الحواجز الأمنيّة في سوريا: ثقافة الخوف

وظيفة الحواجز الاساسية هي إذلالَ الناس وتخويفهم وتركهم لساعات ينتظرون قبل أن يؤذَن لهم بالمرور
2020-11-12

آيلا جمال

كاتبة صحافية من سوريا


شارك
حاجز أمني في سوريا.

إذا ما سألت اليوم أيّ سوري عن ذكرى سيئة مرتبطة بالحواجز الأمنية، فسيذكر حادثةً على الأقل وقعت له. وظيفة الحواجز الاساسية هي إذلالَ الناس وتخويفهم وتركهم لساعات ينتظرون قبل أن يؤذن لهم بالمرور. تروي السيدة "سامية" حادثة حصلت في طريقها هي وأختها إلى المستشفى للقيام بعملية في قدمها، توقفت السيارة عند حاجز يجبر السيارات بعد إنزال ركابها بالمرور من خلال بوابة للتفتيش بالأشعة السينية، طلبت "سامية" من العسكري بقاءها في السيارة لعدم قدرتها على المشي، فأجابها بأنها يجب أن تنزل من السيارة، وستبقى أختها في السيارة رغم أن صحتها جيدة!

أعمال أُجّلت، وامتحاناتٌ كثيرة تأخر عنها طلاب الجامعات بانتظار التدقيق في الهويات، والنظر في الوجوه للتأكد من مطابقتها للصورة. الجميع متهم في تلك اللحظة، ويمكن احتجاز أي شخصٍ وأخذه من مقعده في الباص، وتبقى اللحظة المرعبة هي تلك التي يتم فيها القبض على شاب أو رجل بتهمة تخلفه عن خدمة العلم، أو لأن اسمه مدرج على لائحة "الإرهاب" الذي يعني في الحقيقة أنه من المعارضين. في عام 2017 كان هناك أكثر من 280 حاجز في العاصمة دمشق لوحدها، من بينها أكثر من 50 حاجزاً تابعاً لجهات خارجية كحواجز حزب الله اللبناني.

غيرت حواجز التفتيش من خيارات السوريين، وغيّرت من خططهم بسبب انتشارها الكثيف، فكان عدد من الحواجز يمنع المرور التام من بعض المناطق، مما يدفع الناس لاتخاذ طرق أطول وأصعب للوصول إلى أعمالهم ومنازلهم، وهذا يستلزم وقتاً ومالاً إضافيين، حتى سجلت العديد من حواجز دمشق على خدمة "غوغل ماب"! بالإضافة إلى أن الحواجز لا تعني وقوف بعض عناصر الجيش أو الأمن، بل إنشاء نقاط عسكرية توضع بها السواتر الإسمنتية أو الترابية، وتوضع لاحقاً قربها الغرف الإسمنتية التي راحت في بعض الأماكن تتوسع، وتغيّر من شكل المنطقة وخاصة على الطرقات الواقعة بين المدن.

من جهة أخرى قامت الحواجز الأمنية بتقاضي الأموال مقابل عدم تفتيش السيارات، أو الإسراع في تمرير بعضها عبر الطريق العسكري المخصص لمرور السيارات الأمنية. أمّا الطريق المدني فهو المخصص لباقي السوريين. يقول "نادر" أن كلفة المرور دون تفتيش تتغير من حاجز لآخر ومن ضابط كبير إلى عسكري صغير، تصل إلى عدة آلاف من الليرات. لم تسلم كذلك سياراتُ البضائع من سطو الحواجز عليها، فكلُّ سيارة تمرّ لا بدَّ أن يأخذ عناصر الحاجز نصيبهم منها، من الأطعمة والمؤن وحتى الأدوات الكهربائية (تسمى هذه العملية "ترفيق"، وهي أتاوة غير قانونية بالطبع). "عادل" سائق شاحنة نقل بضائع يقول إنه استبدل منحهم جزءً من البضائع بشراء "كروز دخان"، يمنح كلّ عسكري يفتشه عبوتين من الدخان بالإضافة إلى مبلغ مالي، لكنْ ليس الجميع يرضى بهذه الصفقة على أي حال.

هذه الأفعال تنتمي إلى فكر سياسيّ وأمني عبر منح النظام القائم منظومته الأمنية امتيازات مختلفة، وسلطة على الناس الذين لا حول لهم ولا قوة، حتى باتوا يعتقدون أنها جزءٌ من حياتهم، فيبدو منح المال لحاجز عسكريّ أمراً مفروغاً منه، لا تعدياً.

كشف الأسلحة وعُلب الحليب

يفترض بهذه الحواجز أن عملها هو إيقاف "الجماعات المتطرفة" والإمساك بشحنات الأسلحة والمتفجرات. لكن لم يسمع السوريون إلّا عن عدد قليل جداً من عمليات إحباط تفجيرات عن طريق أحد تلك الحواجز، أو الإمساك بشحنة أسلحة. دخلت السيارات المفخخة إلى العاصمة والمدن الأخرى، والكثير منها ربما مرّ عبر تلك الحواجز مقابل ألف ليرة سوريّة مُنحت لعسكري فقير ومتعب يودُّ إنهاء مأموريته وحسب.

غيرت حواجز التفتيش من خيارات السوريين، وغيّرت من خططهم بسبب انتشارها الكثيف، فكان عدد من الحواجز يمنع المرور التام من بعض المناطق، مما يدفع الناس لاتخاذ طرق أطول وأصعب للوصول إلى أعمالهم ومنازلهم، وهذا يستلزم وقتاً ومالاً إضافيين، حتى سجلت العديد من حواجز دمشق على خدمة "غوغل ماب"!

امتلكت تلك الحواجز في الغالب أجهزة كشف أسلحة ومواد متفجرة رخيصة، أكثرها انتشاراً هو جهاز "أيه دي إي 651" وهو جهاز أسود صغير يحوي مؤشراً أشبه بلاسلكي الراديو، يحمله العسكري بشكل أفقي، ويمشي قرب السيارة أو الشخص، وفي حال وجود أسلحة أو متفجرات يميل المؤشر نحو المكان أو الشخص. اعتاد السوريون جمع أجهزة الآيفون الموجودة مع بعض الركاب وعلب العطر ومزيل التعرق، فالمواد المضغوطة فيها تسبب إرباكاً للجهاز فيميل كاشفاً عنها كأسلحة. من المواقف "الطريفة" التي حصلت، هي كشف الجهاز في إحدى المرات عن وجود أسلحة في الباص، وبعد إخراج الحقائب والوصول إلى الحقيبة المطلوبة، أشار الجهاز إلى علبة بالتحديد، وعند فتحها أدرك الحاجز أنها علبة حليب أطفال ولا شيء فيها! هكذا مواقف تثير السخرية، وتزيد الشكوك لدى الناس في مدى فاعلية هذه الأجهزة والسبب الحقيقي لوجودها، وهي تبدو بلا فعالية في كثير من الأحيان، خاصة حين يروي البعض عن مرورهم على الحواجز حاملين سلاحاً دون أن يشير الجهاز إليه.

مقالات ذات صلة

العمل الأساسي لهذه الحواجز هو زيادة الرقابة على السوريين الذين بقوا في الداخل والتشديد على تحركاتهم، والقبض على البعض حسب خلفيتهم السياسية. يمتلك النظام من خلال أفرعه الأمنية المنتشرة في كلّ حيّ في سوريا بيانات سابقة، تجدد كلّ فترة عن نشاطات الأفراد. وبعد احتدام القتال، وحاجة النظام إلى عناصر جديدة في الجيش السوري، وتهرّب آلاف الشباب عن الخدمة العسكرية، كان دور هذه الحواجز الإمساك بالشباب المتخلفين، وسوقهم إلى الخدمة بالإكراه. واستخدمت للغرض ذاته الحواجز "الطيارة"، وهي تحضر فجأة في إحدى المناطق للقبض على المتخلفين عن الخدمة العسكرية، أو لإلقاء القبض على بعض المطلوبين أمنياً.

خوف السوريين داخل الحواجز وخارجها

التركيز على شعور الخوف لدى الناس كان واحداً من أهم أعمال هذه الحواجز. يستطيعون سؤالهم عن أي شيء، ويجب أن يجيب الشخص، فعدم الإجابة أو إغضاب عناصر الحاجز يهدد الشخص إما بخسارة ساعات إضافية كعقاب، وربما بأن يتم القبض عليه بأيّ تهمة من قبيل شتم القائد أو عدم احترام عناصر الحاجز أو حتى بتهمة الإرهاب. أسئلة من قبيل من أين أنت قادم؟ وإلى أين ذاهب؟ ولماذا تزور مدينة غير مدينتك؟ ومن هؤلاء الذين برفقتك؟ وهي تمتد لتمنع مرور بعض أنواع الوقود كمازوت التدفئة وأسطوانة غاز بحجة أن نقلها هو تهريب للوقود، مع أن التهريب لا يقتصر على 20 ليتراً من المازوت قد يحملها أي شخص لعائلته بسبب فقدان وقود التدفئة. وغالباً ما يستولي الحاجز على الوقود المنقول، وقد يصل الأمر إلى إفراغها على الأرض أمام صاحبها.

حين تتسبب حوادثُ صغيرة بخوف الناس، ينعكس داخلهم خوفٌ أكبر من تصرفات جوهرية كالمطالبة بحقوقهم، أو نقد النظام بشكل علني. وضعُ الناس موضع شكّ طوال الوقت هو طريق لزراعة الخوف في الأفراد، والسيطرة عليهم بشكل أوسع وأكثر تأثيراً.

يروي "سعيد" حادثة حصلت معه على أحد حواجز التفتيش، حين اكتشف الضابط أن هوية سعيد مكسورةٌ كسراً صغيراً جاء تماماً عند كلمة الجمهورية في زاوية الهوية، فسأله عن سبب الكسر ليجيب سعيد بأنها كُسرت بالخطأ وهي في جيبه، ليرد الضابط بريبة واستعلاء: "ولمْ تكسر إلّا عند كلمة الجمهورية؟ هل تريد أنت أن تكسر عند هذه الكلمة تحديداً؟".

مثل هذه الحوادث تُظهر كيف تجري تنمية الخوف في تفاصيل قد تبدو بلا قيمة، وحين تتسبب حوادثُ صغيرة بخوف الناس، ينعكس داخلهم خوفٌ أكبر من تصرفات جوهرية كالمطالبة بحقوقهم، أو نقد النظام بشكل علني. وضعُ الناس موضع شكّ طوال الوقت هو طريق لزراعة الخوف في الأفراد، والسيطرة عليهم بشكل أوسع وأكثر تأثيراً.

من جهة أخرى تكشف الكثير من المواقف جهل الحواجز وانغلاقها، فكثيرٌ من عناصرها أُخذ إلى الخدمة العسكرية عندما بلغ الثامنة عشر، وهذا ينعكس في كثير من الأحيان على قدرة عناصر الحاجز على التعامل مع الموقف وفهمهم للآخر. يروي أمجد القادم من السويد لزيارة عائلته أنه كان يمر عبر الطريق العسكري على الرغم من أنه لا يعمل في المجال السياسي والعسكري، وكان يُظهر للعناصر بطاقة الإقامة السويدية. في الغالب يرتبك العناصر الذين لا يتقنون الإنكليزية، أو أي لغة أخرى ويسمحون له بالمرور دون تفتيش!

تتقاضى الحواجز الأمنية الأموال مقابل عدم تفتيش السيارات، أو للإسراع في تمرير بعضها عبر الطريق العسكري المخصص لمرور السيارات الأمنية. يقول "نادر" أن كلفة المرور دون تفتيش تتغير من حاجز لآخر ومن ضابط كبير إلى عسكري صغير، وتصل إلى عدة آلاف من الليرات.

يبين هذا الموقف حال عناصر الحواجز، فهم أفرادٌ توقفت حياتهم عند الخدمة العسكرية، وفي الحقيقة لا يريد النظام لعناصره بلوغ مستوًى أعلى من الإدراك، فالسيطرة على الناس لا تتم دون السيطرة على عناصر الأمن والجيش، وهي في الوقت نفسه تُبين خوف عناصر النظام من النظام ذاته. فحتى لو تمّ الشكّ بأن البطاقة الأمنية مزورة، أو مجرد كذبة ثم ظهر العكس، فسيتعرض العناصر لمحاسبة قاسية، لذا تصديق أن صاحب البطاقة يعمل في الأمن، أو في أي جهة سياسية أخرى هو طريقة لتجنب عقاب محتمل!

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه