الصومال: حين يختلف الرئيسان!

في خضمّ الأنباء العامرة بنكبات الشعب الصومالي ومآسيه، تجد وسائل الإعلام العالمية والعربية، أنه من المنعش فعلاً الحديث بحماس عن وجود نشاط سياسي ـ ما ـ في العاصمة "مقديشو" متمثلاً مؤخراً بالأزمة بين الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس حكومته عبد الولي شيخ أحمد الذي عيّنه بنفسه، وحرص بكل إمكاناته على تأمين منح الثقة له وللطاقم الوزاري المرافق. كان من الممكن أن يشعر أبناء الشعب الصومالي
2014-11-28

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الحكومةعبد الولي شيخ أحمد

في خضمّ الأنباء العامرة بنكبات الشعب الصومالي ومآسيه، تجد وسائل الإعلام العالمية والعربية، أنه من المنعش فعلاً الحديث بحماس عن وجود نشاط سياسي ـ ما ـ في العاصمة "مقديشو" متمثلاً مؤخراً بالأزمة بين الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس حكومته عبد الولي شيخ أحمد الذي عيّنه بنفسه، وحرص بكل إمكاناته على تأمين منح الثقة له وللطاقم الوزاري المرافق. كان من الممكن أن يشعر أبناء الشعب الصومالي بالقدر ذاته من الحماس والانهماك في متابعة صولات الرجلين وجولاتهما في سبيل تحقيق أحدهما نقطة لصالحه على حساب صاحبه، في لعبة مراكز القوة والنفوذ على الساحة السياسية. لكن ما يطفو على سطح التغطيات الإعلامية بعيدٌ كل البعد عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع.

حكومة الكرتون

من المهم إدراك أن الساحة السياسية التي يتصارع عليها الرجلان، لا تزال أضيق من أن تشمل كافة أحياء العاصمة غير الآمنة من ناحية، كما لا تزال غير محصنة مما يحيكه مثيرو الصراعات القبلية ممن يطلق البعض عليهم "القادة التقليديين". والجميع جملة واحدة تحت رحمة هجمات حركة "الشباب المجاهدين" وما تقوم به من قصف وعمليات انتحارية، ناهيك عن أعمال العدوان القبلي عبر الاستيلاء على الأراضي والتهجير القسري، في بيئة يسودها اعتياد تصفية المنافسين بدءاً من غرماء التنافس السياسي وصولًا لتجار التجزئة.
وليس أدل على قتامة الواقع السياسي في البلاد من فسيفساء الطبقة السياسية التي التأمت بناء على إرادات خارجية متضاربة، مستفيدة من جشع المنخرطين في العملية السياسية، بحيث أخذت تلك الفسيفساء شكلاً لا يمت بأي صلة لمصالح الشعب القابع في غياهب الافقار والبغض والعقلية الثأرية المفسدة لكل شيء. فبين قادة الصف الثاني والثالث من أمراء الحرب، والقادة التقليديين المدمنين للرشوة تحت طائلة تسعير النزاعات القبلية المسلحة والدامية، وطبقة متعلمة متواطئة تسوّق نفسها على أنها إسلامية، فإن مخروط القيادة في العاصمة الصومالية منفصم عن احتياجات الشعب جملة وتفصيلًا، ولا وجود محسوس له سوى ضمن أروقة مقر الحكم "فيلا صوماليا" ومقرات اجتماعات أعضاء البرلمان الصومالي، وما يتم الإلقاء به لوسائل الإعلام المحلية.
تثبتُ الايام، مراراً وتكراراً، أن الجميع ضمن ذلك الائتلاف غير النبيل، يمهدون الطريق لمنسوبيهم، لتحقيق المزيد من المكاسب المالية والنفوذ، وإن كان على حساب ما يقدمه المجتمع الدولي بالحد الأدنى، وهو الراغب أساساً في دولة صومالية مستكينة ومفككة على كافة الصُّعد بحيث تعجز عن التفاوض فيما يستجد. وتلك الدولة عاجزة بالفعل حتى هذه اللحظة عن الاعتماد على كوادرها العسكرية في حماية قادتها والمواقع الحيوية للعاصمة.

