التطبيع مقابل رفع العقوبات: هل ينتهي الابتزاز الأمريكي للسودان؟

على الرغم من الارتباك ومن كل الارتدادات الرافضة، عاد الوضع ليفرض التطبيع، الآن وحالاً، كما أرادت له الدائرة الضيقة. لكن لماذا؟ رضوخاً للابتزاز الأمريكي وللضغوط الإماراتية، وأملاً من الجناح العسكري في الحكم بدعم أمريكا وإسرائيل له للتخلص من الجناح المدني.
2020-11-03

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الإمارات تمنح السودان 67 ألف طنا من القمح مباشرة بعد الإعلان عن التطبيع مع إسرائيل.

هزّ قرار التطبيع مع إسرائيل الساحة السياسية في السودان، فانقسمت على نحو حاد إزاء هذا التطور الكبير في موقف بلاد عُرفت بعدائها لإسرائيل. والانقسام ليس مرده فقط الموقف المبدئي الرافض قطعياً للتطبيع، والذي تتبناه أحزاب سياسية رئيسية داخل التحالف الحاكم -"الحرية والتغيير"- بل حول طريقة اتخاذ القرار الذي تم خارج الأطر المؤسسية، وفي دائرة ضيقة جداً من العسكريين والمدنيين. هذا إضافة إلى أن هناك قانوناً سودانيّاً سُن عام 1967 يُجرّم التطبيع مع إسرائيل، وهو ما زال قانوناً سارياً.

قبول شعبي ورفض سياسي

الحقيقة أن هناك تياراً شعبياً واسعاً يؤيد التطبيع بشكل عام، تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا التيار يعتقد أن التطبيع سيُخرج البلاد من الويلات إلى الانفراج الاقتصادي، على اعتبار أن العزلة التي طوّق بها الرئيس المخلوع عمر البشير البلادَ هي سبب رئيسي في الانهيار الاقتصادي. وعلى الرغم من هذا الصوت الشعبي الظاهر، والذي يبدو أن المكون العسكري جعله سنداً وبديلاً للحاضنة السياسية للحكومة، إلا أن ارتدادات زلزال التطبيع لا تزال فاعلةً في المشهد السياسي.

تحالف "الحرية والتغيير"، وهو المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية، كان قد أعلن في بيان مطوّل أن الحكومة الانتقالية غير مفوضة باتخاذ قرار بحجم التطبيع مع إسرائيل، وهو كان الموقف الرسمي أيضاً في بيان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عقب لقائه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال زيارته للخرطوم في آب/ أغسطس الماضي. والمعلوم للجميع أن مؤسسات الحكم الانتقالي لم تكتمل، وعلى نحو خاص البرلمان الانتقالي. لكن سرعان ما عاد الأمر إلى وضع يقول أنه لا بد من التطبيع، الآن وحالاً، كما أرادت له الدائرة الضيقة. لكن لماذا؟

التطبيع شرط أمريكي خرج من السر إلى العلن

تفاجأ السودانيون بعد إنجاز ثورة كانون الأول/ ديسمبر التي أطاحت بنظام عسكري قمعي، أنهم لا يزالون في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأن الطريق ما زال متعثراً مع الإدارة الأمريكية. وعلى الرغم من أن حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير خطت خطوات واسعة لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب، ضمن الاستجابة لحلقة طويلة من المطالب الأمريكية المتجددة، إلا أنه وبعد سقوط النظام الموصوم بالإرهاب، اصطدمت الحكومة الانتقالية في السودان بعقبات جديدة تزعم الإدارة الأمريكية بأنها سيرورة ( Process) مرتبطة وثيقاً بنظام المؤسسات الأمريكية، واستيفاء شروط الإزالة من قائمة الإرهاب.

لكن الإدارة الأمريكية نفسها ضربت بهذا الـ (Process) عرض الحائط، وحطم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أسطورة "أميريكا دولة مؤسسات" حينما وضع وزير خارجيته، مايك بومبيو، أمام حكومة السودان الانتقالية بصراحة بالغة شرط التطبيع مع إسرائيل مقابل إزالة اسم السودان من القائمة الأمريكية، وبضعة ملايين من الدولارات لدعم الحكومة الانتقالية المتعثرة. التطبيع شرط جديد بعدما كان الأمر متوقفاً على دفع حكومة السودان تعويضات ضحايا المدمرة "كول" وتفجير السفارتين الأمريكيتين بدار السلام ونيروبي والبالغة 350 مليون دولار. وقبيل القرار الأمريكي بإزالة اسم السودان من القائمة، أعلن الرئيس دونالد ترامب بفجاجة على صفحته الرسمية أن قرار إزالة السودان من القائمة سيصدر حال يتم توريد المبلغ المذكور.

تحالف "الحرية والتغيير"، وهو المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية، كان أعلن أن هذه الحكومة غير مفوضة باتخاذ قرار بحجم التطبيع مع إسرائيل. وهو كان الموقف الرسمي أيضاً لرئيس الوزراء عقب لقائه وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته للخرطوم في آب/ أغسطس الماضي. ومعلوم للجميع أن مؤسسات الحكم الانتقالي لم تكتمل، وعلى نحو خاص البرلمان الانتقالي.

حكومة البشير، لو لم تسقط، لكانت اتخذت قرار التطبيع مع إسرائيل تحت الابتزاز الأمريكي. والحكومة الانتقالية المحاطة بالأزمات لم تجد خياراً آخر غير مواصلة الطريق الذي سلكه البشير. وقد كشف نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو، أن البشير سعى للتطبيع، لكن دون أن تُكلل مساعيه بالنجاح لتمنّع الطرف الآخر، ونقل موقع (Axios) الأمريكي أن الرئيس المخلوع أجرى اتصالات مع ضابط مخابرات إسرائيلي في محاولة منه للتمسك بالسلطة. وعلى الرغم من أن شرط التطبيع لم يكن معلناً في الحوار السوداني الأمريكي، لكن يبدو أن حكومة البشير كانت تدرك أن التطبيع هو بوابة الخروج من القائمة السوداء.

أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر2017، فاجأ الرئيس السوداني عمر البشير العالم بزيارة إلى روسيا، وبصريح العبارة طلب البشير من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "الحماية من أمريكا". في ذات الوقت، كان الحوار السوداني الأميركي قد طوى المرحلة الأولى التي كُللت برفع العقوبات الاقتصادية مطلع 2017، فيما تبقت المرحلة الثانية والأهم، وهي إزالة السودان من قائمة رعاة الإرهاب. لكن البشير كان يدرك أن هذا الحوار لن ينتهي إلى أهدافه الكلية دون المزيد من الشروط الأمريكية الصعبة والمتجددة، على الرغم من استعداده التام لتقديم المزيد من التنازلات. أدرك تماماً أن الابتزاز الأمريكي لن يتوقف، فأراد التلويح بأنه في غنًى عن الولايات المتحدة.

عقب انفصال جنوب السودان في تموز/ يوليو 2011، كانت توقعات حكومة البشير أن تُرفع العقوبات الأمريكية عن السودان، وأن ينجو البشير من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، طبعاً مقابل فصل الجنوب، والذي أقر به لاحقاً وبعض قيادات حزبه بأنه كان مشروعاً أميريكياً (أي الانفصال)، وأكد على ذلك وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف خلال مؤتمر صحفي شهير في نيسان/ أبريل 2017، إذ قال إن إدارة أوباما طلبت من حكومة السودان فصل الجنوب مقابل نجاة البشير من الملاحقة، وطلبت من الحكومة الروسية وقتذاك لعب دور في هذا الصدد لما تتمتع به من علاقات جيدة مع حكومة البشير. واضطر وزير خارجية البشير آنذاك إبراهيم غندور للاعتراف، إذ قال "الانفصال مؤامرة وقبِلنا بها".

الإدارة الأمريكية تذرعت بوجود "إجراءات" تخص رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، ثم ضربت بهذه عرض الحائط، حينما أدلى مايك بومبيو بصراحة بالغة بشرط التطبيع مع إسرائيل مقابل إزالة اسم السودان من القائمة الأمريكية، ومعه بضعة ملايين من الدولارات لدعم الحكومة الانتقالية المتعثرة.

عقب انفصال جنوب السودان في تموز/ يوليو 2011، كانت توقعات حكومة البشير أن تُرفع العقوبات الأمريكية عن السودان، وأن يُنجي البشير نفسه من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية. كان ذلك طبعاً مقابل فصل الجنوب، والبشير أقر لاحقاً بأنه كان مشروعاً أميريكياً، كما فعلت بعض قيادات حزبه، قائلة "الانفصال مؤامرة وقَبِلنا بها".

الخلاصة أن البشير وضع مصيره ومصير بلاده تحت طائلة الابتزاز الأمريكي، والذي يبدو بوضوح أن لا فكاك منه على المدى القريب. الحكومة الانتقالية تشكلت بالأساس من قوًى سياسية وقوًى عسكرية ذات ارتباطات وثيقة بالإمارات العربية المتحدة، وهي التي احتضنت وسهّلت بشكل كبير المحادثات بين السودان، والولايات المتحدة وإسرائيل. وعقب الإعلان عن التطبيع بعد مكالمة رباعية ضمت البرهان، حمدوك، ترامب، ونتنياهو، أعلنت الإمارات العربية المتحدة إرسال دفعة أولى من منحة قمح يبلغ قدرها 67 ألف طن.

ويُذكر أن الإمارات والسعودية تعهدتا بعد سقوط البشير بدعم الحكومة الانتقالية بما قيمته 3 مليار دولار، تم دفع جزء منها، فيما أمسكت عن مواصلة الدعم دون توضيح الأسباب. لكن وزير الخارجية المكلف، عمر قمر الدين، قال في وقت سابق لصحيفة "التيار" السودانية إن تحفّظ بعض الدول عن دعم الحكومة الانتقالية مردّه إلى أنها غير مطمئنة للشراكة بين العسكريين والمدنيين.

لماذا يهرول العسكريون للتطبيع؟

في شباط/ فبراير الماضي، فجر رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان الساحةَ السياسية بلقائه المفاجئ برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية. وقاد ذلك اللقاء الذي تم دون مشاورة مجلسي السيادة والوزراء، إلى استفهامات كبرى لم يفلح المدنيون في إزالتها حتى وصول الأمر إلى إعلان التطبيع.. كان واضحاً منذ البداية سعي رئيس مجلس السيادة، ونائبه محمد حمدان دقلو لإقامة علاقات مع إسرائيل، وكان أكثر وضوحاً أن هذا السعي سيكلل بالنجاح رضي من رضي وأبى من أبى.

الحكومة الانتقالية تشكلت بالأساس من قوًى سياسية وأخرى عسكرية ذات ارتباطات وثيقة بالإمارات العربية المتحدة، وهذه الأخيرة هي التي احتضنت وسهّلت المحادثات بين السودان والولايات المتحدة وإسرائيل عقب الإعلان عن التطبيع. وبعد مكالمة رباعية ضمت البرهان، حمدوك، ترامب ونتنياهو، أعلنت الإمارات العربية المتحدة إرسال دفعة أولى من منحة قمح يبلغ قدرها 67 ألف طن.

وبعد إعلان التطبيع مع إسرائيل، بالطريقة التي تمت بها إدارة الملف، تتصاعد المخاوف من سيطرة العسكريين على السلطة بدعم إقليمي إسرائيلي أمريكي، خاصة أن لا مقاومة تُذكر من جانب المدنيين لرفض طريقة اتخاذ القرار على أقل تقدير. وهو الأمر الذي سوف ينعكس مباشرة وأداً لديمقراطية ناشئة في ظل تغييب وغياب المكون المدني من الفعل السياسي الكبير، بعد ثورة سلمية أذهلت العالم.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه