الثورة والسلطة، جدلية الريف والمدينة: حلب نموذجاً

شكّل الانقلاب العسكري الذي قام به حزب البعث في 8 آذار 1963، تغييراً جذرياً في شكل الحكم وبنية الطبقة الحاكمة السورية، إذ قام باستبدال الحكم البرلماني لممثلي البرجوازية المدينية والإقطاعيين وملاك الأطيان والقرى، بحكم شمولي لحزب واحد يمثل فكر البرجوازية الصغيرة ذات البرنامج التغييري القومي - الاشتراكي، ويعتمد في ذلك على نفوذ أعضائه في الجيش وبين الفلاحين. كان الحزب قد انتشر في الريف
2013-02-20

وجيهة مهنا

أستاذة الاقتصاد السياسي من سوريا


شارك
في انتظار الماء، شمال حلب

شكّل الانقلاب العسكري الذي قام به حزب البعث في 8 آذار 1963، تغييراً جذرياً في شكل الحكم وبنية الطبقة الحاكمة السورية، إذ قام باستبدال الحكم البرلماني لممثلي البرجوازية المدينية والإقطاعيين وملاك الأطيان والقرى، بحكم شمولي لحزب واحد يمثل فكر البرجوازية الصغيرة ذات البرنامج التغييري القومي - الاشتراكي، ويعتمد في ذلك على نفوذ أعضائه في الجيش وبين الفلاحين. كان الحزب قد انتشر في الريف السوري الأكثر فقراً وتهميشاً، ومنها مناطق الأقليات الطائفية، وظل عاجزاً عن الدخول إلى المدن الكبرى. وكان ذلك بداية لظاهرة ستتعزز على المستوى الاجتماعي والسياسي، وهي توصف باجتياح الريف للمدينة السورية وغلبته عليها.

تأميم واصلاح زراعي منقوصان

حمل البعث معه مجموعة من التدابير الثورية، المتمثلة في التأميم وقوانين الإصلاح الزراعي. ويبدو اليوم أن العيب الأساسي المرافق لتلك القوانين يتمثل في عدم وجود حد أدنى لتوزيع الأراضي المصادرة وأراضي الدولة، ما ساهم في تفتيت الملكيات الزراعية، من دون التمكن من تحويلها إلى وسائل إنتاج وطنية، ومن دون إحداث تغيير حقيقي على مستوى علاقات الإنتاج، وخاصة مع دخول الدولة كرأسمالي يرسم خطط الإنتاج والتوزيع والتسويق. وغالباً ما نال المزارعون قطعاً صغيرة جداً من الأرض، بالكاد تكفي لبقائهم ضمن حدود الكفاف. وهكذا بدأت موجة الهجرة الأولى الكبرى منذ أواسط الثمانينيات، نتيجة ضمور الاهتمام الحكومي بالقطاع الزراعي، واعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادي التحرري الثاني بدءاً من عام 1986 والذي ألغى كأمر واقع، من خلال تزايد التهريب، تحكم الدولة بالتجارة الخارجية. وقد وقع ذلك على الارجح نتيجة تراجع الدعم المالي الخليجي للنظام السوري، على اثر أحداث الإخوان المسلمين 1979-1982، ما تسبب في ندرة الموارد المالية ووصول الدولة إلى حافة الإفلاس. حدثت حينها موجات غلاء وفقدان للمواد الاستهلاكية الرئيسية لعدة سنوات متتالية. والهجرة الكثيفة وقعت بين صغار المستفيدين من العمل الزراعي الذين انتقلوا إلى ضواحي المدن بعد عجزهم عن البقاء كمزارعين مستقلين، أو أنهم انحدروا إلى مرتبة العمال الزراعيين وهم من أفقر طبقات المجتمع السوري وأقلها حماية قانونية.
ظل أصحاب الحيازات المتوسطة المستفيدين الحقيقيين من وصول البعث إلى السلطة. ونتيجة انتمائهم للبعث ومنظماته الفلاحية والتعاونية، صار أصحاب الحيازات المتوسطة هم الطبقة القيادية السياسية في الريف، بعد أن فقد كبار الملاكين وأصحاب الأطيان السلطة السياسية من دون أن يفقدوا بالضرورة ملكياتهم.