عدم وجود دستور للحكم

لا وجود للدستور في الساحة السياسية الصومالية، على الأقل في حال أردنا الاحتكام للاصطلاح القانوني الموصّف لماهية تلك القواعد القانونية السامية، وما تستلزمه من تداول وإقرار وتفعيل وتطبيق واحتكام وتعديل، فحكاية الدستور في البلاد منذ استقلالها، دلّت على فشل الطبقة السياسية في الاتفاق على مجموعة القيم الأساسية التي يمكن بناء الدستور عليها، لضمان سموه وإلزاميته وحسن تفسيره، ووجوب الانصياع له دون مماطلة أو تردد، لحين القيام بتعديله عبر الإجراءات والآليات والاشتراطات الشرعية التي يحملها هو ذاته بين دفتيه.
فبدءا من دستور الاستقلال الذي تم إقراره العام 1961 والذي تم تعطيله بعد ثمان سنوات على إثر الانقلاب العسكري العام 1969، مرورا بالوثيقة الدستورية التي أفرزتها الضغوط السياسية على نظام الجنرال محمد سياد بري العام 1981، لتنتقل مسرحية الدساتير - المنزوعة الدسم - إلى بروز بدعة الفيدرالية، والإعلان الدستوري للرئيس الأسبق عبد الله يوسف فيما سمي بـ"وثيقة العهد الفيدرالي"، والتي انبثقت عنها لجنة دُعِيَت بـ"اللجنة المستقلة لصياغة الدستور والشؤون الفيدرالية" والتي ظلّت منعقدة لمدة قاربت العقد من الزمان، ليُصار إلى حلها وإلقاء ما صاغته في سلة المهملات، ويتم تحت سمع وبصر بل ودعم من الأمم المتحدة صياغة دستور فيدرالي للبلاد ضمن حلقة مغلقة مكونة من فريق "خارطة الطريق"، ويتم الاتفاق على بنوده المنشورة و"غير المنشورة" خارج البلاد، ثم يتم – ضمنيا - تجميد العمل بذلك الدستور الأخير، برضا ودعم من المجتمع الدولي مرّة أخرى تالية.

...على عادتها القديمة

لقد اعتاد المتابعون للشأن الصومالي على أزمات أمنية في جنوب البلاد بمعدل أزمة كل ستة أشهر، إلّا أن تطورات الموقف الدولي من الشأن الصومالي، أخرجت الأمور من حلقة دعم الصراعات المسلحة، ونقلتها إلى الساحة السياسية، خاصة بعد نجاح حركة المحاكم الإسلامية في حسم الأمر على الساحة العسكرية العام 2006 ضمن مهلة الأشهر الستة المعتادة، جاعلا ذلك الأطراف الدولية تدرك أن العبث بالأوضاع في البلاد على المستوى العسكري أصبح أمرا غير مأمون العواقب. ولا شكّ أن بروفة أولية لمسرحية صِدام رئيسي الدولة والحكومة قد تم تجريبها خلال فترة حكم الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن إثر خلافه مع رئيس وزرائه علي غيدي على خلفية التشريعات المعنية بالتنقيب عن النفط في إقليم "أرض البونت" التي ينتمي إليها الأول، في مساجلة جرّت إلى تنحية رئيس الوزراء ضمن تسوية مُجزية لحل الإشكال والتفرغ للمناوئين.
وتوالت أسماء رؤساء الوزراء الذين تتم تسميتهم من قبل الرؤساء إمّا للإبقاء على سيطرة الرئيس على مجريات الأمور في الحيز الضيق الذي بالكاد تمارس الدولة فيه مهامها، أو لمجرّد تغيير الوجوه وإضفاء نوعٍ من التجدد على التشكيلة الوزارية، أو الحفاظ على التوازن ضمن المجموعة القبلية التي يجب ان ينتمي إليها رئيس الوزراء، أو الانصياع لضغوط سياسية شديدة من قبل أحدى أطراف المجموعة القبلية تلك!
المشكل الدستوري من جديد!
ومع عدم جدوى الحديث عن الدستور الممتهن بصورة تدعو للرثاء، إلّا أننا ملزمون بإلقاء الضوء على أن الساحة السياسية في "مقديشو" تعيش حالة فعلية من الإنفصام، إذ أن الدستور – دستور فريق خارطة الطريق - الذي تم إقراره من قبل البرلمان، يجعل البلاد محكومة بنظام "رئاسي/برلماني" مختلط، وعلى الرغم من منح الرئيس صلاحية تسمية رئيس الوزراء فإن صلاحيات رئيس الوزراء من الاتساع بحيث يمكن اعتباره الرجل الأقوى في الدولة فور حصوله على ثقة البرلمان، إلّا أن الواقع يشير إلى النظام المطبق هو النظام الرئاسي جملة واحدة، أي أنه قائم على بنود محددة واردة في "وثيقة العهد الفيدرالي" المنتهية المفعول منذ إقرار الدستور الجديد ضمن البرلمان. ومهما تكن حجة عدم تسني عرض الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي، والغموض الذي لفَّ مسائل متعلقة بالبنود الأمنية المحجوبة، وإمكانية تعديل بعض بنوده أو كلها بناء على الاستفتاء المعلّق إلى أجل غير مسمى، فالمنطق يقول بأن مجرّد قبول البرلمان بالدستور الجديد، الذي تم إعداده تحت ضغط دولي شديد على كافة أطراف النزاع السياسي والعسكري في الجنوب (ما عدا حركة الشباب) يجعل من نكوص المجتمع الدولي عن دعم تطبيق الدستور أمر مثير للحيرة والاستغراب. ولا تفسير له سوى أن ما جرى كان عبارة عن بالون اختبار ليتم نقل "التجربة" لمناطق من الجوار الإقليمي! 

مقالات من الصومال

للكاتب نفسه