سِجَالاَت الفيسبوك المغربي: استقطابات وَقودها الانفعالات

لا ينفك السواد الأعظم من المغاربة عن التسكع في حساباتهم الزرقاء من أجل مناقشة ومشاركة كل صغيرة وكبيرة، مهما كانت درجة حساسيتها وأهميتها. لذا تحولت المنصة - مع الوقت - إلى فضاء يسع الكل ضد الكل، خاصة عندما تطفو على السطح سجالات القضايا المجتمعية الحساسة والشائكة، التي غالباً ما تثير المزيد من الاصطفافات والاستقطابات.
2020-10-29

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك

لدينا أشخاص ومجموعات دون أفكار، دون قيادة ولا وجهة، دون برنامج، دون استراتيجية، ودون لغة. إنه الصمت..
آلان تورين
***

بدأ الفيسبوك بالمغرب غريباً، صغيراً، وشِلَلياً. مجرد متنفس للتعارف بين الأصدقاء المقربين. ثم تحول إلى منصة لتبادل الصور والتعليقات، فالأفكار والآراء... إلى أن صار عملاقاً أخطبوطياً، وثانياً من حيث المواقع المتصفَحة، بعد منصة غوغل.

وفق تقديرات إحصائية، يمضي المغاربة في المتوسط أكثر من ثلاث ساعات في تصفح الفيسبوك على جهاز الهاتف. لكن الواقع يؤكد أن الوقت أكثر من ذلك. فالسواد الأعظم من المغاربة لا ينفكون عن التسكع في حساباتهم الزرقاء من أجل مناقشة ومشاركة كل صغيرة وكبيرة، مهما كانت درجة حساسيتها وأهميتها. لذا تحولت المنصة - مع الوقت - إلى فضاء يسع الكل ضد الكل، خاصة عندما تطفو على السطح سجالات القضايا المجتمعية الحساسة والشائكة، التي غالباً ما تثير المزيد من الاصطفافات والاستقطابات.

القضية/الترند: استعراض لانفعالات عابرة

خلال الشهر الماضي، اشتاط غضب المغاربة في منصات السوشيال ميديا تفاعلاً مع حادثة اغتصاب وقتل الطفل عدنان بمدينة طنجة. التفاعل كان على أشده، والاحتجاج كان عنوان القصة، والمطالب لُخصت في جملة من كلمتين: إعدام الجاني.

مقالات ذات صلة

لم يكن كل المغاربة على قلب رجل واحد. الانقسام كان سيد الموقف. فالأغلبية طالبت بما يعرف في التشريع الإسلامي بـ"القصاص"، فيما فريق مقابل حاول بشكل أو بآخر أن يدافع عن رؤيته إزاء مسألة الإعدام باعتبارها عقوبة غير مجدية، وغير رادعة بشكل جذري لمثل هذه الجرائم، تحت مسوغ أنها لا تستهدف الجانب العقابي في نفسية الجاني، ولا تردع ولا تخفف من معدلات هذه الجرائم، بقدر ما تساهم في تكريس ثقافة تصفية الجسد المذنب في "الحياة الدنيوية" لينال جزاءه الإلهي في "الحياة الآخروية".

جلّ هذه المواقف كانت محمّلة بالمشاعر الغاضبة. والأسوأ أنها كانت مدجنة، و معظمها على نَفَسٍ واحد، إذ لا مجال للتعقل ولا لنقد الأفكار، ولا لمقارعتها بشكل مثمر بين الطرفين. ففي كل مرة تطفو فيها قضية كموجة "ترند" يتم تغذيتها بمزيد من الخطابات العاطفية لمستخدمي هذه المنصة.

لعل أبرز التعليقات كانت دعوة ثلّةٍ من المثقفين والباحثين المغاربة، وعلى رأسهم الباحث في الدراسات الإسلامية عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص)، بإعادة النظر في توزيع الإرث بين الجنسين بما يتوافق مع الراهن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمغاربة. لكن النقاش كان حبيس الردود الانفعالية، والكثير من الإساءة والتكفير.

كما لا تخلو هذه المشاعر من الشيطنة والتخوين بين الفريقين. وهو أمر حصل مع أحمد عصيد أحد الحقوقيين المؤثرين المعروفين بتوجهه العلماني الحداثي. إذ تعرض للهجوم بعد أن وصف المطالبين بالإعدام بأنهم "لا يقلون وحشية عن الوحش الذي يريدون الثأر منه". هذه جملة قد تبدو انفعالية ضمن تدوينة فيسبوكية، لكنها في النهاية سقطت تحت شراك التفاعل الانفعالي السريع. الأغلبية قرأت الخطاب بشكل مجتزأ، وتركت فحوى تدوينته، التي تختصر دعوته لإعادة النظر في العقوبات الشاملة لمنتهكي القصر والأطفال، بحمايتهم وضمان حقوقهم.

مقالات ذات صلة

هذا النوع من الترندات الفيسبوكية ليست بجديدة، بل ظهرت بشكل متواتر خلال السنوات الماضية، لعل أبرزها دعوة ثلّةٍ من المثقفين والباحثين المغاربة، وعلى رأسهم الباحث في الدراسات الإسلامية عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص) بإعادة النظر في توزيع الإرث بين الجنسين بما يتوافق مع الراهن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمغاربة. لكن النقاش كان حبيس الردود الانفعالية، والكثير من الإساءة والتكفير.الأمر نفسه حصل ومازال يحصل مع قضايا أخرى شائكة وحساسة. والتي عجزت النخبة وعموم المغاربة في الوصول إلى تصور توافقي حولها.

انتقائية وازدواجية

قضايا اغتصاب الأطفال والقاصرين، وسواها من القضايا الحساسة مجتمعياً ظلت دائماً مصدر توتر بالمغرب. إنما الإشكال يكمن في طريقة تعاطي الجمهور مع قضية دون غيرها، بطريقة تكرس ازدواجية المعايير والانتقائية، خاصة على الفيسبوك. كمثال على ذلك، تعاطى المغاربة مع قضية الطفل عدنان بشكل منقطع النظير. في حين، ابتلعوا ألسنتهم حيال انتهاكات الفقيه المُغتصب. ثم لاحقاً، جاء تعاطفهم مع الطفلة نعيمة بسبب انتمائها لجغرافيا هامش الهوامش.

والتساؤل هو: ما الذي يحرك المغاربة وسواهم من مستخدمي السوشيال ميديا في قضايا معينة، وبروزها على السطح كـ"ترند"؟ هل الأخلاقويات الضيقة؟ الاصطفافات والقطيعية؟.. أم الاستعراض وكفى؟

الجواب يكمن أولاً، وقبل كل شيء في استعراض المشاعر الآنية وتدجينها. وفيسبوك يستثمر في هذا المعطى كميكانيزم لتحريك المتابعين ضمن موجات أحداث عابرة (event trends)، لذا في الغالب لا يدلي المستخدمون بآراء تتأسس على حجج ونقد حقيقي، بقدر ما يصرخون ويُوَلْوِلُونَ، ويطلقون أحكاماً قيمة وانطباعات أخلاقوية، وأحياناً أيديولوجية جاهزة، تعزز من فرص الاصطفافات الأشبه بانتماءات مشجعي كرة القدم المتعصبين.

إضافة إلى ما سبق، يحرّض فيسبوك مشاعر المغاربة، وسواهم من المستخدمين حول العالم، نحو الفعل والمشاعر الآنية حيال قضية ما، أو مسألة شائكة أخلاقياً ومجتمعياً. يدفعهم نحو الردود والآراء العائمة نفسها في الموجة، بغية تبني أحاسيس وانطباعات الحشد دون تحرر من شوائب الخطابات الدوغمائية والشعبوية والأخلاقوية. فقط يرميهم نحو هدف واحد: استهلاك كل شيء دون تفكير مسبق..

خوارزميات في خدمة الاستقطابات

يمكن تصنيف الاستقطاب كآخر مرحلة يصل إليها نقاش مجتمعي مثير للانقسام بين المغاربة على المنصة الزرقاء. هذه المرحلة مهمة لزيادة التشويق. فيسبوك أشبه بحلبة ملاكمة: فمن سيكسب القضية إذاً؟ في الحقيقة .. لا أحد ! الموجة /الترند تصل إلى أعلى مستوياتها، ثم تموت وتحيا من جديد، وهكذا دواليك.. هذا يفيد المنصة في زيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون، وبالتالي كسب انتباهم طيلة اليوم.

"إن خوارزمياتنا تستغل انجذاب العقل البشري إلى ما يبث الانقسام"، يقول خبراء من شركة فيسبوك، مؤكدين بأنه يفاقم في أحيان كثيرة عملية الاستقطاب وسلوك القبيلة.

يعود أصل هذا الداء إلى ما يصطلح عليه تقنياً بـ"فقاعات الترشيح" (filter bubble)، إذ تقوم خوارزميات فيسبوك، وسواه من المنصات المعنية بجمع البيانات الضخمة ( Big data) بإدماج المستخدمين في فقاعة يرون فيها ما يعجبهم فقط على المنصة من صور وآراء ومحتوى كيفما كان نوعه. هذه العملية تتم عبر توظيف المعلومات الشخصية للمستخدم وتصنيفه ضمن فقاعة تتضمن أصدقاء وصفحات وفيديوهات ومحتوى يتوافق مع أفكاره ومعتقداته وميوله وأذواقه. وهكذا يتم ضمنياً توزيع المستخدمين كمنتجات مصنفة وككتلة متجانسة، لا كفسيفساء متنوعة داخل نسق واحد.

يمكن تصنيف الاستقطاب كآخر مرحلة يصل إليها نقاش مجتمعي مثير للانقسام بين المغاربة على المنصة الزرقاء. هذه المرحلة مهمة لزيادة التشويق. فيسبوك أشبه بحلبة ملاكمة: فمن سيكسب القضية إذاً؟ في الحقيقة.. لا أحد ! الموجة (الترند) تصل إلى أعلى مستوياتها، ثم تموت وتحيا من جديد، وهكذا دواليك.. هذا يفيد المنصة في زيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون، وبالتالي كسب انتباهم طيلة اليوم.

بشكل ما، يستثمر فيسبوك في ميل دماغ الإنسان إلى البحث عن أشخاص من الخلفية الاجتماعية نفسها التي تشبهه. في هذه النقطة، يشرح السوسيولوجي بيير بورديو بأن "الأشخاص الذين لديهم رأس مال ثقافي واقتصادي مماثل يميلون إلى التجمع بسهولة قياساً بالأفراد الذين لديهم سمات اجتماعية مختلفة". هذا التشابه يقوّي من معطيي التقليد والقطيعية، ما يسمح بالترابط مع الآخرين، ويغذي عمل مواقع التواصل الاجتماعي بالاستقطاب في الآراء.

أفق مظلم..

في النهاية، يبقى تخوّفٌ يلوح في الأفق حيال ما تصنعه هذه التجربة التواصلية، إذا ما استمرت في تعزيز محتوى الكراهية والعنصرية والتنمّر، وتكريس القطيعية والاستقطابات الأيديولوجية والأخلاقوية الضيقة، وتدجين الجماهير بخطابات شعبوية وإقصائية، وكثيرٍ من الاستعراض الكاذب .هنا المستقبل قد ينذر بالأسوأ، ليحاكي ما حبكته لنا حلقة "Hated in the nation" من السلسلة البريطانية "بلاك ميرور": سيناريو أسوأ ودموي يصل إلى حد قتل وتصفية (عن طريق النحل الصناعي) المؤثرين والمشاهير على هذه المنصات من قبل أشخاص يحركون الجماهير، ويسعون إلى توجيههم وتخديرهم بـ"أيديولوجيا الوهم" على حد تعبير ماركس. و بالتالي تجييشهم مثل النحل…

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه