لاجئو تركيا: وضع "الضيافة" المؤقتة

قد تكون حالات التمييز، ورهاب الأجانب ظاهرةً منتشرةً في العالم، وهي إشكاليّة تعاني منها مجتمعات عدّة، إلا أن للاجئين السوريين في تركيا خصوصية – وضعية "الضيافة المؤقتة" - التي تجعلهم الخاصرة الطريّة، والفئة الأكثر هشاشة أمام أيّ تحولاتٍ في الخطاب، أو في التعامل القانوني المعنيّ بشؤونهم.
2020-12-15

عفاف الحاجي

صحافية من سوريا مقيمة في اسطمبول


شارك
سمير سلامة - فلسطين

"انتهت الضيافة"، و"كلٌّ إلى وطنه، أطلتم البقاء"، وغيرها من عباراتٍ باتت تطلّ برأسها دورياً على منصة تويتر التركي، مع وسوم من قبيل "السوريين إلى سوريا"، و"لا نريد السوريين في بلدنا"، يصاحبها تعليقات متنوعة يتعثّر بها المرء تحت فيديو يوتيوب، أو مراجعة لمكانٍ ما في "غوغل ماب"، حيث يكتب أحدهم "ذهبتُ لهناك ووجدتُ الكثير من السوريين، لا أنصح بالزيارة"، أو ملاحظة هامشية في نهاية وصف أحد البيوت المعروضة للإيجار على موقع "صاهبِندن" التركي تقول "لا نستقبل سوريين" أو "لا أجانب".

قد تكون حالات التمييز، ورهاب الأجانب ظاهرةً منتشرةً في العالم، وهي مسألة إشكاليّة تعاني منها مجتمعات عدّة، إلا أن لوضع اللاجئين السوريين في تركيا خصوصية تجعلهم الخاصرة الطريّة، والفئة الأكثر هشاشة أمام أيّ تحولاتٍ في الخطاب أو في التعامل القانوني المعنيّ بشؤونهم. ويعود ذلك أولاً إلى احتضان تركيا لقرابة 3.6 مليون سوريّ حسب الأرقام الأخيرة الصادرة من الأمم المتحدة، وهو ما يجلب معه تحدّياته المتعلقة بقابلية استيعاب البلد لهذا الرقم، والإجراءات المطلوبة لتحقيق الاندماج، وما يوسّع أيضاً من الشريحة المتأثرة، وهناك ثانياً وضع السوريين في تركيا تحت "الحماية المؤقتة" عوضاً عن منحهم صفة اللجوء التي يتمّ عبرها ضمان الحقوق المنصوص عليها بالمواثيق الدولية، وتطوير سبل الاندماج المحلي. وجاء ذلك على قاعدة "المهاجرين والأنصار"، وأن السوريين "ضيوف لدينا"، وفقاً لتعبيرات الحكومة التركية، وهو خطاب على الرغم من محاولته لتقريب الشعبين عبر الإحالة العاطفية، إلا أنه أيضاً يجعل شريحة اللاجئين أكثر تأثراً بمزاج "المستضيف".

.. بالأرقام

أظهرت دراسة بحثية صادرة في شهر أيلول/ سبتمبر من العام الجاري، أُعدّت بدعم من مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تركيا، أن ما يصل إلى 85 في المئة من الأتراك المستطلعة آراؤهم يريدون أن يعيش الوافدون الجدد في عزلة عن الأحياء التركية. فبعد ما يقرب من عقدٍ من بداية وصول اللاجئين السوريين إلى تركيا منذ بداية الحرب، يبدو أن مضيفيهم لا يزالون ينظرون إليهم بصورةٍ سلبية وفقاً لمراد أردوغان، خبير الهجرة والباحث في الجامعة التركية الألمانية في إسطنبول، الذي ترأس الدراسة، والتي جاءت تحت عنوان "البارومتر السوري 2019". وتظهر استطلاعات الرأي واسعةُ النطاق، الواردة في الدراسة، بأنّ هنالك مخاوفَ من "فقدان الوظائف بسبب وجود السوريين" لدى 39.8 في المئة من الأتراك الذين تمت مقابلتهم، فيما أعرب 31.7 في المئة من المستطلعة آراؤهم عن قلقهم من "المشاكل الأمنية التي قد يتسبب بها السوريون". وجاءت المخاوف الأخرى متنوعة، بين هاجس "انخفاض الخدمات العامة"، و"مساهمة السوريين السياسية (في الانتخابات)"، ومن أن "السوريين سيحصلون على الجنسية التركية، ويكون لهم رأي في مستقبل أو مصير تركيا"، ومن أن "السوريين سيضرّون بهوية المجتمع التركي".

وتخلص نتائج الدراسة إلى أنه و"على الرغم من مستوى الدعم والتضامن الذي أبداه المجتمع التركي تجاه السوريين، فإن هنالك انخفاضاً كبيراً في مستوى القبول والتضامن مع زيادة المخاوف"، وهو ما تعبّر عنه الدراسة بصورةٍ أخرى: "لقد تحوّل قبول المجتمع التركي غالباً إلى تسامح"، ويعضد ذلك أن 60 في المئة من المستطلعة آرائهم اعتبروا أن مسألة السوريين ضمن "أهم ثلاث مشاكل تواجهها تركيا". وضمن قسم نظرة الأتراك إلى السوريين تلاحظ الدراسة انخفاض نسبة من يصفون السوريين بأنهم "ضحايا هربوا من اضطهاد أو حرب" من 57.8 في المئة في عام 2017، إلى 35 في المئة في الدراسة الحديثة. وعند سؤالهم عن أنسب وصفٍ قد يختارونه للسوريين في تركيا، فضّل 42 في المئة من المشاركين الأتراك بأن يصفوا السوريين بأنهم "أشخاصٌ خطرون سيسببون لنا الكثير من المشاكل"، و41.4 في المئة بأنهم "أشخاصٌ لم يحموا بلدهم"، و39.5 في المئة وصفوهم بأنهم "عبئ علينا". وتعتقد الدراسة أن هذه التعابير المستخدمة من قبل الأتراك في وصف السوريين دالّةٌ على زيادة المسافة الاجتماعية التي يضعها المجتمع التركي بينه وبين اللاجئين السوريين، حيث تُستبدل "مشاعر القرب والتعاطف" بالتخوفات.

هناك في تركيا 3.6 مليون سوري حسب الأرقام الأخيرة الصادرة من الأمم المتحدة، وقد وضعوا تحت "الحماية المؤقتة"، عوضاً عن منحهم صفة اللجوء التي يتمّ عبرها ضمان الحقوق المنصوص عليها بالمواثيق الدولية.

يعتبر الباحث أن نتائج الدراسة إيجابية بالمجمل، على الرغم مما ورد فيها، لأن "المجتمع التركي يشكو – من السوريين - كثيراً بصورةٍ شفويّة، لكنه لا يتبنى الموقف، أي أن مقاومتهم سلبية"، على حدّ ما صرّح لصحيفة ديلي صباح التركية. لكن تدني التعاطف باطّراد، وتباعد الهوّة ما بين المجتمعين مؤشرات قد تُترجم على أرض الواقع بصورٍ مختلفة. ومع مرور الزمن، تصبح الحالة أكثر إلحاحاً للبحث عن سبل اندماجٍ حقيقي، حيث لا تعود الاستراتيجيات المستخدمة لحالة الطوارئ و"وضع المؤقت" تنفع.

في الواقع، ظهرت عدة حوادث اعتداء على السوريين بدافعٍ عنصريّ، لم يكن آخرها حادثة قتل الطفل السوري أيمن حمامي (16 عاماً) عبر تلقيه ثلاث طعنات نافذة في القلب على يد شبان أتراك هاجموه وأخاه وأحد أقاربه في إحدى بلدات ولاية سامسون شمالي تركيا، وحادثة اعتداء بائعين أتراك على الفتى السوري حمزة عجان (17 عاماً) في مدينة بورصة والتي أدت إلى مقتله بالهراوات والحجارة. وقد تبعت هذه الحادثة حالةُ تعاطف وتفاعل كبيرين. وهناك الشاب السوري مؤيد إسماعيل الملحم (24 عاماً) الذي تعرض لإطلاق النار من قبل مواطن تركي من مدينة مديات بسبب خلافٍ يخص العمل لساعات إضافية. وفضلاً عن حوادث الاعتداء الجسدية المتعددة الواقعة على أفراد سوريين مما جرى توثيقه عبر وسائل الإعلام، شهد حيُّ "كوتشوك شكمجة" في إسطنبول أعمال عنف ضد السوريين في شهر حزيران/ يونيو 2019، انتهت باضطرار الشرطة لاستخدام الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه لتفريق الحشد.

احتقان تغذّيه الصراعات الحزبية

لا تساعد التصريحات التركية تماماً على تخفيف حالة الاحتقان، أو التخفيف من القلق العام، إذ تجري استثارة المخاوف الاقتصادية والمعيشية لدى المواطن التركي عبر الحديث باستمرار عن الإنفاق على السوريين، وربط ذلك بالأعباء الاقتصادية التي تواجه البلد. وهو ما قد يكون له انعكاس أشدّ مع الضغوط التي تتعرض لها الليرة التركية، والأزمة التي تولدها جائحة كورونا. في نهاية العام الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده أنفقت 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين. وكانت رئيسة حزب "الجيد" المعارض، ميرال أكشينر، قد عزت حالة البطالة في تركيا مباشرةً إلى وجود السوريين، حين قالت إن "وجود اللاجئين السوريين نتيجةٌ خاطئة لسياسة أردوغان" تسببت بـ"انخفاض مستوى معيشتنا، فالشباب الأتراك أصبحوا يعانون من البطالة، وحتى الوقت الذي سيجدون فيه عملًا تستمر الدولة في منحهم الرواتب". ويُلاحظ استخدام الورقة السورية – بغض النظر عن أجندة الحزب - ضمن جدول الأعمال السياسية للأحزاب وخطاباتها المحلية.

قد تكون بداية التغيّر في نبرة خطاب الحزب الحاكم، تعود لشهر كانون الثاني/ يناير عام 2019 مع تصريح الرئيس التركي بأنه يهدف إلى إعادة ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ سوري إلى بلادهم، والذي جاء على نفس الخط مع تصريحٍ لاحق في شهر تموز/ يوليو 2019، حين أوضح قرار حكومته باتخاذ خطوات جديدة تجاه السوريين في تركيا، تتضمن فيما تتضمن التشجيع على العودة. وتبع ذلك حملة تشديد في القوانين وفرض قيود متعددة على السوريين. بالمقابل، تركّز المعارضة التركية مع كل استحقاق انتخابي على التهجمّ على سياسة أردوغان الترحيبية باللاجئين، عبر التوكيد بأن إعادة السوريين إلى بلادهم على رأس أجندتها.

ظهر في بحث ميداني موسع أن 60 في المئة من الأتراك المستطلعة آراؤهم اعتبروا أن مسألة السوريين ضمن "أهم ثلاث مشاكل تواجهها تركيا"، وضمن قسم نظرة الأتراك إلى السوريين، تلاحظ الدراسة انخفاض نسبة من يصفونهم بأنهم "ضحايا هربوا من اضطهاد أو حرب"..

لا يتورع بعض السياسيين الأتراك من الانخراط في خطاب تحريضي مباشر ضد اللاجئين السوريين، واستخدام منصاتهم لتأجيج الأزمة، مثال ذلك نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري إنجين أوزكوتش الذي اختار نشر فيديو مجتزأ من خطابٍ قديم لرئيس حزبه كمال قليجدار أوغلو يقول فيه "سنرسل جميع السوريين إلى سوريا" مرفقاً بالهاشتاغ العنصري "السوريون إلى سوريا"، وذلك بعد يومين تماماً من حادثة قتل الطفل السوري أيمن حمامي، وفي اليوم نفسه شاركت إلاي أكصوي –وهي إحدى مؤسسي حزب الجيد المعارض، ومرشحة سابقة عنه في الانتخابات البلدية - فيديو لطابور من الأجانب يصطفون أمام إدارة الهجرة، لتصف الأمر ساخرةً بقولها "هكذا يصطف الناس أمام المنتجات المجانية"، معتبرةً أن حزب العدالة والتنمية يجر البلد إلى كارثة أمنية لاستقباله هؤلاء الأجانب. علماً أن اللاجئين والأجانب الذين تم تصويرهم كانوا يقفون بصورة قانونية أمام دائرة حكومية للحصول على التصاريح المطلوبة. وكانت أكسوي قد ساهمت في نشر المعلومات المغلوطة ضد السوريين سابقاً، وقد يكون أبرزها نشرها تغريدةً في شهر تموز/ يوليو 2019 تقول فيها إن شاباً سورياً قد تحرّش بطفلة تركية، وهو الخبر الذي تسبب بموجة مظاهرات مناهضة لوجود السوريين، ليتبيّن لاحقاً بطلان الخبر تماماً. هناك أمثلة عديدة على أشكال من خطاب الكراهية، والمعلومات المغلوطة التي ينشرها النائب البرلماني والعضو السابق لحزب الجيد أوميت أوزداغ – يشتهر باهتمامه بمعدلات الإنجاب لدى السوريين، والخدمات المجانية المفترضة المقدمة للسوريين، وأن مجيء السوريين لتركيا ليس ناتجاً عن القصف، بل لتغيير ديمغرافية البلد، أو أنهم "قنابلُ ذرية ديمغرافية" على حدّ وصفه - والنائب التركي سنان أوغان - ويشتهر بأحاديثه عن خصوبة المرأة السورية، والحياة المجانية المفترضة التي يعيشها السوريون على حساب ضرائب الأتراك، واعتباره السوريين مشاريع لمفجرين إرهابيين وقتلة ومغتصبين - وغير ذلك...

يعدّ انتشار المعلومات المغلوطة من أبرز المشاكل التي تواجه سوريي تركيا، وكان من آخرها محاولة ربط انتشار فيروس كورونا بوجود السوريين. إلا أن تداعيات الجائحة، والتوترات الناجمة عنها تقع أول ما تقع على اللاجئين. بينما تتحدث وسائل الإعلام والجهات المعنيّة عن تأثير فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والمعيشيّ في مختلف دول العالم، يعدّ اللاجئون السوريّون من ضمن أكثر الفئات هشاشة وتلقيّاً لتداعيات الجائحة السلبيّة، نظراً لأن معظم اللاجئين يعملون بالمياومة، أو بالطرق غير النظامية لعدم إمكانية حصولهم على إقامة العمل أو الأمان الوظيفي الذي قد يتوفّر للمواطن المحلي، فضلاً عن احتياجاتهم المادية الأكثر إلحاحاً، وفقدانهم لمدخّراتهم وممتلكاتهم خلال الحرب. وتظهر فجوة كبيرة في البيانات المتعلّقة بأثر جائحة كورونا على شريحة اللاجئين السوريين في تركيا، وذلك لعملهم ضمن القطاع غير الرسمي، ما يجعل من الصعب معرفة معدّل فقدانهم للوظائف، وتأثرهم بالحال الاقتصادي المتضرر عالمياً. يأتي هذا بنداً إضافياً على قائمةٍ طويلة من تفاصيل المعاناة اليومية التي تتسم بها حياة اللاجئ السوري أصلاً. فضمن دراسةٍ أجرتها رئيسة قسم علم الاجتماع في جامعة "بهجهيشهر" في إسطنبول، نيلوفر نارلي، على عيّنة من 380 لاجئاً سورياً في أحد الأحياء الإسطنبولية عام 2018، تبيّن أن معظم العائلات السورية المشمولة في الدراسة تسكن في شقق أو أقبية منخفضة الإيجار، وتفتقر إلى المرافق الكافية للنوم والنظافة الشخصية وإعداد الطعام وتخزينه. كما يجبر الأطفال الذكور الأكبر سناً على المساهمة في ميزانية الأسرة منذ عمرٍ مبكّر لأجل مساعدة العائلة على البقاء، وهي ظروف رديئة ازدادت حدّتها هذا العام مع مضاعفات الجائحة، إذ تنشط العمالة السورية في القطاعات الخدمية والسياحية والورشات التي تضررت أو توقف العمل فيها بصورةٍ كبيرة أثناء الأزمة. كما تأثرت العائلات التي كانت تعتمد على معيليها ممن طالتهم قرارات الحجر الصحي (الفئة العمرية ما دون الـ20 عاماً أو ما فوق الـ60 عاماً).

لا تساعد التصريحات الرسمية التركية تماماً على تخفيف حالة الاحتقان أو التخفيف من القلق العام، إذ تجري استثارة المخاوف الاقتصادية والمعيشية لدى المواطن التركي عبر الحديث باستمرار عن الإنفاق على السوريين، وربطهم بالأعباء الاقتصادية التي تواجه البلد. وقد أعلن رجب طيب أردوغان أن بلاده أنفقت 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين.

كان عام 2020 عاماً صعباً وقاسياً على اللاجئين السوريين في تركيا، يملؤه الخوف والترقب، وفي الوقت الذي تبيّن فيه دراسة "البارومتر السوري" الحديثة ارتفاع نسبة السوريين القائلين بعدم نيّتهم العودة إلى سوريا إلى 51.8 في المئة، فإن تصاعد خطاب العنصرية، واتساع الفجوة بين اللاجئين ومضيفيهم، مع استمرار التعامل مع اللاجئين باعتبارهم وضعاً مؤقتاً، قد يكون له تداعياته غير المحسوبة في حال لم تُقدّم مشاريع عمل، وإجراءات مخصصة بهدف تحقيق الانسجام وأخذ التخوفات من الطرفين على محمل الجد.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه