البالونات الحارقة وحقل الألغام في غزَّة

التكتيك مدروس، وقد امتلكت حماس سلاحاً مزعجاً لإسرائيل، دون أن تتبناه بشكل مباشر. ويمكنها إيقافه بإشارة مرهونة بالتفاهم وتحقيق المطالب الشعبية. كما اعتبرتها سانحة سلمية للضغط وتحقيق بعض المطالب، والتملص من أيّ انجرار نحو تصعيد حقيقي بينها وبين الاحتلال. أنه تمثيل لساحة حرب بثوبٍ جديد يتبناه عموم الناس المحاصرين في القطاع.
2020-09-12

عبد الله أبو كميل

صحافي من غزة


شارك
بالون حارق.

تتصدر البالونات الحارقة مشهد الرفض لحالة الحصار في قطاع غزَّة، والتي أعيد تفعيلها مطلع آب/ أغسطس، بعد تعثر الوصول إلى تفاهمات بين المقاومة وإسرائيل. وكانت قد عقدت هدنة في كانون الثاني/ يناير، بوساطة مصرية قطرية شريطة إدخال المنحة المالية القطرية، والبدء بمشاريع تنموية اقتصادية لسكان القطاع، وفتح جميع المعابر المؤدية إلى غزَّة، يقابلها وقف لمسيرات العودة وكسر الحصار، وتجميد كافة الأساليب الخشنة (إطلاق البالونات، الإرباك الليلي).

العودة لإطلاق البالونات الحارقة باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة تعبر عن رفض الحصار المفروض على القطاع، والذي جعل الحالة الاقتصادية تصل إلى أدنى المستويات المعيشية. إلَّا أنَ إسرائيل ردت على ذلك بإغلاق المعابر أمام سكان القطاع، وأعلنت منع دخول كافة السلع والوقود عدا المستلزمات الطبية، بالإضافة لاستهداف المواقع العسكرية، تجسيداً لتصريحات زعيمي الحكومة بنيامين نتنياهو وبيني غانتيس: "غزَّة ستدفع ثمناً باهظاً، والرد سيكون قوياً طالما هناك إطلاق بالونات". لنستذكر قرار المجلس الوزاري المصغر "الكبينيت"، في بداية انطلاق مسيرات العودة التي هدفت لكسر الحصار في سنة 2018، "سنرد عسكرياً على كل مطلقي البالونات والطائرات الهوائية"، وهو الرد الذي أوقع آلاف الجرحى ومئات الشهداء من الشباب المشاركين.

لقاء حذر مع مطلق بالونات

للتعرف عن قرب على آلية إطلاق البالونات، ووحدات الإرباك الليلي على الحدود المحاذية للسياج الأمني الإسرائيلي المؤقت شرق قطاع غزَّة، كان لدينا موعدٌ في الواحدة ظهراً، بعد أن أبلِغتُ بالموافقة على المقابلة من المسؤول المباشر عن وحدة الإرباك الليلي وإطلاق البالونات في المحافظة الوسطى من القطاع. كان المكان مثقلاً بتحليق غير منقطع للمقاتلات الإسرائيلية في الأجواء. وتحت أشجار الزيتون الكثيفة كان اللقاء، وكان زملاؤه منهمكين في تجهيز دفعات جديدة من البالونات.

مقالات ذات صلة

هم يستخدمون أشياء بسيطة. بالون يملأ بغاز الهيليوم يضاف في ذيله موقدة مشتعلة، وشاب ثائر يعمل على "كبح المعادلة". أبو يوسف المقنع انقطع عن الحديث معي، وأعطاني إشارة بضرورة إخلاء المكان على الفور. رحلنا عن النقطة لمسافة بعيدة ليوضح لي، وهو في حالة ترقب أن المكان بات خطراً. هم مناضلون ولا يتلقون أي أجر أو راتب لأنّ رسالتهم واضحة: "نريد العيش كما العالم" قال أبو يوسف.

أبو يوسف ذاك استطاع في بعض الأحيان التغلب على شح غاز الهيليوم، العنصر الأساسي في إطلاق البالونات، من خلال وضع مادة هيدروكسيد الصوديوم في البالون بعد أن أحكم التصاقه بفوهة زجاجة بلاستيكية ممتلئة بالماء. ويبدو أن المادة تفاعلت كيميائياً، ونتج عنها انتفاخ البالون وبات مستعداً للانطلاق.

يَحْذر هؤلاء الشبان من إمكانية استهدافهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تغيير مكان الإطلاق في كلَّ مرة، وإخلائه بشكل تام وعدم العودة له مجدداً. ويضاف إلى هذا بعض المجموعات التي تعمل على إرباك الداخل المحتل من خلال تصميم هيكل طائر من الورق يكون بديل البالون، فيخيل للمحتل أنه طائرة مسيرة، وفي مرة أخرى ألصق بالبالون مسجل يصدر صوت صفارات الإنذار.