التطبيق على حلب

يقدر عدد سكان حلب بما يزيد على أربعة ملايين نسمة، أي ما يقارب ربع سكان سوريا، وذلك باعتماد أرقام المكتب المركزي للإحصاء لعام 2004، وهي آخر أرقام رسمية موثوقة، تحصي عدد سكان سوريا بـ 17.874.589. يقطن من الملايين الاربعة ما يقارب 2.5 مليون نسمة في منطقة جبل سمعان، التي تضم بالإضافة إلى مدينة حلب مدن حريتان والحاضر ودارة عزة والزربة وزمار وتل الضمان. ويمتلك ما يقارب 0.8 في المئة من سكانها حيازات زراعية، وتتركز فيها الصناعات الإنتاجية والهندسية، يعمل فيها ما يفوق 58 في المئة من قوة العمل في منطقة جبل سمعان، حيث يتوزعون على معامل الحلج وصناعات الأقطان والنسيج والصناعات المعدنية الثقيلة والكهربائية والإلكترونية، ويتركز فيها ما يقارب 30 في المئة من مجمل منشآت القطاع الخاص الصناعي في سوريا، مما يحولها بشكل عام إلى منطقة مدينية صناعية متجاوزة لحدود حلب الإدارية.
في حين ترتفع نسبة مالكي الحيازات الزراعية في ريف حلب المحاذي لتركيا إلى 4.12 في المئة من سكان الريف الشمالي، (وهي مناطق تشهد كثافة سكانية للسوريين الكرد، بنسبة 30 في المئة من سكان المحافظة) كعفرين وعين العرب التي تصل نسبة المشتغلين بالزراعة الى 60 في المئة من قوة العمل فيها، تنخفض نسبة الحيازة في الريف الشرقي الأكثر فقراً إلى 3 في المئة.
إن الطبقة الفلاحية الوسطى والكبيرة في ريف حلب (والريف السوري عموماً) أقامت علاقة متشابكة مع المستثمرين والمتعهدين القادمين من المدينة. وهم تقاسموا الدخول الزراعية مع الدولة، ما شكل خط صراع بينهم وبين الطبقات الفلاحية الدنيا والعمال الزراعيين، ما لبث أن تعمق مع تحول الشكل العام للإنتاج الزراعي إلى البضاعي، أي بإخضاعه لمنطق القيمة التبادلية، وهو ما حدث بدءاً من القانون الرقم 10 للعام 1991 المعروف بـ"قانون الاستثمار" الذي سمح للمستثمرين بأن يدخلوا في أي ميدان رئيسي من ميادين الاقتصاد السوري، ضمن شروط مشجعة. وترافق ذلك مع تحسين قوانين الضرائب، وكانت ختاماً لعملية الانفتاح الاقتصادي الثانية وذروة التغيير الهيكلي له. إلا ان ما حدث منذ تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة هو الانسحاب الكامل للدولة من قطاعات إنتاجية عدة، كان أبرزها الزراعة، ضمن مقاربة سورية حكومية منسجمة مع وصفة صندوق النقد الدولي، من دون توقيع اتفاق معه. تسبب ذلك في زيادة سريعة جداً لظهور الأيدي العاملة الرخيصة، مترافقاً مع تحول المتعهدين الزراعيين إلى ملاك كبار، رغم تعديل الحد الاعلى للملكية بشكل متكرر باتجاه خفض سقفها. إلا ان القاعدة المعتمدة كانت التجاوز على القانون، وعلى حد الملكية نفسه، بفضل الفساد في العلاقات الشخصية والحزبية والأمنية. فنجد أنه في عام 1969، كان سقف الملكية 120 هكتارا من الأراضي المروية، و460 هكتارا من الأراضي البعلية، وفي عام 1981، تقلص سقف الملكية الأعلى ليصبح 200 هكتار، لكن ازدادت نسبة أصحاب الحيازات التي تربو على 300 هكتار أو يزيد.

مرحلة الانفتاح الاولى وموجة الهجرة من الريف

إن تطور الريف السوري كان محكوماً عليه من قبل السلطة السياسية وقراراتها الليبرالية الأولى منذ عام 1973، أي مرحلة الانفتاح الأولى، وهي ما يسمى "التحرير في ظل النمو بقيادة الدولة"، إذ اعتمد النظام الجديد سلسلة من التدابير التي تستهدف الحصول على ثقة القطاع الخاص ودعمه، وأزيلت بعض القيود على الاستيراد. فاعتباراً من 1971، فتح الباب نسبياً للمستوردين المخولين من خلال نظام الواردات الاستثنائي، لاستيراد مواد كانت محظورة سابقاً، وكذلك للاستيراد دون تحويل القطع الأجنبي، واصدر عفو عن تهريب رؤوس الأموال. تعززت هذه التوجهات التحريرية الأولى في دستور 1973 الذي كفل الملكية الخاصة، ومنع المصادرات إلا للنفع العام. توافق ذلك مع ارتفاع العائدات النفطية وتزايد تدفق المال من مصادر خليجية بعد حرب تشرين 1973. تسببت موجة اللبرلة الاولى في إفقار الريف وهجرة أبنائه إلى حلب المدينة. بدأت موجات النزوح من الريف القريب لحلب، من حريتان وعندان ومارع وتل رفعت، وسكن النازحون في الأحياء الجنوبية والجنوبية الشرقية لحلب، كـ"صلاح الدين" و"سيف الدولة" و"الصاخور"، وهي أحياء شعبية منظمة (غير عشوائية) كثيفة سكانياً. وسكن أبناء "دارة عزة" في "الكلاسة". كما كانت الهجرة من مدينة الباب وريفها الشرقي إلى حي "طريق الباب" العشوائي. واتخذ مسار الهجرة الداخلية إطاره الجماعي العريض منذ أواخر الثمانينيات، بعد تدهور الحياة المعيشية للريف واتضاح أزمات الاقتصاد الزراعي السوري، وندرة فرص العمل في الخليج العربي.

موجة ثانية من الهجرة بسبب الجفاف

كانت فترة الجفاف 2006-2010 القاسية التي شهدتها سوريا، السبب الرئيسي في موجة الهجرة الكبيرة الثانية إلى مدينة حلب، يضاف إليها تراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الغذاء، وانسحاب الدولة من دورها الرعائي - التنموي للريف الزراعي في موجة التحرير الليبرالي الثالثة للاقتصاد المركزي السوري (فورة المراسيم والقوانين الإصلاحية الليبرالية المتخذة منذ 2006 )، ما تسبب في عودة المتعهدين/كبار الملاك وسيطرتهم على الأراضي الزراعية، وما ساهم في الزحف العمراني العشوائي، بالتالي في أزمة العقارات الخانقة.
كما كانت السنوات الأخيرة قبل اندلاع الثورة السورية قد حملت تغييراً في المشهد الاقتصادي في حلب، متمثلاً في انهاء عقوبة المدينة التاريخية بعد حوادث 1979-1982، الناجمة عن غضب سلطوي عليها إثر تعاطفها مع الحراك المناهض لحكم الأسد الأب حينها، بمن في ذلك تجارها وصناعيوها الذين دعموا العصيان المدني، وحاولوا قلب نظام الحكم البعثي. دامت العقوبة حتى وراثة بشار الأسد للسلطة عن أبيه، حيث اعتمد سياسة انفتاح تجاه الحاضرة المنسية، ما ادى الى ازدهار الأعمال والتجارة في السنوات الأولى من حكمه. وترافق ذلك مع فتح الأسواق التركية، ونشوء طبقة جديدة من رجال الأعمال الحلبيين.

المنافسة التركية

إلا ان أزمات الانفتاح غير المشروط على الأسواق التركية، ومنافسة البضائع التركية لتلك السورية، تسببت في معاناة البرجوازية الصغيرة الحرفية في مدينة حلب من الركود الشديد على مدى عامي 2009-2010، وتراجع أعمالها أو توقفها. كما أثر سلباً تهميش القطاع العام في الخطتين الخمسيتين الأخيرتين، والتركيز على قطاعات ربحية غير إنتاجية كالبنوك والفنادق. دفع كل ذلك لأن تشكل الأحياء الطرَفية ومناطق سكن المهاجرين الريفيين، ما يشبه حصان طروادة في عمق المدينة الحلبية. وقد عانت هذه المناطق من عسف السياسات الحكومية، وتدني المستويات الخدمية. وشكلت نوعاً من التوازن القلق، بين ترييف المدينة، وتمدين الريفيين، ظل قائماً حتى أخذ التزايد السكاني الذي يتبع متواليات حسابية متصاعدة، يسبب خللاً في بنية المدينة ووظائفها، لم تستطع تحمله رغم ظهور آثار النمو الاقتصادي الكبير في قطاعات المال والتأمين والعقارات فيها، التي شكلت بدورها جاذباً للعمالة الرخيصة.

الانشطار كما ظهر

دفع اندلاع الثورة السورية في 15 آذار 2011، جميع الأزمات المحلية إلى الواجهة، وقادت المظاهرات الأولى المندلعة في شوارع حلب بعد شهر تقريباً إلى حالة اصطفاف جديدة في سوريا، إذ تشكل حلفان متناقضان، في حال من المواجهة، يتمثل أحدهما بالسلطة وأجهزتها الأمنية وقواتها العسكرية وجهاز حزب البعث المدني، يسانده تكتل رجال الأعمال المستفيدين من أرباح فترة الانفتاح السابقة، علاوة على ذراع مليشياوي للسلطة متمثل في عشائر عربية سنية كان أبرزها آل "بري" أو عشائر كردية كـ"الماردل"، وهم يعملون تاريخياً في تجارة المخدرات والتهريب، يضاف إلى كل هؤلاء شبكة علاقات طائفية تمتد بين رجال الدين الأرمن والمسيحيين والمسلمين "الرسميين"، في مواجهة الحلف الثاني القائم على الريف الحلبي أساساً وقاطني المدينة من أصول ريفية، وشباب الطبقات الوسطى المتعلمة، عبر حراكهم في جامعة حلب التي يتشكل القسم الاعظم من طلابها من أبناء الطبقات الوسطى في مدن محافظات الشمال، من الرقة وحلب وإدلب، وكذلك أبناء عائلات الفلاحين الميسورة، في حين تفضل الشرائح العليا التعليم في الجامعات الخاصة.
في البداية، كانت أحياء صلاح الدين والصاخور وبستان القصر والسكري والكلاسة وجامعة حلب، مراكز أساسية للمظاهرات السلمية، في حين كان الريف الحلبي وامتداده في إدلب قد بدأ بالانتقال التدريجي إلى الحالة المسلحة. وهو ما حدث نتيجة عنف السلطة حيالها، التي اكتفت بالاعتقال الكثيف والضرب المبرح والتعذيب لمتظاهري حلب. وكان واضحاً أن هناك قرارا سياسيا/أمنيا بعدم السماح بالتفريط بحلب مهما كان الثمن، ما تسبب بنشوء اختلال جديد بين الريف المشتعل والمدينة الهادئة نسبياً. ودام هذا الوضع لسنة وبضعة شهور، حتى انتقل السلاح إلى المظاهرات في الداخل الحلبي، وتحولت بذلك مناطق صلاح الدين والصاخور والشعار إلى بؤر مشتعلة.
وبينما مناطق معينة، لاعتبارات مختلفة، منها الطائفي والعرقي، ومنها الطبقي، قد احجمت عن الالتحاق بالانتفاضة أو أنها أيدت السلطة، التحقت بها جميع أحياء حلب الشعبية الفقيرة، وخصوصاً حزام الفقر الجنوبي والشرقي، وأحياء حلب القديمة (عدا أحياء السريان والأرمن). وهكذا بقيت أحياء الشرائح الوسطى والغنية في وسط وغربي المدينة تحت سيطرة الجيش النظامي، لأن ابناءها فضلوا الحفاظ على مكتسباتهم وتجنب الانخراط في مغامرة قد تؤول إلى الخسارة الكلية، كما حدث في الثمانينيات. وهذا ما شكل خطوط تماس تفصل بشكل حدّي بين حلب الغنية وتلك الفقيرة.

 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

أزمة الجفاف في إقليم الجزيرة السوري

وجيهة مهنا 2013-11-27

بدأت، منذ منتصف العقد الماضي، التغيرات المناخية الكونية ترخي بظلالها الثقيلة على البيئة المحلية السورية. حلَّ الجفاف في عموم البلاد، لكن إقليم الجزيرة كان ضحيته المباشرة، حين ترافقت موجات الجفاف...