هل حانت لحظة محاسبة الفساد في موريتانيا؟

نُشر ملف التحقيق البرلماني المحال من الجمعية الوطنية (البرلمان) إلى المدعي العام لدى المحكمة العليا، بما يخص مكافحة جرائم الفساد، وتضمّن بداية سبعة ملفات. وقد تمّ يوم 17 آب/أغسطس استدعاء الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز من قبل شرطة الجرائم الاقتصادية للتحقيق، وأوقف ولا يزال رهن التوقيف.
2020-08-18

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
صورة من داخل البرلمان الموريتاني.

بعد الكثير من الأخذ والرد والنقاش والجدل والترقب، أصدر قطب مكافحة جرائم الفساد بالنيابة العامة في نواكشوط الغربية يوم الأربعاء 5 آب/ أغسطس بياناً قال فيه إنه استلم ملف التحقيق البرلماني المحال من الجمعية الوطنية (البرلمان). وكان وزير العدل الموريتاني حيموده ولد رمضان أحاله إلى المدعي العام لدى المحكمة العليا.

وأتت إحالة التقرير بعد إجازته من طرف الجمعية الوطنية في جلسة علنية. وأكد قطب مكافحة جرائم الفساد على أن إجراءات البحث الابتدائي ستتسم بالجدية والصرامة المطلوبين، طبقا للقوانين المعمول بها، وأن كل من يكشف البحث عن ارتكابه لوقائع مجرّمة ستتم متابعته وتقديمه أمام القضاء المختص لينال الجزاء المناسب، في إطار محاكمة عادلة تضمن احترام حقوق الدفاع.

لجنة التحقيق البرلماني التي أعدت التقرير، منبثقة من البرلمان الموريتاني، وكلفها بالتحقيق في مجموع من قضايا الفساد في فترة حكم محمد ولد عبد العزيز، والقضايا من اختيار النواب. ليس للجنة التحقيق صلاحيات اتهامية، فهي تبحث في الوقائع ولا تبحث عن المتهمين، تحقق في المعطيات ولا تصدر تهماً. وقد ناقش البرلمان التقرير يومي 28 و29 تموز/ يوليو. ووقع رؤساء الفرق البرلمانية بالجمعية الوطنية مقترح توصية بإحالة التقرير النهائي للجنة التحقيق البرلمانية، وإلى وزير العدل من أجل إحالته "للجهات المختصة"، وقد تمت إحالة التقرير للوزير باستثناء جانبه المتعلق باختصاصات محكمة العدل السامية، والتي لم يتم تشكيلها بعد.

واستعانت اللجنة بمجموعة من الخبراء الوطنيين والدوليين لمساعدتها في أداء عملها، حيث قالت في تقريرها أنها قامت ضمن مسطرة مناقصة تنافسية، بانتقاء تجمع تايلور ويسينغ Wessing Taylor (للجوانب القانونية) / وماتين Matine (التسيير الفني والعملياتي) جبرالتار آدفيزور Advisor Gibraltar (الجوانب المالية) لمساعدتها في إنجاز مهمتها.

زاد الجدل حول التقرير بعد خروجه إلى العلن بين من كان يتوقع حجم الفساد، بل يرى أن ما جاء فيه مجرد قمة جبل الجليد، ومن كان مصدوماً من هوله. وهو تضمن مجموعة من قضايا الفساد، أظهرت تورط من كان يحكم، من رأس الدولة ووزراء وموظفين، وكانت فيه توصية بتحريك الدعوى العمومية في حق مجموعة من المسؤولين.

وبدأ عمل اللجنة بسبعة ملفات هي رصيف الحاويات والمحروقات بميناء نواكشوط المستقل، شركة صوملك (محور الطاقة الشمسية)، شركة سونمكس، خيرية أسنيم، شركة بولي هوندونج، الصندوق الوطني لمداخيل المحروقات، والملف العقاري. وتم توسيع نطاق عملها إلى ملفات أخرى هي صفقات شركة صوملك في مجال الكهرباء، صفقات البُنى التحتية (الطرق والمطارات والموانئ ) والاستصلاح، وصفقات شركة أسنيم وسياستها التجارية، ليتوسع عملها بقرار ثالث، فيشمل بعض التصرفات والوقائع والأفعال التي قد تشكل مخالفات بالنسبة لقانون مكافحة الفساد.

فساد يزكم الأنوف

بعد نقاش البرلمان للتقرير ثم خروجه للعلن ووصوله للمواطنين، زاد الجدل حوله بسبب محتواه، بين من كان يتوقع حجم الفساد، بل يرى ما جاء في التقرير مجرد قمة جبل الجليد، ومن كان مصدوماً من هوله. وهو تضمّن مجموعة من قضايا الفساد، أظهرت تورط من كان يحكم من رأس الدولة ووزراء وموظفين، وكانت فيه توصية بتحريك الدعوى العمومية في حق مجموعة من المسؤولين. وفي حديث مع عضو لجنة التحقيق البرلماني، النائب محمد الأمين ولد سيدي مولد قال لنا:" أظن أن التقرير أظهر ملفات فساد كبيرة خاصة في مجالات البنى التحتية وفي قطاع المعادن، تخص الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم)، وفي الطرق والعقارات، وأيضاً الاتفاقيات. وبالنسبة للرأي العام، فأعتقد أن الكثير من هذه الملفات تم الكتابة عنها، والنشر عنها في الإعلام وبأقلام الكتاب والسياسيين المعارضين والمستقلين في السنوات الماضية، وبالتالي قد لا تفاجئ الكثيرين". مشيراً إلى أن أنماط الفساد كانت متنوعة، وسارت ما بين الاختلالات في عدم احترام المساطر القانونية في الصفقات، إلى استخدام المال العمومي في الأغراض الشخصية والمقتنيات الشخصية، أي تسخير ممتلكات الدولة للأفراد.

وجاءت في تقرير اللجنة، مع المعطيات، مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات، حيث قال التقرير إنه "من خلال تحليل الملفات الأثني عشر التي يتضمنها القرار رقم 1 ورقم 2 ورقم 3، نستطيع إبداء جملة من الملاحظات والاستنتاجات العامة حول سير جهاز إدارة الدولة، وحول تسيير الشركات ذات الرأسمال العمومي. عدم احترام الكثير من الأحكام القانونية والتنظيمية يظهر بجلاء أن الفقرة المذكورة قد شهدت خرق الكثير من القوانين واللوائح التنظيمية وغيرها من القواعد المعيارية الآمرة، أو تطبيقها من تأويل متساهل بصورة مفرطة و/أو خاطئ تماماً".

اتهم التقرير بأنه حركة من محمد ولد الغزواني، الرئيس الموريتاني الحالي، لتصفية الحسابات مع صديقه محمد ولد عبد العزيز، الحاكم السابق، في إطار التنازع على السلطة. كما ثار تساؤل حول إمكانية قيام حكومة بها وزراء أوصى التقرير بإحالتهم للقضاء لفسادهم، برعاية مكافحة الفساد، وأن رأس السلطة الحالي كان شريكاً في الحكم السابق.

وأوصت اللجنة بمصادرة قطع الأرض التي بيعت بالمزاد العلني خلال الفترة من 2010 وحتى 2019، مثل تلك المقتطعة من مدرسة الشرطة والمركّب الأولمبي في العاصمة نواكشوط، حيث قالت إنها حصلت عليها شركة مملوكة لعائلة الرئيس السابق، وتمّ الاستحواذ عليها في ظروف مريبة. وكذلك مراجعة عدد من الاتفاقيات مع الشركاء الأجانب.

هل هناك تصفية حسابات؟

لم يسلم تقرير اللجنة وخطوتها من الاتهام بكونه حركة من محمد ولد الغزواني الرئيس الموريتاني الحالي، لتصفية الحسابات مع صديقه محمد ولد عبد العزيز، الحاكم السابق وغريمه الحالي. وأنه يدخل في إطار التنازع على السلطة. ويتساءل البعض حول إمكانية قيام حكومة بها وزراء أوصى التقرير بأن يحالوا للقضاء لفسادهم، برعاية مكافحة الفساد، وأن رأس السلطة الحالي كان شريكاً في الحكم. لكن النائب البرلماني ولد سيدي مولد يعتقد أن "أي عمل رقابي وتفتيشي في مجتمع كمجتمعنا يتداخل فيه العام والخاص، يمكن القول أنه انتقائي، وهي عبارة فضفاضة ومن السهل إطلاقها.. والمهم: هل اللجنة أتت، أو ادّعت أموراً لم تجد لها براهين؟ وهل كانت مهنية أم لا؟ وما هي أوجه عدم مهنيتها بالنسبة لمن يدعون عدم مهنيتها؟"، موضحاً أن "اللجنة كلفها البرلمان بملفات معدة سلفاً من خلال نواب برلمانيين أغلبهم من المعارضة، وتم اختيارها قبل أزمة الحزب الحاكم وقبل أن يكون هناك شرخ في المولاة، ولذلك فهذا الكلام لا أعتقد أنه يستقيم".

بعد وصول التقرير إلى القضاء، بدأ النقاش حول ما إذا كان على قدر التحدي، وهل بإمكان قضاء مرهون بأوامر السلطة التنفيذية أن يصنع الفارق في حالة تغيّر مزاج الرئيس، فيقرر وقف العملية برمتها، أو تقزيمها، وتقديم أكباش فداء وانتشال محمد ولد عبد العزيز، والاكتفاء بعملية التشهير الإعلامية.

وفي خضم نقاشات انتقال الملف إلى مرحلة القضاء، قدمت الحكومة استقالتها يوم الخميس، 6 آب/ أغسطس 2020، وأعلن عن وزير أول جديد.

ويذكر أن هناك الكثير من أنصار محمد ولد عبد العزيز والمنافحين عنه أيام حكمه، أصبحوا من أشد المطالبين بمحاكمته والأكثر تحدثاً عن فساده. فمثلاً دعا وزير إعلامه الأحزاب السياسية الموريتانية كما كانت مُجمعة على التحقيق في ملفات الفساد، وكما أنجزت عملها من داخل لجنة التحقيق البرلمانية بروح جماعية وانسجام غير مسبوق، ألا تترك ثمرة عملها دون متابعة. والوزير المذكور كان رئيساً لحزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" ونائباً برلمانياً أيام حكم ولد عبد العزيز، وكان من أبرز الأصوات المنافحة عن حكومته والمنتقدة لمن يتهمها بالفساد.

هل هي فرصة لمحاسبة الفساد؟

بعد أن تخطى الحديث عن محاسبة ولد عبد العزيز ونظامه مستوى السلطة التشريعية، وأحيل التقرير إلى القضاء، وأصبحت الكرة في ملعب هذه السلطة، بدأ نقاش حول القضاء، وهل هو على قدر التحدي؟ وهل بإمكان قضاء مرهون بأوامر السلطة التنفيذية أن يصنع الفارق في حالة تغيّر مزاج الرئيس؟ فيقرر وقف العملية برمتها، أو تقزيمها، وتقديم أكباش فداء، وانتشال محمد ولد عبد العزيز؟ والاكتفاء بعملية التشهير الإعلامية، وهو رأي له من يتبناه. لكن هناك من يراها لحظة فارقة في تاريخ الدولة وفرصة يمكن البناء عليها. فجرجرة المسؤولين إلى لجان التحقيق في الغرف المغلقة لم يكن مريحاً لأي مسؤول، إذ كان هناك الكثير من الاستهتار بالنصوص القانونية والاستهتار بالمال العام. ثم أن التجربة رفعت سقف تحرك الرأي العام المطالب بمحاسبة المفسدين.

ويوم 17 آب/أغسطس، تم استدعاء الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز من قبل شرطة الجرائم الاقتصادية للتحقيق، وأوقف، ولا يزال رهن التوقيف..

مقالات من موريتانيا