هم يستخدمون أشياء بسيطة. بالون يملأ بغاز الهيليوم يضاف في ذيله موقدة مشتعلة، وشاب ثائر يعمل على "كبح المعادلة". أبو يوسف المقنع انقطع عن الحديث معي، وأعطاني إشارة بضرورة إخلاء المكان على الفور. رحلنا عن النقطة لمسافة بعيدة ليوضح لي، وهو في حالة ترقب أن المكان بات خطراً.

وحول تطور الأساليب المستخدمة، كان هؤلاء الشبان في بداية العمل يستخدمون الطائرات الورقية التي تعمل على حرق المحاصيل المحاذية للسياج، فهي لا تصل لمسافات طويلة. بعد ذلك استخدموا البالونات الحارقة التي تصل لمسافات أطول بكثير، ثم باتوا يستخدمون البالونات التي تحمل قليلاً من المتفجرات، كتصعيد بوجه إجراءات الاحتلال القاسية ضد غزة.

هذا كله تكتيك مدروس. وقد استطاعت حماس امتلاك سلاح مزعج لإسرائيل، دون أن تتبناه بشكل مباشر. وهي تستطيع إيقاف ذلك بإشارة مرهونة بالتفاهم وتحقيق المطالب الشعبية، كما إنَّها اعتبرتها سانحة سلمية للضغط وتحقيق بعض المطالب، والتملص من أيّ انجرار نحو تصعيد حقيقي بينها وبين الاحتلال. ترد إسرائيل تحذيرياً من خلال قصف بعض المواقع العسكرية، إذا لم تتمكن من استهداف مطلقي البالونات.

وسط حقل الألغام

إسرائيل تزيد من تعنتها، فهي عملت مؤخراً على إغلاق الصيد البحري أمام الممتهنين، وأغلقت المعابر بشكل كامل عدا الاحتياجات الطبية، ومنعت إدخال الوقود لمحطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، وهو ما نتج عنه انقطاع للتيار لما يزيد عن 20 ساعة متواصلة يومياً.

هذه الإجراءات دفعت الجبهة الفلسطينية الداخلية بقوة نحو إطلاق البالونات الحارقة، ووحدات الإرباك الليلي التي تتسبب بقلق في المحيط الإسرائيلي، وهي أشبه باستحضار خزان استذكار رفض حالة القطاع المحاصر. وهذا تمثيل لساحة حرب بثوبٍ جديد يتبناه عموم الناس المحاصرين في القطاع.

رفضت حماس اعطاء أيَّ معلومات عن الأسرى المحتجزين لديها، قبل أن يتم الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين الذين أعادت إسرائيل اعتقالهم بعد تحريرهم في صفقة شاليط عام 2011. فحماس تحيّد ملف تبادل الأسرى في أي مفاوضات يكون المقابل فيها هو كسر الحصار دون الدخول في صفقة جديدة مع إسرائيل، بينما وبالمقابل تحاول إسرائيل دمج الملفين.

لا تريد حركة حماس الدخول في اصطدام مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي بسبب الحالة الاقتصادية المعيشية، وانتشار فيروس كورونا في محافظات القطاع. كما أن الحالة الإقليمية المحيطة لا تؤشر إلى إمكانية وقوع عدوان جديد، يقابله تهديد للخارطة الإسرائيلية المرسومة في التطبيع مع بعض الدول العربية في حال قيامها بعدوان على سكان غزَّة.

ولربما تتلاعب الحكومة الإسرائيلية بالعدّاد الزمني لإتمام المفاوضات مع المقاومة في غزَّة، كونها تريد انتزاع ما هو أكبر من وقف لإطلاق البالونات والأعمال الخشنة المستخدمة ضدها، لتحضر فكرة إمكانية الإفراج عن الأسرى الأربعة الذين تحتجزهم حركة حماس. فرئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو كان قد طلب لأول مرة في تاريخ إسرائيل إجراء حوار فوري مع المقاومة الفلسطينية عبر الوسطاء لإنهاء ملف جنوده الأسرى، (هدار غولدين، وأورون شاؤول وهما جنديان تمكن الجناح العسكري لحماس من اختطافهما في عدوان عام 2014، بالإضافة إلى المدنيين الإسرائيليين أفيرا منغيستو الذي تسلل إلى القطاع في 2018، وهشام السيد الذي يقال إنه تاه باعتبار أنه يعاني من مشاكل نفسية، وظهرت له صور وتسجيلات في القطاع في 2018).

إلَّا أنَّ حماس رفضت أن تعطي أيَّ معلومات عن الأسرى المحتجزين لديها، قبل أن يتم الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين الذين أعادت إسرائيل اعتقالهم بعد تحريرهم في صفقة شاليط عام 2011. فحماس تحيّد ملف تبادل الأسرى في أي مفاوضات يكون المقابل فيها هو كسر الحصار دون الدخول في صفقة جديدة مع إسرائيل، بينما تحاول إسرائيل بالمقابل دمج الملفين.

