محطة مترو السادات.. جرح "التحرير" الغائر

بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، في 14 آب/ أغسطس 2013، أغلقت محطة مترو السادات، التي تؤدي إلى ميدان التحرير. المحطة مهمة في شبكة مترو أنفاق القاهرة لكونها إحدى محطتين يمكن التبديل فيهما من خط مترو لآخر، وهو ما خلق ضغطاً بشرياً شديداً في محطة مترو "الشهداء" حالياً ("مبارك" سابقاً)، وهي المحطة الثانية التي يمكن تبديل الخط فيها. الضغط البشري يترجم تحت الأرض إلى زحام شديد، وعرق،
2015-03-12

نائل الطوخي

روائي ومترجم من مصر


شارك
| en
عبد الهادي الجزار-مصر

بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، في 14 آب/ أغسطس 2013، أغلقت محطة مترو السادات، التي تؤدي إلى ميدان التحرير. المحطة مهمة في شبكة مترو أنفاق القاهرة لكونها إحدى محطتين يمكن التبديل فيهما من خط مترو لآخر، وهو ما خلق ضغطاً بشرياً شديداً في محطة مترو "الشهداء" حالياً ("مبارك" سابقاً)، وهي المحطة الثانية التي يمكن تبديل الخط فيها. الضغط البشري يترجم تحت الأرض إلى زحام شديد، وعرق، وروائح متعفنة، وتحرش يحدث كل يوم.
ظلّت حجّة واحدة وحيدة تقدم لغلق محطة مترو السادات: تجهيز المحطة أمنياً. ولكن على مدار عام ونصف ظلت فيها المحطة مغلقة، عُثر على مئات القنابل في عشرات الأماكن في مصر كلها، من الشرق إلى الغرب، مما جعل حجة التجهيزات الأمنية مضحكة وغير مقنعة للجميع ومدحوضة بشكل مطلق. ربما كان غلق المحطة قد حدث تحت وطأة اعتقاد بريء أن الشر لن يخرج إلا من ميدان التحرير. أما مواصلة غلقها بينما يخرج "الشر" من كل مكان في مصر الآن، فهو يدل على التعنت ورفض الاعتراف بالخطأ واعتبار التراجع عن قرار ما استسلاماً. لماذا لم تفتح المحطة على مدار سنة ونصف وحتى الآن؟ لأن هذا سيبدو كأنه انصياع لرغبة المعارضين، وهو ما تأباه الخلفية العسكرية الصارمة للنظام الحاكم. دعونا نتذكر أن رئيس الجمهورية الحالي، عبد الفتاح السيسي، ليس إدارياً، ليس معنياً بإدارة حياة الناس، وإنما عسكري يُعنى بالمواجهة وعدم الاستسلام. والاستسلام هذه المرة محوره ميدان التحرير والسيطرة عليه. ولو على حساب كل الجحيم الدائر تحت الأرض.
منذ ما يقرب من عام ونصف ظلت المحطة مغلقة، بلا مبررات لغلقها، سوى جرح نرجسي تجاه ميدان التحرير. هذا في الوقت الذي تهيب فيه الإذاعة الدّاخليّة للمترو "بالسادة الركاب عدم التعامل مع الباعة الجائلين وعدم التعاطف مع المتسولين"!

شعب ما تحت الأرض

ولكن على الصعيد الآخر، فالملايين من الناس يتعذبون في النفق تحت الأرض، وبمجرد أن يلمسهم نور النهار ينسون كل العذاب. لماذا لم يحتج الناس ضد هذا؟ لماذا لم يحتج مواطن يضطر للمشي نصف ساعة في شمس الصيف الحارقة أو تحت أمطار الشتاء للوصول لعمله؟ لماذا لم تحتج على غلق المترو فتيات يتعرضن للتحرش كل يوم في محطة "الشهداء" التي تضاعف اكتظاظها؟
يمكن القول إن تاريخ العقابات الجماعية منذ 2011 هو تاريخ قصير في مصر. العقابات الجماعية كانت محدودة وتتوجه بالأساس لمثيري الشغب والمتظاهرين، أو من يفترض فيهم أنهم كذلك، أو من يتم القبض عليهم عشوائياً في أماكن الشغب والتظاهرات. ولكن بعد وصول المجلس العسكري إلى سدة الحكم، توالت العقابات الجماعية، وتم على أساسها تغير نمط حياة الناس (يحسن بنا أن نتذكر أن تغيير نمط الحياة هذا كان واحدا من السجالات المترددة ضد الإخوان: هم سيمنعون البيكيني والخمر). والجديد أن هذه العقابات الجماعية حدثت بتواطؤ ومباركة من قطاعات الشعب المتضررة هي نفسها، في دليل بارز على ما يمكن أن تفعله الأيديولوجيا ضد الإنسان. بعد 3 تموز/يوليو 2013 على الفور فُرض حظر تجوال، واستجاب له المصريون بقوة شديدة. بدأ حظر التجوال من السابعة مساء، وتم تأخير وقته بالتدريج حتى انتهى تماماً فيما بعد. التواطؤ الشعبي مع حظر التجوال، وركضهم في الشوارع للوصول لبيوتهم قبل موعد الحظر، وامتناعهم عن النزول في الليل.. يتضح عندما نتذكر أن هذا لم يكن أول حظر تجوال يفرض منذ 2011. فقد فرض حظر تجوال في 28 كانون الثاني/يناير 2011، وفرض حظر تجوال آخر في مدن القناة في عهد محمد مرسي، ولم يستجب لهما المصريون وإنما، العكس، حرصوا على تحديهما. الدافع الأساسي لاستجابة المصريين لحظر تجوال 2013 كان شوقهم لإعادة هيبة الدولة.
هناك شيء خطير يستشعره المصريون في الدولة. تبدو الدولة في هذا المزاج وكأنها مرغوبة لذاتها، خوفاً بالطبع من "الفوضى" ومن "مصير سوريا والعراق". لهذا فقليلاً ما ينزل المصريون الآن لتظاهرات احتجاج ضد قرارات، بينما نزلوا ضد قرارات أقل وطأة منها بكثير أيام محمد مرسي (مرسي كان قادماً من خارج الدولة، أما السيسي فقادم من قلب الدولة). حتى وبينما الدولة تصعِّب حياة الناس مجاناً، وبلا أي مقابل، فهم لا ينزلون ضدها. وهذا يسري على حظر التجوال كما يسري على المترو.

سجال مبارك والسيسي

يتهم المثقفون من محبي الدولة المصرية المعارضين بأنهم "يحملون الدولة المسؤولية عن كل شيء". وفي المقابل فهؤلاء المثقفون ينسبون أي مشكلة في مصر الآن إلى "مشاكل المجتمع"، وبالتالي يبرؤون الدولة من دورها في "إدارة حياة الناس". هذا الحُجاج التافه مفاده الوحيد أن المسؤولين غير مسؤولين، وأن غير المسؤولين هم المسؤولون. ولكن حتى إذا سلمنا بأن وظيفة الدولة ليست تحسين حياة الناس، فهل يكون دورها هو "جعل حياة الناس أكثر صعوبة"؟ هذا هو ما حدث في موضوع غلق محطة مترو "السادات".
لماذا أنشئ المترو أصلاً؟ تبدو الإجابة بديهية لدرجة مضحكة. لأن المترو سيسهل المرور وسيسهل بالتبعية حياة الناس. يمكن هنا أن نقول شيئاً ما عن مبارك الذي أنشئ المترو في عهده، بمعونة من جاك شيراك. هل فكر مبارك وهو يفتتح المترو في أن هذا سيفتح الباب للعمليات الإرهابية، ويتعارض مع الدور الأمني للدولة في قمع الاحتجاجات؟ بالتأكيد لم يفعل، وبالتأكيد كان تسهيل حياة الناس بالنسبة له دوراً بديهياً من أدوار الدولة، ديكتاتورية كانت أم ديمقراطية. لم يغلق مبارك محطة مترو "السادات" إلا في لحظة استثنائية للغاية، وهي لحظة اندلاع "ثورة 25 يناير"، وأغلقها بهدف تقني وهو عرقلة الناس عن الوصول لميدان التحرير. أما السيسي فقد أغلقها بعد إخماد جميع التظاهرات وفض جميع الاعتصامات، وهي باقية مغلقة بلا أي هدف.
ينقلنا هذا إلى السجال الدائر حول مبارك، فالمباركيون القدامى الذين أصبحوا سيساويين جددا، وبعد تسريبات أشارت إلى احتقار السيسي لمبارك، وبعد اضطرارهم لتبرير فشل الدولة بأنه "الميراث الفاسد لعصر مبارك"، اندفعوا هم أيضاً أخيراً لذم مبارك. السيسي ليس مبارك، هذا ما يقولونه دفاعاً عنه، ومعهم الحق، لأن السيسي جاء لـ "إعادة هيبة الدولة"، ولـ "إعادة الاستقرار للشارع"، وهما الشعاران اللذان لم يكونا واردين أصلاً أيام مبارك، ومن ضمن مظاهر "إعادة هيبة الدولة" الانتقام من ميدان التحرير.

هل تخرج ثورة من الأنفاق؟

مستخدمو المترو هم قطاعات واسعة من الشعب المصري. ومن بينهم بالطبع من يُصطلح على تسميتهم بـ "الفلول"، و "الثوريين"، و "الإسلاميين"، ويحيط بهم شعب لا يكترث لكل هذه التصنيفات. السؤال الآن: لماذا لم يطرح أعداء النظام الحالي، ومنهم الإسلاميون والثوريون، موضوع "محطة السادات" كعنصر من عناصر معارضتهم للسلطة الحاكمة؟ بالنسبة للإسلاميين فالإجابة واضحة، لأنهم يركزون على ما هو أهم من وجهة نظرهم: على إفساد علاقة السيسي بالسعودية، على مناجاة تركيا، على استجداء قطر، أي على كل ما يتصل بـ "توازنات القوى الإقليمية"، وليس بـ "حياة المصريين".
أما الثوريون، الآتون من خلفية علمانية أو "آخذة في التعلمن"، فقد قلت تظاهراتهم حتى أوشكت على التلاشي منذ ظهور السيسي على مسرح الأحداث، والسبب في هذا هو سياسة الإلهاء التي دأبت عليها مؤسسات الدولة من حينها. فأي تظاهرة تنزل على الأرض يتم القبض على الكثير من ناشطيها، مما يجعل هدف التظاهرة التالية هو المطالبة بالحرية للناشطين المقبوض عليهم، ويُقبض على الكثير من متظاهري التظاهرة التالية، وهكذا في دائرة لا نهائية. تم إقصاء الثوريين عن الشارع، وأزيحت الثورة إلى المربع الأخير، إلى المربع الشخصي تماماً، مربع التقاط صور مع أصدقائنا الشخصيين على موقعي "الفيسبوك" أو "إنستجرام"، أو النزول أحياناً للتظاهر دفاعاً عن أصدقائنا الشخصيين. كان هذا نجاحاً مطلقاً للسياسة الأمنية المصرية، بمعنى أنه أوقف التظاهرات في الشارع وأضاف على معاناة المواطنين، ومن بينهم أعداء للثورة وأصدقاء لها، معاناة جديدة.
ولكن هناك سبباً آخر. فالثورة أصلاً كانت أجندتها الأساسية من البداية هي أجندة الحريات السياسية، الديمقراطية، الانتخابات، التداول السلمي للسلطة، إيقاف التعذيب في أقسام الشرطة، وما إلى ذلك. أما تحسين حياة البشر، المجاميع الأكبر غير المسيسة، فقد اهتم به الثوريون بدرجة أقل. يمكن القول إن اليسار الجديد في مصر جعل للحريات السياسية الأولوية على شروط حياة الناس، في مقابل اليمين الحاكم والموالي، الذي يعارض الاثنين. أو إذا قلنا هذا بشكل فج، فاليسار الجديد طوّر أجندة ليبرالية أكثر مما هي يسارية، على عكس اليسار القديم والليبراليين الذين طوروا أجندة فاشية أكثر مما هي ليبرالية أو يسارية.
في أي حدث، كبير وصغير، يشتعل استقطاب عميق الآن على مواقع التواصل الاجتماعي. كلمة السر طبعاً هي السيسي، الذي يختلف عليه المصريون كما لم يختلفوا من قبل على رئيس جمهورية. ولكن في المقابل، فغلق محطة السادات لم يثر جدلاً من أي نوع، وذلك على رغم كونه الجريمة الأكثر نقاء التي تتم ضد القطاعات الأكثر اتساعاً و "براءة" في الشارع المصري. تتردد أصوات منفردة وخافتة ضد الغلق من جانب المعارضين، ويسكت المؤيدون تماماً عن هذا، على ما يبدو، لأنهم مستنزفون في تبرير قرارات السيد الرئيس، وغير قادرين على مواصلة تبرير موضوع مثل هذا، موضوع يبدو غير مهم، لأنه لا يحظى بسجال اجتماعي، ولن يؤدي بالتالي إلى "إسقاط الدولة".
هكذا، في ظل تغاضي الدولة عن دورها الإداري، وتباهيها بدورها القمعي، وفي ظل تحول موضوع المعارضة السياسية إلى الاكتفاء بالدفاع عن المعارضين السياسيين، وفي ظل خوف ملايين البشر من التصريح بشكاواهم الحقيقية حرصاً على دولتهم الأسطورية، ستستمر معاناة المصريين تحت الأرض، مما يطلق يد السلطة بالطبع في التسبب في معاناة أخرى مستقبلاً من أجل مداواة عقد نفسية غامضة لديها.

للكاتب نفسه

ثورة متمدِّدة وثوريون منسحبون

في 19 آذار/ مارس 2011، يوم الاستفتاء على تعديلات الدستور التي أدخلها المجلس العسكري الحاكم حينذاك، بعد تنحي مبارك عن الحكم بأقل من شهرين، انتصرت "نعم". وكانت أول هزيمة انتخابية...

سياسات التحكم بالإنسان في إسرائيل

في عام 1910 أقيم "كيبوتس دجانيا" على بحيرة طبريّا. كان أول كيبوتس تعاوني اشتراكي يقام داخل فلسطين، وأقيمت على أثره عشرات الكيبوتسات التي خصصت لغرضي الزراعة والصناعة. لعقود تالية، ظل...