9 نيسان.. أين قوس قزح؟

كانت غالبية العراقيين يرون صدام حسين كالوحش في أفلام الرسوم المتحركة، والذي بمجرد التخلص منه تنبت الزهور في كل مكان ويخرج قوس قزح في السماء ويضحك الجميع. الانتشال فردوس الغريق. لكن الغريق حين ينتشل وينقل الى مكان يشبه الجحيم ليعيش فيه، سيواجه إحباطاً يستأنف خنقه، فتبدأ رحلة البحث عن الانتشال مرة أخرى.
2015-04-09

أمجد صلاح

كاتب صحافي من العراق


شارك
علي طالب العراق

بعد سقوط نظام صدام حسين بشهرين أو ثلاثة، بادر مركز عراقي صغير يتاجر بالأقراص الليزرية الى إنتاج مسلسل كوميدي تناول بسخرية المظاهر العامة في حينها. ولأن العراق خلا آنذاك من أية قناة تلفزيونية، فقد طـُـبع المسلسل على أقراص ليزرية وبيع في الأسواق. في إحدى الحلقات يدور حوار بين اثنين من أبطاله، يتحدث فيه أحدهما عن الازدهار الأسطوري الذي سيحققه الأميركان في العراق بمبالغة مفرطة، ومن جملة ما يقوله لصاحبه "راح يوزعون سيارات ع المواطنين.. لكل مواطن سيارة"، فيسأله صاحبه "بس الشوارع شلون راح تكفي بهاي الحالة؟"، فيجيبه "مو مشكلة.. يوزعون شوارع ويه السيارات!".

كانت الآمال كبيرة حقاً. أكبر من سيطرة "داعش" على ثلث العراق، وأكبر من أعداد النازحين التي تجاوزت المليوني نازح، وأكبر من حرب السنتين الأهلية، وأكبر من نيران السيارات المفخخة التي تحرق الناس والحجارة، وأكبر من صور القتل والدّمار التي يقدمها غوغل لمن يسأله عن بلاد الرافدين، وأكبر من الفساد المالي والإداري، وأكبر من تشوهات المدن وأمراض المجتمع.

كانت غالبية العراقيين يرون صدام حسين كالوحش في أفلام الرسوم المتحركة، والذي بمجرد التخلص منه تنبت الزهور في كل مكان ويخرج قوس قزح في السماء ويضحك الجميع. وبالطبع هم محقون بعد أعوام من القمع والاضطهاد والتّجويع والتخويف عاشوها في ظل حكم الدكتاتور. الانتشال فردوس الغريق. كل حياة مقبلة مقبولة، ولا شك ستكون أكثر من مقبولة بوجود وعود دلال يعقب الانتشال. لا وقت لدراسة ما ستؤول اليه الأمور في لحظة الاختناق، ولا فكرة تلمع في ذلك الحين عن مضمون السنوات المقبلة. لكن الغريق حين ينتشل وينقل الى مكان يشبه الجحيم ليعيش فيه، سيواجه إحباطاً يستأنف خنقه، فتبدأ رحلة البحث عن الانتشال مرة أخرى. إلا أن التفاصيل تغيرت هذه المرة والأمور أصبحت أكثر تعقيداً. معادلة قتل الوحش بغية خروج قوس قزح لم تعد قابلة للتطبيق، وانتظار ترميم الخراب الراهن قد يستغرق حياة قابلة للضياع عاجلاً، والهروب ليس سوى جري نحو مصير غامض.

في يوم التاسع من نيسان 2003، اضطر الشعب المبتهج بسقوط ديكتاتوره إلى مصارعة شبح القلق الذي كان يحاول سلب البهجة. انهيار الدولة المفاجئ وهيمنة الفوضى على كل شيء صدم الناس وعكر صفو أحلامهم الكبيرة، لم يتوقعوا أعمال سلب ونهب وانتشار عصابات مسلحة في الشوارع وخلو البلاد من أية قوة أمنية سوى جيوش الحلفاء التي بدت غير آبهة بما يجري، ولم يملكوا تصوراً عن شكل المرحلة الجديدة ومدى إمكانية السيطرة على الانفلات في القريب العاجل. منذ ذلك اليوم تصدرت أُمنية عودة الأمان قائمة الأمنيات، وما زالت متصدرة بعد مرور 12 عاماً.

في يوم التاسع من نيسان 2003، بدا أن العنان أطلق لتراكمات الديكتاتورية العسكرية القبلية. الولع بالسلاح أنتج تجمعات معلنة للمتاجرة بالأسلحة المستولى عليها في المقرات العسكرية والأمنية والحزبية.. أزمة السكن دفعت آلاف الناس إلى الانتشار في الساحات والأراضي غير المأهولة لتقاسمها كيفما اتفق ومن ثم بناء منازل متواضعة فوقها شكلت لاحقاً ظاهرة العشوائيات.. قيم "الفحولة" جعلت كثيراً من الشبان يحملون آلات حادة في جيوبهم لاستعمالها في مشاجرات يحرصون على خلقها وإن ضاقت الأسباب.. العوز والحرمان حفَّزا البعض حتى على سرقة نسخ من روايات كتبها صدام في سنواته الأخيرة، فعلى رصيف من أرصفة بغداد كان رجل متوسط العمر يضع أمامه مجموعة من تلك الروايات ويصيح "قصة بألف، قصة بألف"، أي أن سعر النسخة 1000 دينار عراقي (أقل من دولار واحد حالياً).

لا يختلف اثنان على أن من سرقوا ومن لم يضبطوا أنفسهم إزاء التّغيير قليلون مقارنة بأعداد العراقيين، لكنهم موجودون في كل مكان. وقد ساهم سلوكهم في ترك انطباع سيئ لدى الكثيرين عن شكل "العراق الجديد". ومن أجل الحفاظ على أدنى درجة من التفاؤل، اتفق الرأي الجمعي على أن هذه المظاهر مؤقتة وستزول بعد حين. وبالفعل زالت تلك المظاهر، ولكن بعضها انزاح نحو التفاقم وليس التلاشي، فتجمعات المتاجرة بالأسلحة حولت المجتمع العراقي إلى مشجب كبير، وبذرة العشوائيات صارت شجرة ضخمة يصعب اقتلاعها، وربما العديد من شبان الآلات الحادة انخرط في صفوف التنظيمات المسلحة التي تشكلت لاحقاً على اختلاف مشاربها، والرجل الذي كان يبيع الروايات على الرصيف لعله أصبح مقاولاً الآن، تسلمه الدولة أموالاً طائلة من دون أن ينجز شيئاً مع ملء الأفواه التي يجب أن تعترض بالنقود.. كل الاحتمالات واردة في "العراق الجديد".

من غير المنصف إنكار بعض الإيجابيات التي تحققت عقب التغيير، كتحسن دخل الفرد ومستوى معيشته ولو عند حدود المأكل والملبس (مقارنة بسنوات العقوبات والحصار)، وانفتاح العراق على العالم الخارجي، لكن ذلك يشكل مستوى منخفضاً جداً من سقف الطموحات الذي رفعه العراقيون مع إدراكهم قرب نهاية الديكتاتور. كانت أبصارهم تتطلع إلى بعض مدن الخليج المزدهرة، أرادوا لمدنهم أن تكون مثلها أو تتفوق عليها باعتبارهم أبناء بلد لا يقل ثراء عن البلدان التي تضم المدن المنشودة. إلا أن العراقي حين يسير اليوم في شوارع مدنه ويشاهد حجم الخراب والتشوهات، وحين يجلس في منزله ويعاني من قلة الخدمات، وحين يتابع أخبار عراقه التي تضج بالموت والدماء، ربما يسخر من تماديه في أحلامه، ويخفض سقف طموحاته إلى مستوى محاولة الحفاظ على ما تبقى من الحياة.


وسوم: العدد 139

للكاتب نفسه

الموصل المحررة والعقول الأسيرة

أمجد صلاح 2017-07-22

تحرير الارض وحدها لا يكفي. فهناك عقول تأثرت بفكر "داعش" ومن بينها نساء واطفال. يحتاج التخلص الفعلي من "داعش" الى إعادة ترتيب أوراق كثيرة بعثرها عبث القوى السياسية وتخبّطها

عراق الـ 56

أمجد صلاح 2017-04-07

قبل 14 عاماً، شهد العالم غزو القوات الأمريكية وحلفائها للعراق، واحتلالهم للعاصمة بغداد، ثم إقامتهم لنظام المحاصصة. الحصيلة كارثية: سيادة النصب والاحتيال كطريقة في إدارة السلطة والثروة.