الصومال: لا انتخابات.. من أجل أن يستمرّ النهب

لم يكن إعلان البرلمان الفيدرالي الصومالي عن استحالة تنظيم الانتخابات العامة التي كانت مقررة بعد عام، في آب/ أغسطس 2016، أمراً مفاجئاً أو غير متوقع. فقد بيّنت دراسة قام بها باحث صومالي في مطلع العام الجاري (عبد الغني فارح)، ونشرت في الولايات المتحدة الأميركية، أن 74 في المئة من المستطلَعَة آراؤهم من الصوماليين يستبعدون إمكانية تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد حسب الموعد المحدّد
2015-08-12

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
ديكا حسين-الصومال/بريطانيا

لم يكن إعلان البرلمان الفيدرالي الصومالي عن استحالة تنظيم الانتخابات العامة التي كانت مقررة بعد عام، في آب/ أغسطس 2016، أمراً مفاجئاً أو غير متوقع. فقد بيّنت دراسة قام بها باحث صومالي في مطلع العام الجاري (عبد الغني فارح)، ونشرت في الولايات المتحدة الأميركية، أن 74 في المئة من المستطلَعَة آراؤهم من الصوماليين يستبعدون إمكانية تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد حسب الموعد المحدّد في مؤتمر لندن الأول الذي عُقِد في شباط/فبراير 2012، وهو المؤتمر الذي أعلن خروج البلاد من المرحلة الانتقالية، والاتجاه نحو البدء بإعادة بناء الدولة الصومالية المنهارة منذ سنة 1991.
قد يكون تحقّق ما بدا تشاؤماً من قبل الشريحة المستطلعة من المواطنين، مردّه إلى ظروف ميدانية وسياسية عديدة لم يستجد فيها تغيير كثير. فالبلاد ما زالت مقسّمة إلى كيان فيدرالي غير واضح المعالم، خارج عن سلطة الحكومة الاتحادية، ومناطق تحت سيطرة "حركة الشباب المجاهدين" التي تتسع وتنكمش حسب ما يتوفر لها من إمدادات مالية، و "جمهورية أرض الصومال" المعلنة من طرف واحد، ناهيك عن عجز الحكومة الفيدرالية عن الحفاظ على أمن العاصمة التي تتعرّض لاختراقات خطيرة، كان آخرها تفجير فندق "الجزيرة"، واستمرار الفساد على الصعد والمستويات كافة، بدءاً من استيلاء المسؤولين على الأموال العامة وتحوّلهم لتجّار عقارات، وصولاً إلى استغلال سلطتهم لحجب العلاجات التي تتبرع بها بلدان كتركيا، عن المصابين بأمراض ثقيلة، ونهبها، وانتهاء بممارسة الأنشطة التجارية في القطاعين التعليمي والثقافي..

كسب الوقت لمزيد من النهب

على الرغم من الاستقرار الأمني الذي تعيشه "صوماليلاند"، والتجربة شبه الديموقراطية التي يجري الترويج لها، يعاني الإقليم كما سواه من الأقاليم الصومالية، من فساد الطبقة السياسية المتنفّذة، بحيث أصبح هذا الفساد رديفاً للحصول على مركز سياسي أو منصب حكومي. وفي ذلك السياق، يكشف تسريب لـ "ويكيليكس" نقله أحد النشطاء في شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك عن برقية استخباراتية سعودية غير موقّعة، تتحدث عن إبرام حكومة "جمهورية أرض الصومال" ("صوماليلاند") الانفصالية والمعلنة من طرف واحد، اتفاقية كانت الحكومة الفيدرالية في مقديشو وإدارة ولاية "أرض البونت" ("بونتلاند") طرفان فيها، وذلك خلال مؤتمر لندن الأول (شباط/ فبراير 2012)، ما يؤكد ما كان تردّد باكراً حول "تفويض" وفد "صوماليلاند" في المؤتمر، شأنه شأن سائر الولايات الفيدرالية، للحكومة في مقديشو التحدّث والتفاوض باسم "الجميع"، في تناقض مع ما تمارسه حكومة أرض الصومال من ضخ إعلامي وشحن للأوساط الشعبية حول "قدسية استقلال صوماليلاند"، في حين تستمر تلك الحكومة في عقد الصفقات السريّة بهدف كسب الوقت للاستمرار بنهب المال العام. وهو ما كانت أعلنته أحزاب المعارضة. تلا ذلك تراشق سياسي بين أطراف حكومية؛ فاتهم وزير شؤون الرئاسة وزير الخارجية السابق بالتوقيع على الاتفاقية من دون علم الحكومة، بينما قام الثاني بتخوين الأول.. وكذَّب وزير الخارجية الحالي ـ ضمناً ـ الاتهامات الموجّهة لسلفه، فتهرب وزير شؤون الرئاسة من المؤتمر الصحافي المنعقد لتوضيح الأمر، وكلف الناطق الرسمي باسم مؤسسة الرئاسة الخ الخ.. أحزاب المعارضة في صوماليلاند أَعلنت في لندن عن رفع قضايا ضد أفراد من أسرة الرئيس محمد محمود "سيلانيو" وعدد من أركان حكومته، بتهمة الاستيلاء على المال العام، وغسيل الأموال، وامتلاك عقارات في المملكة المتحدة.

.. في ظلّ دستور معطّل

لا وجود فعلياً للدستور، وما ينبثق عنه من قوانين لتنظيم الحياة السياسية والإدارية الصومالية، وإنّما لا زالت العملية السياسية تَعتَمد على التسويات التي تحركها مراكز القوى في المناطق مدار التنافس والصراع، كما لا يخلو العمل الحكومي والإداري من "اجتهادات" القائمين عليه، وهي اجتهادات غالباً ما تصبّ في تحقيق قدر أكبر من الثروة والنفوذ لهم. وهذا يأخذ صوراً متعددة، بدأت بتعزيز المليشيات القبلية إبّان انهيار الدولة، مروراً بصعود أمراء الحرب، ثم أفول نجمهم باكتساحهم من قبل القوى الإسلامية والقبلية متحالفة، وتدمير تلك التجربة بالاجتياح الإثيوبي، ثم الدخول في مرحلة من العمل السياسي/القبلي الذي يعاني من ضربات "حركة الشباب المجاهدين"، وعدم وجود جيش وطني يستطيع ملء الفراغ الذي تشغله القوات الإفريقية على الأرض..
في ظل حالة المراوحة التي تعيشها الحياة الدستورية في البلاد، بين "وثيقة العهد الفيدرالي" (وهو الإعلان الدستوري للرئيس الأسبق عبد الله يوسف)، ومسودة الدستور المقترحة من قبل "فريق خارطة الطريق" والتي قبل بها برلمان المحاصصة القبلية (حيث تقرر توزيع السلطة بالتساوي بين القبائل الصومالية الأربع الكبرى، وإعطاء نصف حصة للأقليات التي لا تمتلك ساحة قبلية واسعة، وهو ما يُسمّى بقاعدة 4.5)، مع تعذّر حدوث مناقشة حقيقية للمسودة ومحتوياتها المنشورة، ناهيك عن البنود المحجوبة (ثمان وثلاثون مادة، تبدأ من المادة 131 حتى المادة 198 من الفصل الرابع عشر تحت عنوان "السلام والأمن")، ومع غياب تام للجهود اللازمة لتحقيق الظروف المواتية لعرض الدستور على الاستفتاء العام.. يبقى الحديث عن الانتخابات، وحدوثها من عدمه، مجرّد ترف، أو استمراراً لحالة الانجرار أمام ضغوط المصالح الأجنبية الراغبة في وجود سلطات صومالية تحمل كافة العناصر الشكلية للدولة، بحيث تبرر تخلّي مجلس الأمن الدولي عن ولايته على البلاد ونقلها إليها..
وهكذا يبدو جلياً أن حالة الانقسام والتشرذم والفوضى والنزاع والاحتراب.. تناسب المجموعات الحاكمة في مختلف أطراف الصومال، غير المستعجلة لإيجاد حلول، أو لتطبيق تلك التي تضطر للموافقة عليها بسبب الضغوط الدولية. وبغض النظر عن الخطابات والإعلانات، فإن الحالة القائمة هي فعلياً الأفضل لنظام النهب الذي تديره تلك "النخب".


وسوم: العدد 156

للكاتب نفسه