"17 تشرين"

أظهرت التحركات أن قطاعاً كبيراً من اللبنانيين، من كل الأعمار والمناطق والمذاهب والحساسيات الفكرية والسياسية.. يُبدي انفكاكاً مدهشاً عن الاستقطاب الطائفي والمذهبي. ولا شيء يمكنه أن يفسر هذا الانفكاك سوى ظهور عجز "الصيغة" التي قام عليها لبنان عن استيعاب من يُفترض أنهم أبناؤها: لقد لفظتهم ووضعتهم على هامش الحياة، كأفراد وككتل اجتماعية.
2020-10-16

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
من مظاهرات 17 تشرين 2019

مرّ عام على ذلك الانتفاض الذي انطلق من شرارة "تافهة": ضريبة على الواتساب! تافهة وغير قانونية، سرعان ما قامت الشركة العالمية بالضرب على أصابع الوزير الذي مررها في الحكومة، فتبرأ بتلعثم، وكعادة سائر المسؤولين، بقدر من الالتفافات المضحكة، ما يسمونه في اللغة الدارجة "الكذب". لا يهم. لماذا كانت تلك هي الشرارة التي سرعان ما نسيتها التحركات، وذهبت إلى "إسقاط النظام" وليس أقل. لأن تفاهة الإجراء كانت فجةً بشكل يثير الصدمة والاشمئزاز، علاوة على السخرية التي لم تتأخر في الحضور. نوع من القطرة التي تُطفح الكيل. ولكن وأيضاً والأهم، لأن الإجراء عبّر عن عمق الموقف: حكامنا مبتذلون ونهّابون في آن، جهلة وأغبياء ومتسلطون. فأعوذ بالله، هذه معاً أبشع الصفات، وهي تبدو كشتائم، ولكنها وصفٌ دقيق للوضع، بينما انهالت بالفعل بعد ذلك الشتائم على المسؤولين، وكانت أحياناً تتناولهم بالاسم، فاعتُبرت جزاءً مستحقاً.

مقالات ذات صلة

أظهرت التحركات التي تنضوي تحت العنوان العام لـ 17 تشرين، والتي استمرت لأشهر بزخم قوي بل متصاعد، وعمّت كل لبنان من أقصاه إلى أقصاه، أظهرت خصائص قائمة في الاجتماع اللبناني غالباً ما يجري تجاهلها لقوة سائر الخصائص المناقضة لها من جهة، ولرسوخ التصور السائد عن لبنان من جهة أخرى: بلدٌ الاستقطابُ الطائفي فيه هو سيد الموقف، وهو استقطابٌ يُخفي تقاسماً للثروة والسلطة أشد أهمية من المشاعر والانفعالات والعصبيات الطافية على السطح. تقاسمٌ، صحيحٌ أنه رجراج ومأزوم، وتجري بصورة دائمة محاولات لتعديله بشكل صريح أو بالتشاطر، ولكنه في أساس قيام البلد، فيبدو "مقدساً". وهذا ما أعلنه حزب الله مثلاً، الذي وُلد من خارج تلك "الميثاقية"، مستكملاً اندراجه في "الصيغة اللبنانية" - التي بدأت من سنوات - بدفاعه المستميت مؤخراً عن هذا "التوافق"، واعتبار أنه لم يحن وقت تعديله.. علماً أنه، وفي واقع الحال قد عُدّل مراراً، ولا يزال يبتلع تعديلات متتابعة تجري بحكم الأمر الواقع.

أظهرت التحركات أن قطاعاً كبيراً من اللبنانيين، من كل الأعمار (وإن كان شبابيّاً على الأغلب)، ومن كل المناطق، ومن كل المذاهب، ومن كل الحساسيات الفكرية والسياسية، بل والانتماءات، يبدي انفكاكاً عن الاستقطاب الطائفي والمذهبي. من يمكنه أن ينسى التحيات المتبادلة بين طرابلس والنبطية وصور، أو بينها وكسروان. ولغير اللبنانيين وللتوضيح، فهي تقصد القول أن مدينة طرابلس "السنية الطابع" (مع أن الواقع لا يوافق الإطلاق هنا، ولكنه موضوع آخر) تحيي مدناً شيعية أو مناطق مارونية. التحية الأولى تطلق في عز التوتر الجديد القائم بين المذهبين، والأخيرة في استعادة لذكر التوتر التقليدي الذي سبقه. كما هتفت هذه المدن والمناطق لطرابلس التي دائماً ما اعتبرت خارج إطار "اللبنانية"، لعروبتها الشديدة أو إسلاميّتها.. وأُطلق عليها لقب "عاصمة الثورة" و"جنة لبنان".. وجاءتها وفودٌ وأرسلت هي وفوداً!

وفي ساحة بيروت خصوصاً، وهي منطقة ممتدة داخل وسط المدينة وعلى أطرافها، اختلط الكل بالكل، (كما هي السوسيولوجيا الفعلية للعاصمة). وإن كان التساؤل عن مقدار عمق ورسوخ هذا التجاوز للطائفية مشروعاً، إلا أنه قد أعلن عنه، وهذا لا يقل مشروعية. وقد حدثت ظاهرة مشابهة في تحركات صيف 2015 استنكاراً لتراكم النفايات في شوارع العاصمة، التي عبرت هي الأخرى في حينه عن مقدار احتقار الحكام للناس، واستهتارهم بهم، وتعاميهم إلا عن مصالحهم المباشرة والمافياوية.

ما توالى بعد ذلك كان صورةً مضخمة للغاية عن ضريبة الواتساب تلك. فقد انكشف انهيار السلطة والثروة في آن! وأما الثروة فعمادها في لبنان النظام المصرفي. أغلقت البنوك أبوابها، وامتنعت عن تلبية طلبات مودعي الأموال فيها، ثم راحت تبتكر كل بضعة أيام تدابير غامضة، تبقى خلاصتها أن مدخرات اللبنانيين (وسواهم من المودعين) محتجزةٌ وغير متوفرة (إلا بالقطّارة وبشروط لا تفي بحاجاتهم)، ويرافق ذلك انهيار تام لقيمة العملة الوطنية التي ثُبِّتت لسنوات على سعر صرف مقابل الدولار، ظهر انه بلا أساس و"سياسي".. ما عزز الشائعات بان موجودات البنوك بُدِّدت، أو سرقت، وبكل الاحوال تبخرت. وأما السلطة فانهارت ليس لكون سعد الحريري استقال من رئاسة الحكومة، ساعياً لتبرئة نفسه من المآل الذي وصلت إليه الأمور بينما كان على رأس موقعه في الحكم لسنوات، وإنما لصمت كافة المسؤولين المطبق. لم يصدر أيُّ تفسير يشرح ما يجري للناس، حتى ولو برواية تبريرية كاذبة. واكتفى بعض رموز السلطة بتحريك مجموعات من أزلامهم، سواء كانوا بلباس الشرطة الرسمي أو كانوا مدنيين، حين "تمس هيبة الزعيم"، وجرت محاولات لسحب، أو لقمع شعار "كلن يعني كلن" (العبقري حقاً في بلد بمعطيات لبنان، والذي جرت استعادته في سائر الانتفاضات المتزامنة في المنطقة وبالأخص في العراق)، كانت نتيجتها الإصرارَ عليه، بإضافة اسم كل واحد من الأقطاب في جملة تقول "وفلان واحد منهم"، حسب المناسبات والظروف والأماكن!

ثم حدث ما يحدث عادة، من إنهاك وتلاعب وقمع، علاوة على طارئ هو جائحة كورونا التي أسماها كاتبنا عمر بن درة في نصه عن الجزائر "منحةً إلهية". وحدث خصوصاً ما يتكرر في كل مكان من اصطدام بجدار عجز هذه الانتفاضات – مهما بلغت من الإصرار ومن قوة جماهيريتها - عن تحقيق إنجاز فعلي، وهو ما يطرح سؤال "الكيفية" بعمق وبشكل مصيري، يجري تلمّس ملامحه في نصوص ينشرها السفير العربي تباعاً، وستصدر في دفترين بعد اكتمالهما، عنواناهما "انتفاضات 2019 الكبرى: نتائج مبتورة"، و"انتفاضات 2019: إبداع تأسيسي".

وفي لبنان، وعلاوة على كل ذلك، فهناك ما يبدو أنه وصول المنظومة القائمة إلى نهايات وجودها وهو ما لا يعني توفر بدائلها، بل انفتاح الاحتمالات على أزمة مديدة ووجودية وقد تتخللها فترات عنف متنوع الخصائص، سياسي أو اجرامي بحت. وبكل الأحوال، فلا شيء يمكنه أن يفسر أصلاً الانفكاك الموصوف أعلاه، سوى ظهور عجز هذه المنظومة عن استيعاب أبنائها: لقد لفظتهم ووضعتهم على هامش الحياة، كأفراد وككتل اجتماعية. وجاء انفجار المرفأ المهول ليجسد الخراب القائم، بشكل مادي ورمزي معاً.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...