن النظام الذي كان يقود الحرب في الإقليم سقط بثورة شعبية، وأن اتفاق سلام بين الحكومة الانتقالية ومعظم حركات دارفور تمّ توقيعه في تشرين/ أكتوبر الماضي بعاصمة جنوب السودان جوبا. هذه التغييرات التي حدثت ينبغي بلا شك أن تفرض وضعاً جديداً، غير أن الواقع أكثرُ تعقيداً.

ما كان مثار تساؤل في هذه الحادثة، هو أن التحشيد جرى على مسمع ومرأى الجميع، لكن السلطات التزمت الحياد حتى وقوع الكارثة، مع أنه كان بالإمكان التدخل. ويقدر أكاديميون من الإقليم حجم السلاح المنتشر في الإقليم بين أيدي القبائل العربية بـ 50 مليون قطعة متعددة النوع، غالبيتها قدمته الحكومات المركزية لتلك القبائل.

على أقل تقدير، فإن وجود بعثة أممية كفيل بتفعيل وضع المراقبة المستمر حتى وإن لم يتوقف القتال، وحتى وإن كانت البعثة لا تملك صلاحيات التدخل المباشر لوقف الاقتتال، لكن وجودها بالنسبة لكثيرين وعلى وجه خاص النازحين، كان يمثل حداً أدنى من الحماية، كشاهدة على ما يجري. ومن المنتظر أن تحل قوات وطنية مشتركة محل القوات الأممية وفقاً لما نص عليه "اتفاق سلام جوبا" الذي قرر نشر قوة مشتركة من القوات الحكومية، وقوات الحركات المسلحة قوامها 12 ألف جندي. وهناك مقترح أن يرتفع العدد إلى 20 ألف جندي، على أن تكون الغالبية من القوات النظامية. لكن انعدام الثقة بين المواطنين في مناطق الصراعات، والقوات النظامية التي كان بعضها طرفاً رئيسياً في القتال خلال سنوات الحرب، يجعل هواجسَ ومحاذير المواطنين قائمةً بل متصاعدة أكثر مما مضى.

ومن الأهمية الإشارةُ إلى تلكؤ الحكومة الانتقالية في إنجاز أهم مطلب لـ"ثورة ديسمبر" وأيضاً بند اتفاق في سلام جوبا الموقع مع حركات دارفور، وهو إعادة هيكلة القطاعات العسكرية والأمنية. ومعلوم للجميع مدى تغلغل تنظيم الإسلاميين داخل الأجهزة العسكرية والأمنية، فقد ظلت هذه القطاعات على الدوام هدفاً للتنظيم الذي لا تزال سيطرته بائنةً، وهذا تجلّى في التعامل مع الحراك الجماهيري المستمر، الذي أعقب سقوط البشير ووصل حد سقوط قتلى في المظاهرات السلمية. ولا يزال رصاص القوات النظامية يحصد العُزّلَ في كل أنحاء السودان. ويتصدى المكون العسكري باستمرار حتى يبقي القطاعات العسكرية والأمنية كما هي، وقد شكا النائب العام الشهر الماضي من التماطل في رفع حصانات العسكريين المتهمين في بعض البلاغات، ودفع التحالف الحاكم ("الحرية والتغيير") بقانون لإنشاء جهاز للأمن الداخلي على أن يكون بديلاً لجهاز الأمن في عهد البشير، والذي لا يزال يعمل ولم يتم حله. لكن القانون لا يزال في مماطلة بين يدي المجلس السيادي الذي يسيطر عليه المكوّنُ العسكري.

والمسألة لا تتعلق فقط بالثقة بين المواطنين والقوات النظامية أو قوات الحركات المسلحة، إذ تبدو القضية أعمقَ من ذلك في إقليم دارفور، حيث ينتشر السلاح بشكل واسع، وسياسة تسليح القبائل التي بدأتها الحكومات المركزية منذ الثمانينيات الفائتة، وصلت ذروتها خلال حكم الرئيس المخلوع، عمر البشير، بعد إعلان الحرب في دارفور مع الحركات المسلحة في العام 2003، ويقدر أكاديميون من الإقليم حجم السلاح المنتشر في الإقليم في أيدي القبائل بـ 50 مليون قطعة متعددة النوع، غالبيتها قدمتها الحكومات المركزية لتلك القبائل.

ودّع إقليم دارفور الحرب منذ سنوات، لكنه يرزح تحت آثارها الفتاكة منذ توقف العمليات العسكرية بين الحكومة والحركات المتمردة. فقد انتقل القتال ليصبح بين المكونات القبلية للإقليم، والتي كان بعضها يقاتل مع الحكومة المركزية في حربها ضد الحركات المتمردة منذ 2003، وقد ظلت هذه المجموعات محتفظةً بامتيازاتها التي حصلت عليها نتيجة تحالفها مع الحكومة المركزية وعلى رأسها التسليح

قرار مجلس الأمن بسحب قوات البعثة الأممية "يوناميد" أتى بناءً على رغبة الحكومة الانتقالية. ظاهرياً، يبدو إنهاءُ مهام البعثة منطقياً، فالحرب توقفت، والنظام الذي كان يقود الحرب في الإقليم سقط بثورة شعبية، ووقّع اتفاق سلام بين الحكومة الانتقالية ومعظم حركات دارفور. هذه التغييرات كان ينبغي أن تفرض وضعاً جديداً، غير أن الواقع أكثرُ تعقيداً.

وفعلياً خاضت بعض القبائل العربية في دارفور الحرب ضد الحركات المسلحة المنحدرة من أصول أفريقية، وحازت على امتيازات خاصة، اقتصادية وعسكرية، ثم سياسية بعد سقوط البشير، إذ تسيّد زعيم ميليشيا عربية، هو "محمد حمدان دقلو" (حميدتي) موقع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وقاد بشكل شخصي ملف السلام والذي انتهى إلى توقيع اتفاق بين الحكومة والحركات المسلحة الرئيسية في دارفور، باستثناء حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور.

قبيل خروج بعثة "يوناميد"، تعرضت بعض معسكرات اللاجئين لمحاولات هجوم مسلح تقودها بعض المجموعات العربية. والإشارة تبدو واضحةً لخطة طرف داخل الحكومة لتجفيف المعسكرات تلك وجعلها جحيماً لا يُطاق. وفعلياً فهذا ما حدث قبل أيام بمدينة "الجنينة" بعد الهجوم على معسكر "كريندق"، وحرق أجزاء واسعة منه، ما خلف موجة نزوح من معسكر النزوح. وخطة تفريغ وتجفيف المعسكرات هي خطة حكومة البشير، التي كانت تهدف من خلالها إلى إنهاء مظاهر الحرب، لكن دون دفع استحقاقات الأمن الحقيقية على الأرض.

تتلكأ الحكومة الانتقالية في إنجاز أهم مطلب لـ"ثورة ديسمبر"، وهو أيضاً بندٌ في اتفاق "سلام جوبا" الموقع مع حركات دارفور، أي إعادة هيكلة القطاعات العسكرية والأمنية.

يمثل الأمن المطلبَ الموحد لسكان الإقليم، ويضعه النازحون واللاجئون شرطاً رئيسياً للعودة إلى مواطنهم الأصلية وإخلاء المعسكرات، بجانب تحقيق العدالة ووضع حد للإفلات من العقاب. المنتظرُ من الحكومة الانتقالية بعد توقيع اتفاق السلام، أن تظهر جديةً في دفع استحقاقات السلام للضحايا، وعلى رأس هذه الاستحقاقات العدالة، واستعجال المحاسبة، إذ لا يزال مصير المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية وعلى رأسهم الرئيس المخلوع، عمر البشير، مجهولاً، الأمر الذي خلّف خيبة أمل بين الضحايا. ثم، وقبل ذلك، جمْع سلاح القبائل الذي بات الآن المهددَ الحقيقي للسلم الاجتماعي، وبدونه لن يتحقق الأمن، بل ستتسع موجات النزوح واللجوء، وسيتحول اتفاق السلام إلى حبر على ورق. وبإمكان الاقتتال المجتمعي، مع حجم السلاح المنتشر بين القبائل أن يعيد دارفور إلى جحيم الحرب مجدداً، ما لم تُمْسك الحكومة المدنية بسلطاتها بقوة.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه