مبادرات ومغامرات عالم 17 تشرين في لبنان (2) - الرسوم والشعارات والأغاني

التوثيق لما حدث ولأساليب التعبير التي استُخدِمت ووجدت انتشاراً ورواجاً، هو أمرٌ ضروري ولازم. ذلك لأنّ فيه تقصّي الجواب على سؤال ما الذي يفعله الناسُ عندما لا يستطيعون فعل شيء؟ وكيف يعبّرون عن أنفسهم في هذا الظرف؟
2020-12-18

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
| en
المجد للمندسّين: آية دبس ويوسف وابراهيم تلّيه

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

ما فعلته لحظة 17 تشرين الأول / أكتوبر للبنانيين المشاركين بالتظاهرات الشعبية الواسعة، كان إزاحة الباب إلى مساحة الاحتفاء بالحيوية الكامنة والحركة التي انتظرت طويلاً لحظة دفعها الأولى. كانت التظاهرات والاعتصامات والمسيرات جدّية، ولكنها كانت أيضاُ غالباُ ما تتحوّل لاحتفالات شعبية يملؤها الموسيقى والرقص والغناء والرايات والمزاح والطعام، لدرجة جعلت من هذه الخفّة التي اخترقت الساحات مثار جدال وأخذ وردّ عنيفين بين مجموعات مختلفة منتفضة وفاعلة على الأرض، موضوعها أساليب التعبير هذه، جدواها، والتساؤل عما إذا كانت مؤذية أم مفيدة للتحركات الشعبية.

فكان أن تسمع كثيراً بين الناس سؤال "هل هذا كرنفالٌ أم ثورة؟"، استنكاراً لكل ما هو "لهو ولعب" باعتباره مسطِّحاً لأهداف الحركة الشعبية "الجدية". وفي الوقت ذاته، كثيراً ما تسمع أيضاً عن الفرح الشعبي الذي طال انتظاره، وعن كون هذا الجوّ ضرورة، تحفظ استمرارية التواجد على الأرض، وتعكس بشكل أساسي رغبة الناس بالتعبير بكلّ الأشكال، كلّ بما يرتبط بمجاله أو قدراته، من نصّ أو موسيقى أو هتاف أو رسم، ومشاركته مع الآخرين على الأرض.

وكما في أي تحركات شعبية، ثمّة ما يحصل على الأرض بشكل عفوي، عشوائي أحياناً، انفعالي حيناً، مفيد مرّة، ومربك أو حتى مضرّ بالتحرك مرات، يقوده نحو اتجاهات شتّى، قد يكون تسطيحاً أو احتفاءً بالمحاولة التي طال انتظارها، والتي تدفع باتجاه السياسة والعمل الفعال. وسط كلّ هذا، يبقى أنّ التوثيق لما حدث ولأساليب التعبير التي استُخدِمت ووجدت انتشاراً ورواجاً، هو أمرٌ ضروري ولازم. ذلك لأنّ فيه تقصّي الجواب على سؤال، "ما الذي يفعله الناسُ عندما لا يستطيعون فعل شيء؟ وكيف يعبّرون عن أنفسهم في هذا الظرف؟"...

Stensil حيّ على خير العمّال (عن صفحة مبادرة "بالمرصاد" عن فيسبوك)

الصوت والصدى: هتافات الانتفاضة

أكثر ما تكرر شعاراً في انتفاضة 17 تشرين كانت جملة "كلّن يعني كلّن" (كلّهم). وقد كان الشعار في عمقه تعبيراً عن شعور الناس بكونهم غير ممثَّلين في أي مكان في السلطة، لا من أحزابهم ولا من طوائفهم التي ينتمون إليها حتّى. وفي كثير من الحالات كان اعترافاً لأول مرّة من قِبل جزءٍ من المشاركين بقصور وفساد من كانوا يثقون بهم في يومٍ من الأيام، فقالوا أننا ها قد خلعنا عنّا زعاماتنا القديمة وضممناهم إلى "الكلّ" الفاسد. وبغضّ النظر عن أي نقاشٍ حول هذا الشعار الذي انتشر بأوسع الأشكال، فإنّ انعدام التمثيل بالنسبة للناس يعني انعدام وجود صوتٍ فاعل لهم. وهم بالتالي صاروا أمام استحقاق رفع الصوت، من خلال هذه الانتفاضة. وهذا بكلّ واقعية وعملانية لا يمكن أن يكون "صوتاً" واحداً، بل هو متعدد بتعدد واختلاف مشارب من نزلوا إلى الساحات وعلى امتداد المناطق. ننظر إلى الشعارات والهتافات التي استخدمت في قيادة المحتجّين، فنجد منها الكثير مما هو عابر للمناطق. "كلن يعني كلّن" كان أحد هذه الشعارات والأبرز بينها. وبين الناس، برز ما اصطُلح على تسميته بال"هيلا-هو"، وهو هتاف مأخوذ عن هتافات جماهير ملاعب كرة القدم، وتحوّل ليصير لحناً يُشتم به السياسيون "بلغة الشارع"، واختصّ به جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني آنذاك، الذي حظي بالنصيب الأكبر من مجمل الشتائم.

في بيروت، كان لافتاً حضور مجموعات نسويّة عبّرت عن حضورها وشعاراتها بلا تردد وتجاوزت منطق المشككين "بالمكان والزمان المناسبين" لطرح شعارات النسويات - أيْ حجّة "الآن مش وقتها"، فرفعن ورفعوا يافطاتهن وأصواتهن. أطلقن تحايا "من بيروت للعراق" أو اليمن أو سوريا أو مصر وغيرها، من أجل "ثورة بكل البلدان"، وكذلك رفعن شعارات حقّ الحضانة للأمهات المطلقات، وهتفن ضدّ التحرش، ولحقوق كل الفئات وبالأخص النساء ومجتمع الميم. وفيما كانت هذه التنوعات تُرصد بشكل أكثف في بيروت، وجدت المناطق الأخرى خارج المركز أيضاً طرقاً للتعبير عن أنفسها بأشكال مبدعة، ونصبت خيماً تعنى بكلّ شيء، من الندوات حول الاقتصاد والسياسة إلى توزيع المياه والاستراحة من الشمس أو المطر.

من صفحة "خرابيش نسويّة" على فيسبوك

"معلّمي معلّمي معلّمي / إنتَ فاسد على عِلمي... معلّمي معلّمي معلّمي / عمّا تمصّلي دمّي"، هي اللازمة التي تردّدت كثيراً في شوارع طرابلس الفيحاء، عاصمة الشمال اللبناني التي شهدت تجمعات جماهيرية واسعة كادت تضاهي تلك البيروتية، بكثافتها وأهميتها واستمراريتها. الهتاف الذي تردد في شوارع وأزقة وساحات المدينة وَضعه الشاب الطرابلسي تميم عبدو، وسريعاً ما وجد اللحن المميز ذو الخصوصية الطرابلسية، لَكنةً ومضاميناً، زخماً كبيراً في أوساط الناس، واصلاً إلى بيروت والمناطق الأخرى. "معلّمي" بالنسبة للطرابلسي أو اللبناني عموماً كلمةٌ تُستخدَم لاحترام شخص أعلى مقاماً من المتكلّم أو هي على عكس ذلك، تُستخدمُ للدلالة على سخرية ما ممن يدّعي أنه أعلى شأناً. في سياق الهتاف، يصير المقصودُ رجل السياسة اللبناني، وبالأخصّ الطرابلسي، الذي يقدّم نفسه "مسؤولاً" ذا شأن، موكلاً بأمور الشعب، واعداً إياهم بكلّ خير فور انتخابه. وطرابلس التي تكثر فيها البيوتات السياسية العريقة وتنحصر فيها الأموال بيد هؤلاء فيما تنحسر عن العامّة، صارت في العقود الأخيرة تمثيلاً متناقضاً فاضحاً لأفحش الثراء وأكثر الفقر إدقاعاً في الحين نفسه. يعي الطرابلسي ذلك، حتّى أن ردّيّات تميم كثيراً ما تذكر شخصيات المدينة السياسية بالاسم ودون مواربة، فيقول مثلاً "بدنا نشيلك ميقاتي"، قاصداً رئيس الحكومة الأسبق، ابن طرابلس، نجيب ميقاتي..

كان كثيراً ما يُسمع بين الناس سؤال "هل هذا كرنفالٌ أم ثورة؟"، استنكاراً لكل ما هو "لهو ولعب" باعتباره مسطِّحاً لأهداف الحركة الشعبية "الجدية". وفي الوقت ذاته، كثيراً ما تسمع أيضاً عن الفرح الشعبي الذي طال انتظاره، وعن كون هذا الجوّ ضرورة، تحفظ استمرارية التواجد على الأرض، وتعكس بشكل أساسي رغبة الناس بالتعبير بكلّ الأشكال.

الألحان والكلمات شديدة القرب من الناس تعلق في الأذهان فتبدو في طرابلس وكأنها بالفعل أغنية شعبية قديمة سهلة الدندنة، كمِثل "لك تقبرني الله يديمك / ما بتقوم؟ منقيمك! حريتنا بدنا ناخدا/ منسحبها من زلاعيمك ". ويتطرّق كذلك الهتاف إلى "صيت" طرابلس المستجدّ كمدينة "المعارك" بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن (1) أو كمنطقة بات يُعرّف عنها كحاضنة لبعض المجموعات الإسلامية المتطرفة أو الإرهابية، ساخراً من هذه المحاولات لطمس هوية المدينة، ومديناً لاستغلال سياسييها للشباب في معاركهم، فهم "بيطلبوني عالمعارك وبيقولولي نحنا حدك"، بينما الحقيقة أنّ "التبّانة إمّ الفقير / ورح يسقط أكبر خنزير / شعب المحسن يا حبيّب / آمالك ما منخيّب"، في هتافات توحّد بين هموم المواطن الفقير في المنطقتين اللتين شهدتا تقاتلاً عنيفاً أنهك المدينة طوال سنوات طويلة... هكذا يتّهم الهتاف، يفضح، ويحرج ويسخر بخفّة دم. ودائماً ما ينتهي بلازمة أخرى هي "يا كبير يا كبير يا طروبلسي يا كبير!"، كناية عن تشجيع الناس بعضها بعضاً.

هيلا هو وموسيقى

رفيقة الاحتجاج الشعبي وملازمته على نحو ملتحم هي الموسيقى. في كل الدول العربية التي شهدت تظاهرات ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، ومن ثمّ في انتفاضات سنة 2019 في العراق ولبنان السودان وسواها، وكذلك في احتجاجات "حيوات السود تهمّ" (Black Lives Matter) في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من التحركات الشعبية، ثمّة دائماً الكثير من الموسيقى. في التاريخ الموسيقي العربي أمثلة هائلة على توظيف الأغنية واللحن في التعبئة الشعبية والانتقاد والسخرية، من الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم إلى زياد الرحباني، والسابقين واللاحقين لهم من أصحاب الكلمة واللحن اللاذع. في انتفاضة تشرين في لبنان، لم يكن مستغرباً أن تواكب الأحداث إصدارات موسيقية جديدة، إلى جانب الـ"ريبرتوار" القديم الذي قد يصلح لأزمنة مختلفة بمشاكل متشابهة - أو لأشخاصٍ مختلفين. والحقّ أن الجديدَ في الموسيقى قد بات يجبّ القديمَ أحياناً، بتوجيهه النقد، بل الاتهام، إلى الفنان أو المؤدي للأغاني "الثورية" المعروفة، حالَ كون هذا الفنان متواطئاً مع السلطة أو صديقاً لها أو ساكتاً عن فسادها حالياً. بل أن الجديدَ بات مرتاحاً مع نقد الأشكال والمضامين المعتادة كذلك، فلم يعد مقبولاً بالنسبة للكثير من صناع المحتوى الموسيقي حالياً أن تُستنسخ القوالب العتيقة أو يتمّ استسهال اجترار العبارات والوسائل نفسها في انتفاضة اليوم.

____________
من دفاتر السفير العربي
2019: انتفاضات مبتورة النتائج
____________

"الراس" (مازن السيّد) هو أحد المنتجين الموسيقيين وفناني الراب الذين أطلقوا عدة تسجيلات جديدة بعد 17 تشرين، أوّلها كانت أغنية "شوف" التي لعبتها مكبرات ساحات الاحتجاج. في الأغنية لحن حماسيّ سريع مناسب لإيقاع الشارع في الأسابيع الأولى للانتفاضة. في كلامها ردود على ما كانت تُتهم الانتفاضة به في تلك الفترة. ففي حين كان يُقال أنها محاولة لزعزعة الشارع من قبل قطاع طرق، أو أنها ثورةٌ بذيئة، أو أنها تُدار من قبل أحزاب سلطوية فاسدة، كان الردّ في الأغنية: "سمير ووليد وسامي / مفكّريني هبيلة وماشي/ الشعبُ استيقظ صاحي / الشعبُ استيقظ صاحي"، لتقول الأغنية أنّ الزعماء الطائفيين (سمير جعجع، سامي الجميّل، وليد جنبلاط) الذين حاولوا ركوب موجة الثورة سيلفظهم المنتفضون الواعين لهذه المحاولات. ويضيف "إذا بقطع، هَي طُرُقاتي / بحتلّها، هَي إداراتي / ثورة مطالب، مُش جبهة محاور / تنعيش، هَي شعاراتي / وسّع بحدود خياراتي / للكلّ، هَي ايتيكاتي (لياقاتي) / شعبي مكسّر أصنامُه، فلتسقط مستحيلاتي". وتحدّد الأغنية أيضاً هويّة الرفاق المشاركين وغاياتهم، فيقول "الراس": "حقّي مانه عند اللاجئ/ حقّي البنك المركزي / نحن مش جبران باسيل / نحن الموت لإسرائيل / نحن ماننا ابن سلمان / بس كمان حتستقيل".

في هذا المثال، تستمرّ الأغنية في تفنيد الاتهامات الموجّهة ضد الثوار، بالأخصّ من قال أنهم عملاء أو تابعون. تهاجم العنصرية في النظام، وادعاء بعض محطات التلفزة بأنّ المتظاهرين مدعومون من هذا البلد أو ذاك أو أنهم غير لبنانيين، بل من السوريين المعارضين المتشددين، وكلنا يذكر مقابلاتٍ في تقارير إخبارية تحاول بعنصرية مقززة أن تلتقط الشبان السوريين من التظاهرات وتوحي بأنهم مشبوهين أو ما شابه. "عملاء وقمع وتلفزة، منتشرة بكلّ الألبسة"، على ما تقول الكلمات...

غلاف فني لأغنية "شوف"، من تصميم رامي قانصو

بعد "شوف"، أطلق "الراس" أغنية "النار"، وفيها يستخدم جزءاً من هتاف الـ"هيلا هوو" الذي صدح به كثيرون شاتمين الوزير جبران باسيل، ولكنه استحضره بطريقته هاتفاً: "هيلا هيلا هيلا هيلا هو، النارُ في أحشائكم تقدّموا"، في نوعٍ من النشيد الذي يشجّع "المقاتل" على التقدّم في أرض المعركة. في الأغنية يتكرر الزهوّ والافتخار بجوّ الأخوّة والرفاقية بين كل هؤلاء الذين لا يعرفون أسماء بعضهم البعض، لكنهم صاروا جسماً متعاوناً، عائلةً في الساحات. فـ"كلّ الثقة للّي كتفه ساند كتفي... كل الثقة للي كتفها ساند كتفي" و"مين قدي مين قدي / يسقط العالم، طزّ / إخواتي حدّي".

آخر ما أنتج "الراس" في هذا السياق كان تحيّة لـ"علي شعيب" الذي قاد عملية الهجوم على "بنك أوف أميركا" في بيروت في العام 1973، وتحوّل إلى رمز لمجموعة كبيرة من المشاركين في الانتفاضة الذين وجهوا غضبهم إلى المصارف ورشّوا على واجهاتها اسمه.

ومجدداً، مع إعادة توظيف الـ"هيلا هو"، قام مغني الراب "بو ناصر الطفار (2) باستخدام النداء في أغنية "تار" (ثأر) بقوله: "هيلا هي، نده من بعيد، رح لبّي الصوت / هيلا هو، حريّة بإيد، ولا عشر قيود". وهو يفتتح التراك الموسيقى الذي نشره في شهر آب/ أغسطس 2020، أي بعد الانهيار الاقتصادي وبعد توقّف حركة التظاهر، بتشاؤم كبير وعتب على البلاد، يلازمهما تأكيد على المقاومة الشخصية لكلّ ظرف، بقوله بادئاً: "مقبرتي هاد، ضاع عمري فيه / مش بلدي لَوْ ما أهلي فيه / عندك ضوّ أمل؟ / تتهنّى فيه / بكرا الحركة بتطفيه"، في إشارة أيضاً بالاسم إلى حزب سياسي بعينه هو "حركة أمل". للطفار أيضاً عدّة أغنيات راب ذاع صيتها في ساحات الاحتجاجات منذ نحو عشر سنوات، كان أشهرها "الوسخ التجاري" (تعاون بين جعفر الطفار وناصر الدين الطفار) التي تلعب على اسم الوسط التجاري لبيروت أو ما يُسمّى بـ"سوليدير" كمرتع لكل نصب ونهب وفساد.

من جهته، عبّر مغني الراب جعفر الطفار في أكثر من مناسبة عن تمسّكه بالرأي القائل أن "الشتيمة سلاحُ المغلوب على أمره" وهي بالتالي تصير أشبه "بالفعل المقاوم"، وأنّ غناء الراب هو لغة الشارع ومنه. نزل بدوره منذ اليوم الأول إلى ساحات الاحتجاج، وشارك بالغناء الحي مع الناس أغانيه القديمة والجديدة. وكما كان لطرابلس ردّياتها بلكنتها، فجعفر كان صوت الجرد البقاعي والهرمل وأهلها، يبدأ أغنيته "ممنوع" بالقول "يا وسَط ضاوي والجرد عتمة، يا حق أخرس ما نطق كلمة". يحضُر كل شيء في كلمات أغنيته من العدو الإسرائيلي إلى أعداء الداخل الذين هم رجال حرب صاروا رجال دولة، وصولاً إلى الهمّ المعيشي "للّي قاعد يحسب دين ولَدين / مو حرام؟ العقل وين؟".

وإذا كان الراب قد احتل المشهد طولاً وعرضاً، فإنّ أنواعاً موسيقية أخرى لم تكن غائبة أيضاً. بالطبع، ثمة كلاسيكيات حاضرة: "شيّد قصورك" للشيخ إمام أو "شو هالإيام اللي وصلنالا" لزياد الرحباني، تحصدان قلوب الجماهير دوماً، ومن نفَسهما الساخر شيءٌ متبقّ في أغنياتٍ قّدمتها فرقة مترو المدينة ضمن مشروع موسيقي بعنوان "أغاني سرفيسات: زمن الانهيار"، أبرزها "نشيد الانهيار" (من كلمات وألحان هشام جابر) الذي تمّ تسجيله رغم ظروف كورونا والحجر الصحي، بواسطة جمع التسجيلات ومقاطع الفيديو الفردية للمغنين والعازفين في فيديو واحد، ليقولوا معاً: "كلامُ الحاكِم يمحوهُ الدولار / بالسوق السوداء/ وحتى عالمطار / يا ليل يا ليل يا ليل / يا أمّا كتير نهار / زلغطي يا انشراح / جاية الإنهيار!". وبعد سرد كل الطرق العنفية الثورية الانتقامية التي سيقوم الشعب بتوسّلها ضدّ الزمرة الحاكمة، تخلص الأغنية إلى القول "شغبنا اضطراري، وَلا مرّة كان خَيار.. جاية الانهيار". ويستمرّ مسرح مترو المدينة في شارع الحمرا ببيروت باستضافة أمسيات "أغاني زمن الانهيار" حتى في أكثر الظروف دقّة مع كورونا (والالتزام بمعايير صحية وتباعد اجتماعي صارم).

أعضاء الفرقة مع رفاق آخرين لهم، مغنين وموسيقيين، كانوا أيضاً يغنون ويعزفون خارج خشبة المسرح، ويقطعون الطرقات حتى. فقد عمدت فرقة من الموسيقيين بقيادة عازف الأكورديون سماح أبو المنى إلى تعديل كلمات أغنيات شعبية معروفة، أو شعارات، لتمرير مواقفهم أو التوجه إلى الناس في الطرقات والمصارف. فالـ"هيلا هوو" المحبوبة بشكل جنوني وجدت تجليات لها أيضاً وأيضاً في ردّية "هيلا هيلا هوو، الطريق مسكّر يا حلو"، أما "شتي يا دنيي تيزيد" لفيروز فقد صارت "سكّر يا شعبي الطريق تَ بُكرا يِحلى / ولمّا بتمرق الإسعاف، نحنا منفتحلا"، في محاولة من العازفين طمأنة الناس بأكثر الطرق لطفاً لأمنهم بينهم ومراعاتهم ظروفهم، خصوصاً في وقتٍ تعرّض فيه المنتفضون لكثير من الانتقاد والإحراج بسبب قطع الطرقات المتكرر.

كل هذا هو بالفعل شذرات مما كان يجري على المشهد الموسيقي المشارِك في انتفاضة السابع عشر من تشرين.

"بصريّات" 17 تشرين

قد يكون أوّل ما يتبادر إلى الذّهن من ضمن التعبيرات البصرية التي ارتبطت بـ17 تشرين هو ذلك المجسّم الضخم لما سُمّي بـ"يد الثورة" المنصوبة وسط ساحة الشهداء في قلب بيروت. هي قبضة كبيرة مرفوعة بشكلٍ عمودي، باللونين الأبيض والأسود، كُتب عليها كلمة "ثورة"، وقد مرّت عليها ظروفٌ وأيامٌ منها الجيد ومنها السيّء، بدأت من كونها نجمة الساحة، العلامة التي تُرى من البعيد وتدلّك على مكان التجمّع، ومن ثمّ تحوّلها حطاماً ورماداً بعد أن هوجِمت خيم المعتصمين في ساحة الشهداء وتمّ تكسيرها من قبل مجموعة من المناصرين لأحزاب أمل وحزب الله، ليتمّ نصب قبضة جديدة بعد ذلك بوقت قصير، تعبيراً عن استمرار "الثورة" وتحديها للقمع. أما في طرابلس مثلاً، فكان وجود قديم لمجسّم كلمة "الله" في وسط ساحة النور التي حوت التجمعات الشعبية وهو سابق لانتفاضة 17 تشرين، لكنه صار ملازماً لمشهد الحشود الشعبية، وتمّ الاهتمام بإنارته جيداً، وسرعان ما برز خلفه علمٌ لبناني ضخم أُلبس للمبنى المقابل وكتب عليه بحروف كبيرة جداً "طرابلس مدينة السلام"... أمرٌ كان بحدّ ذاته تعبيراً كافياً عن إصرار المدينة على تقديم روايتها المغايرة لما يقدمها به الإعلام كساحة للاحتراب والتشدد الديني. العنصر المرئي المباشر في الساحات كان إذاً طريقةً لتقديم الذات، الهوية، الموقف، الرفض، النقد، السخرية، وكان حاضراً في كل مكان، من اللباس وصباغ الوجه بألوان العلم مثلاً إلى الأعلام واليافطات، وصولاً إلى المجسمات ورسوم الحائط أو "الغرافيتي".

غرافيتي لرولا عبدو

فحيطان الشوارع صفحات فارغة مغرية دوماً لصبيّة وشاب مع عبوة بخّاخ رخيصة أو بعض أدوات التلوين. كل هذا الاحتمال أمامهم ليملأوه بكلّ ما قد لا يستطيعون قوله في يوم عادي آخر. فمقابل الهتاف الذي يدوّي ثمّ يبقى في الفضاء لحظاتٍ قليلةٍ قبل أن تحتلّ أصواتٌ غيره الهواء، هناك الغرافيتي، الرسم الذي يحظى بفرصٍ أكبر للبقاء أطول قليلاً، قبل أن يتمّ تحويره أو تغييره أو الطلاء فوقه. مرّة من المرات بخّ فنان الغرافيتي الأشهر في العالم "بانكسي" عبارة "لو كان للغرافيتي أن يغيّر شيئاً في العالم لما كان مشروعاً". بالطبع، فالمفارقة في عبارته هي أن الغرافيتي هو بالفعل أمر غير مشروع، يمنعه القانون في معظم دول العالم، ويُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنّه تخريب للممتلكات والمساحات العامة، لكنه في العقود الأخيرة بات قبل كلّ شيءٍ وسيطاً بصرياً سياسياً يزعجُ ويحرّض. وفي عالمٍ معاصِر يتواصل بالبصريّات، فللغرافيتي خطورة سياسية خاصة. هو مقالٌ غير موقّع ورسمٌ غير خاضعٍ للرقابة.

ننظر إلى الشعارات والهتافات التي استخدمت في قيادة المحتجّين، فنجد منها الكثير مما هو عابر للمناطق. "كلن يعني كلّن" كان أحد هذه الشعارات والأبرز بينها. وبين الناس، برز ما اصطُلح على تسميته بال"هيلا-هو"، وهو هتاف مأخوذ عن هتافات جماهير ملاعب كرة القدم، وتحوّل ليصير لحناً يُشتم به السياسيون "بلغة الشارع".

"سقطَ خوفنا"، عبارة رُشّت على الحيطان في أماكن عدّة في بيروت. وبيروت هي في الأساس مدينة صديقة للغرافيتي، منذ مظاهرات خلَت، ولكن أيضاً في أيّام الهدوء. تجد من الأشرفية ومار مخايل إلى الحمرا والشوارع الداخلية في السنوات الأخيرة جداريات هائلة برسائل اجتماعية أو سياسية أو فنية بحتة، تعلن موقفاً أو تستذكر فنانين أحبتهم المدينة. هذه المرّة، امتلأت الجدران بالتعليق السياسي المباشر: الثورة، الحرية، العدالة الاجتماعية، مهاجمة الفساد والطائفية والمصارف والسياسات المالية، مناصرة حقوق النساء وكذلك حقوق مجتمع الميم الذي صارت شعاراته أكثر حضوراً وراحة – على الأقل في الساحات الأساسية في بيروت، حيث هامش القول أكبر قليلاً من سواه.

غرافيتي لسليم معوّض (عن صفحته على انستاغرام)

"الاستقالة فوراً"، "الثورة وطني"، "من بيروت تحية إلى اليمن"، "ثورة على الخوف"، "الحبّ مش جريمة"، "دولة عرصات"، "تحيا 17 تشرين"، "الشعب إذا جاع بياكل حكّامه"، "رياض سلامة (حاكم المصرف المركزي) حرامي"، "استقيلوا"، وسواها من العبارات المختصرة التي تختزن الكثير من المعنى في كلمتين أو ثلاثة. ولكن عدا عن العبارات التي تتكرر كتسبيحة مرّات ومرّات في الأحياء وعلى الجدران، هناك رسوم أكثر رمزيّة. طائر الفينيق مثلاً، الرمز اللبناني الذي استُهلك وابتُذل بحضوره في مناسبة كل ظرفٍ صعبٍ أو حدثٍ عنيف يعصف بالبلاد، يحضر مجدداً في الغرافيتي، مدلّلاً على "الشعب الذي لا يموت" و"النهوض من الرماد" وما إلى ذلك من معان. الإصبع الوسطى حاضرة بكثافة هذه المرّة، في وقتٍ بدا للمشاركين أن لا كلام عادَ ينفع مع سلطة العصابات الحاكِمة، فرسموها جداريات أو علّقوها ملصقات أو رفعوها رمزاً باليد المجرّدة لتلتقطها كاميرات التغطية مرّات عديدة. في إحدى الجداريات لرولا عبدو، ترسم وجهاً شاباً يفتح عينه "على الوطن"، لكن في العيم المفتوحة إشارةٌ ضمنية وتحية أيضاً إلى كل المتظاهرين الذين أصيبت عيونهم بالرصاص المطّاطي لقوى الأمن ومكافحة الشغب، وهم بالعشرات.

ملصق غرافيكي من تصميم الفنان السوري المعروف باسم سامر صائم الدهر (Hello Psychaleppo)، إهداء لثورة 17 تشرين

هناك أيضاً الرسوم الكاريكاتورية للزعامات اللبنانية المعروفة، فأحدهم رسمهم عراة، وآخرون رسموهم بشكل ساخر أو مبالغ به. رسام الغرافيتي والناشط سليم معوّض، على سبيل المثال، رسم عدّة جداريّات لثيران "الثورة"، الرسالة منها بشكل أساسي هي نبذ الطائفية وتبنّي فكرة الدولة المدنية اللاطائفية. في وسط المدينة أيضاً، وعلى مقربة من الخندق الغميق، غرافيتي ضخم من رسم آية دبس، ابراهيم تليه ويوسف تليه، يصوّر شاباً عاري الصدر بقناع "فنديتا" الشهير وفتاة ملثّمة. يستعيد الرسم عبارة شاعت كثيراً خلال تظاهرات العام 2015 أثناء أزمة النفايات: "المجد للمندسّين". في ذلك الحين، اتُّهم المتظاهرون أنّ في أوساطِهم مندسّين إرهابيين تخريبيين، وكانت تلك حجّة مكافحة الشغب والأمن لاستخدام العنف ضدّهم. في تظاهرات 17 تشرين، عادت التلميحات ذاتها لتقول أنّ ثمّة متظاهراً "نظيفاً" وآخر مندسّاً مخرّباً، وبالتالي يحقّ للسلطة استخدام العنف مع من ترى هي أنه "مندسّ". الغرافيتي، كما الهتافات المرفوعة والأغنيات، كانت دائماً بالمرصاد لردّ اتهام وتأكيد موقف، و"بالخطّ العريض"، بوساطة الفنون والإبداعات الشعبية سهلة الهضم، والتي نجد فيها من الاختلافات أيضاً ما نجده من اتساع مروحة الفئات المشاركة على الأرض، مع لحظ المشتركات الثابتة: ضدّ الفساد، ضد النهب، ضد الطائفية...

ملصق من تصميم رامي قانصوه.

***

وفي ساحات 17 تشرين اللبنانية جرت أيضاً عروض سينمائية لأفلام نقدية، خاصة في قاعة مبنى "البيضة" الشهير (سينما سيتي) في وسط المدينة، الذي دمّرته الحرب الأهلية وبقي رمزاً بصرياً شاهداً على شرخ المدينة بلا ترميم أو تجميل. فكان الاقبال على العروض في قاعته كثيفاً بشكلٍ أثار مخاوفاً من تهاوي أجزاء من المبنى المتصدع، فاضطر إلى الإقفال. لكن عروض الأفلام استمرت في ساحات وزوايا أخرى.

سينما "البيضة"

ومن الظواهر الملفتة في كافة المدن هي الندوات المفتوحة، لنقاش كل شيء، خصوصاً الندوات الاقتصادية التي يتناوب فيها متدخلون لشرح ما يحدث في كواليس الأزمة المتدحرجة، وفق اتجاهات مختلفة لم يخترقها إجمالاً مواجهات ولا حوادث تعكر مجراها. وكانت خيام طرابلس نشطة بشكل خاص، وبإقبال ملفت قادته حاجة الشباب، خصوصاً، إلى جو لتبادل الأفكار والتساؤلات، افتقد طويلاً.

هذه التجمعات، لمشاهدة الأفلام أو حلقات النقاش أو حضور الندوات شكّلت منصات بديلة حيّة، بعيداً عن الشاشات والانترنت. كمنت أهميتها في كسر الاتجاه الأحادي الذي تسلكه المعلومة من الإعلام إلى المتلقي دوماً، فكان أن فُتح خط الاتجاهين - الأخذ والردّ والسؤال والجواب والتفكير بصوت عال... مع انكفاء الناس إلى منازلهم باشتداد أزمة فيروس الكورونا (ومع اشتداد مفاعيل الانهيار)، تفتقد النقاشات اليوم إلى حيوية ما كانت قد قدمتها ساحات 17 تشرين...

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

1-وهي احياء متقابلة ولكن لكل منها طابع مذهبي مختلف
2-"الطفّار" اللقب الذي اختاره المغني لنفسه، هو تعبير شعبي يطلق في منطقة بعلبك الهرمل على الهاربين من السلطة، الملتجئين الى الجبال

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...

خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!

صباح جلّول 2023-05-02

روح الشيخ خضر عدنان المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أرّق الاحتلال. كان شيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرّابة،...