التهديد الإعلامي يقابل وعيداً رادعاً

هكذا صارت إسرائيل تضبط خطابها حول البالونات الحارقة بالإشارة إلى مسؤولية حركة حماس عنها كونها الحاكم الفعلي في القطاع. فحينما يصرح وزير الأمن الإسرائيلي، وخليفة نتنياهو في المرحلة المقبلة بيني غانتس أنه "على حماس أن تتحضر لتلقي ضربة قاتله إذا ما استمرت بالسماح لمطلقي البالونات"، ويعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنَّ المرحلة المقبلة ستكون وفق استراتيجية "الاغتيال بهدف الردع" لحماية مستوطني غلاف غزَّة المحتل، ترد المقاومة بأنّها لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي في حال تمادت إسرائيل في استهدافها، رافضةً التعامل مع مطلقي البالونات عسكرياً على اعتبار أنَّهم يمثلون حالة رفض شعبية للظلم الواقع عليهم.

تزيد إسرائيل من تعنتها، فهي عملت مؤخراً على إغلاق الصيد البحري أمام الممتهنين، وأغلقت المعابر بشكل كامل عدا الاحتياجات الطبية، ومنعت إدخال الوقود لمحطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، وهو ما نتج عنه انقطاع للتيار لما يزيد عن 20 ساعة متواصلة يومياً.

سقف التوقعات كان كبيراً لدى الناس. انتظروا تطبيق تفاهمات عام 2014: بناء ميناء بحري، إنهاء مشكلة الكهرباء نهائياً، فتح كامل المعابر إلى غزَّة، توسيع مساحة الصيد إلى 12 ميلاً، إدخال مواد البناء بإشراف حكومة التوافق الوطني، والبدء بمشاريع تشغيلية. لم يحصل أيَّ شيء من هذا في الاتفاق الشفهي بين حماس والاحتلال.

الوساطة للوصول إلى تفاهمات على شفا الانهيار. فبعد أن توقف الوسيط المصري ولو مؤقتاً، جاء دور الوسيط القطري للوصول إلى حل بين المقاومة وإسرائيل. فبعد أن حمل سفير قطر مطالب حركة حماس، لم يُسمح له بإدخال المنحة القطرية التي أعلن عن تمديد بلاده لها لستة أشهر مقبلة. هدف الزيارة كان الجلوس مع محور المقاومة في القطاع، وتحديداً مع رئيس حركة حماس في غزّة يحيى السنوار. إلَّا أنَّه عاد دون أن يحقق هدف الوصول لحلٍ، ليعود مجددًا ويقرر البقاء في غزَّة لعدَّة أيام أملاً بالوصول إلى حل بين الطرفين.

عودة بخفي حُنين

كلّ السيناريوهات التي كان متوقعاً حصولها سقطت أرضاً فور إعلان الوسيط القطري الوصول إلى تفاهمات تنص على إعادة الأمور على ما كانت عليه قبل حالة التصعيد: إدخال الوقود والسلع التجارية، والسماح بالصيد، دون أيَّ تحقيق لمطالب كسر الحصار، الأمر الذي خلق حالة من الرفض والشجب في أوساط المجتمع الفلسطيني في القطاع، التي راهنت على فك للحصار المفروض عليها. فثلاثة أشهر من الترقب والتوتر والقصف المستمر كانت تحتمل الحصول على مزيد من المطالب، وسط تساؤل عن سبب إقبال المقاومة على حالة التصعيد إذا كانت تعلم أنها ستنتهي بالعودة للسيناريو ذاته، دون تسجيل أي تقدم في كسر الحالة المميتة للحياة: انقطاع للكهرباء، شح في السلع، ارتفاع بالأسعار، انعدام العمل، ارتفاع نسبة الفقر.

مقالات ذات صلة

سقف التوقعات كان كبيراً لدى الناس بناءً على ما كانت تصرح به حركة حماس، فهم ينتظرون تطبيق العمل على ما تم الاتفاق عليه في تفاهمات عام 2014: بناء ميناء بحري، إنهاء مشكلة الكهرباء نهائياً، فتح كامل المعابر إلى غزَّة، توسيع مساحة الصيد إلى 12 ميلاً، إدخال مواد البناء بإشراف حكومة التوافق الوطني، والبدء بمشاريع تشغيلية. لم يتم الحصول على أيَّ شيء من هذا خلال الاتفاق الشفهي بين حماس والاحتلال. بعض فصائل المقاومة تبدو غير راضية عما أعلن عنه، لتبقى الأيام المقبلة مفتوحة أمام كلّ السيناريوهات من جديد.

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه