قانون قيصر والوطنية السورية

محاولة لمقاربة تفكك "الوطنية السورية"، بناء على عوامل بنيوية اصيلة وبفعل ممارسات النظام القائم وما تفرضه الحروب والتدخلات الاقليمية والدولية من نتائج.
2020-07-06

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
حسني رضوان - سوريا

منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي وحتى اندلاع الحراك في سوريا العام 2011، ساهمت العقوبات الأميركية في تحقيق شكل من أشكال "الوطنية" والتضامن بين السوريين، روّجت لها السلطة على أنها "مقارعة للمؤامرات والمخططات المشبوهة على اﻷمة العربية وليس على سوريا فقط، وتجسيد لصحة النهج الوطني"، بغض النظر اﻵن عن كون هذا التضامن مفروضٌ على الناس ومنسوج على نول السلطة بشكل قمعي يحتكر كل أنواع الاجتماع.

في سياق تلك العقوبات، يأتي قانون قيصر الذي بدأ سريانه منتصف حزيران الحالي. إلا أنه يأتي هذه المرة في ظروف مختلفة كلياً على البلاد، سواء بداخلها أو في محيطها اﻹقليمي والدولي. يعني ذلك أن عدواناً جديداً كهذا سيكون له مفاعيل مختلفة، أبرزها انتقال الصراع السوري - السوري الى عتبات جديدة قد تؤدي إلى تقسيمٍ (ناعم) للبلاد في ظل غياب أي مشروع وطني جامعٍ للسوريين.

سياق الوطنية السورية

حتى اليوم، ما يزال مفهوم الوطنية السورية غائماً، يصعب وضعه ضمن منظومة محددة الملامح. ولا يتعلق اﻷمر بالمنتج الفكري (الديماغوجي) للبعث الذي وضع العروبة واﻹسلام والوطنية في بقجة واحدة، بل هو يرتبط بالممارسة اليومية في السياسة والاقتصاد وغيرها. ويمكن رؤية ما جرى في سنوات الحرب السورية الفائتة على أنه تجسيدٌ حيٌّ لهذا الضياع.

في إطارها المرجعي، وكما في كل مكان آخر، تضم الوطنية في سوريا تنويعة من الهويات الفرعية القائمة في المجتمع، وهذا ما يجعل واقعية وحياة الوطنية السورية واستقرارها منوطان بالتعددية في جانبها اﻷكثر ضرورة للحياة المشتركة.

لقد أثّرت بنية المجتمع السوري، المتناقضة على مستويات متعددة، أفقية وعمودية، حضرية وريفية، مدينية ودينية وطائفية وعشائرية وغيرها.. على مسار تشكّل الهوية الوطنية إذ تحوّلت إلى عناصر إعاقة بسبب استخدامها وتوظيفها من قبل السلطات الحاكمة التي مارست تخريباً ممنهجاً لعلاقات تاريخية مجتمعية واستبدلت تطوراً طبيعياً بآخر مشوّه مبنيٌّ على الولاء والبراء السياسي والديني.

يمكن للإنسان أن يحمل هويات متعددة (دينية أو قومية أو ثقافية أو مناطقية...الخ)، إلا أن المواطنة الفاعلة تتأسس في فضاء دولة جامع ومفتوح، يُفترض به تعريفاً ومبدئياً أن يقبل الآخر أياً تكن هويته.

بالمقابل، لم تستطع البنى المقدّمة كبدائل في الممارسة اليومية (تجربة المزارع الاشتراكية في السبعينيات وكذلك الحزب أو التنظيمات "الجماهيرية" المختلفة) أن تقنع الناس بالخروج من عباءات الجغرافيا والتاريخ. فقد كان تأثيرها ضعيفاً بحكم تشوهها اﻷصلي الناجم عن نقلها عن تجارب شعوب أخرى وتحوّلها في الممارسة إلى شكليات فارغة الجوهر أعادت إنتاج العلاقات القديمة بثوب جديد.

أثّرت بنية المجتمع السوري، المتناقضة على مستويات متعددة، أفقية وعمودية، على مسار تشكّل الهوية الوطنية، إذ تحوّلت إلى عناصر إعاقة بسبب استخدامها وتوظيفها من قبل السلطات الحاكمة التي مارست تخريباً ممنهجاً لعلاقات تاريخية مجتمعية، واستبدلت تطوراً طبيعياً بآخر مشوّه مبنيٌّ على معيار الولاء وعلى البراء السياسي والديني.

يرى بحث حديث حول سوريا (1) أن علة العلل في سوريا ما بعد الاستقلال هي تشتت "هوية" التيارات السياسية نتيجة اختلاف المرجعية الفكرية (المشروعة) واختلاطها بعلّة العشائرية والإثنية على أرض الواقع، وتَعارض مصالح البرجوازيات الجديدة الحاكمة والبرجوازية ذات الأصول الإقطاعية. وبالتالي فقد بقيت مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعاً للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية، وهو ما لم يسمح بالاتفاق على قواعد إدارة العملية السياسية، وبناء مؤسسات دولة جميع المواطنين.

لقد استثمرت السلطات السورية في البنى اﻷولية للمجتمع، وساقتها بالاتجاه الذي ترغب به، وما تزال تفعل إلى اليوم، دون أن تقودها إلى الوطنية التي تحقق اﻹنتماء الفعلي (القانوني واﻹنساني). فقد بقي صراع الكتل الدمشقية ـ الحلبية على قيادة البلاد معلماً رئيسياً من معالم تشكيل الحكومات التالية للاستقلال، وكان استبعاد الريف (واﻷقليات) من صناعة القرار الوطني، بما في ذلك ما يتعلق بشؤونه اليومية (الزراعية والإنتاجية)، أحد اﻷسباب التي قادت إلى انفجارات متتالية آخرها عام 2011.

الوطنية في سنوات الجمر

يوجد اليوم في سوريا ثلاث إدارات سلطوية كُبرى (إن لم يكن أكثر) تعمل إلى حد كبيرٍ بالتضاد مع بعضها البعض، ولكل منها رؤيتها لسوريا الحالية والمستقبلية، ولكلّ منها "وطنيتها" وأسبابها التي تزاود بها في علاقتها مع الآخرين.

تفككت "شرعية" السلطة المركزية بعد تفكك شرعيات مؤسسات الدولة وفقدان ثقة الناس بها وباعتماديتها، ليس في المناطق الواقعة خارج سيطرتها، حيث تم تدمير كثير من مؤسسات الدولة بقصدية واضحة (صوامع الحبوب مثالاً)، بل في مناطق سيطرتها، حيث تفشى الفساد والاعتقال العشوائي والنهب المنّظم والابتزاز والتعفيش والسرقة، مع تنامٍ كبير لسلطة الميليشيات العسكرية..

وفي المناطق، تراجعت فيها قدرة مؤسسات الدولة على تلبية احتياجات السكان اليومية، في ظل تقطع شرايين البلاد الاقتصادية والمعارك الطاحنة على امتداد 60 في المئة على الاقل من البلاد، خاصة بعد نزوح ملايين المهجرين باتجاه مناطقها (مما تقّدره مصادر أممية ب80 في المئة من السكّان)، مترافقةً مع ارتفاع كبير في أعداد ضحايا الحرب، والشباب أولّهم جراء استنزافهم على مدار عقد كامل من قبل المؤسسة العسكرية وميليشياتها، مع ما يشير ذلك اليه من تسارع في الفقد السكاني ﻷهم شريحة منتجة في المجتمع، وازدياد انتشار شرائح أكثر اعتماداً على اﻹعانات ودعم الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني (غير المعترف بعملها رسمياً) على حساب كثير من مؤسسات الدولة التي أصبحت شبه خاوية من الموظفين والمنتجين.

هياكل محلية جديدة: مؤقتة أم دائمة؟

إلى جانب فقدان السوريين ثقتهم بالدولة وشرعية مؤسساتها، أتاحت اﻷزمة الطاحنة منذ 2011 ظهور عدد كبير من هياكل السلطات المحلية في مختلف المناطق، بما في ذلك مناطق سيطرة الحكومة، قدّمت نفسها على أنها بديل (شرعي ووطني) للمؤسسات السابقة الموسومة بالفساد وشبكاته. ومع مرور الوقت، أصبحت سلطةٌ يوميةٌ حاضرة وفاعلة، ومتجّذرةٌ في بيئتها بحكم فراغ السلطة المركزية من جانب، وبحكم كونها بديلاً أكثر تماساً مع حاجة الناس.

كانت التجربة اﻷكثر وضوحاً لظهور مؤسسات وهياكل بديلة للدولة، تجربة اﻹدارة الذاتية لشرق وشمال سوريا، حيث طبّقت نموذجاً مختلفاً تماماً عن نموذج الدولة السورية التاريخي (الاشتراكي ـ المركزي) وأعادت هيكلة المؤسسات في منطقة واسعة تشمل ثلاثاً من أغنى المحافظات السورية بالموارد، الحسكة والرقة وشمال حلب، ودمجتها في نظام فيدرالي واسع الصلاحيات ضمن كيان يُدار من قبل مجلس أعيان مشترك القوميات. كما شكّلت نوعاً من اﻹدارة لموارد ومكوّنات المنطقة، يختلف كلياً عن التوجه المركزي السابق الذي شاب إدارته اﻹهمال والفساد لسنوات طويلة. وهذا خلق نموذجاً استطاع الحياة عبر سنوات الحرب بمعزل عن الخسائر في البنية التحتية، دون نسيان أن الاحتلال التركي، لمساحات واسعة من المنطقة والعمليات العسكرية المتتالية منذ العام 2016 على تلك المناطق، تسبب في وقوع تحولات كثيرة في بنية تلك التجربة. وصحيح أن تلك التجربة ما كان لها أن تستمر في الحياة لولا الدعم اﻷميركي وتوفير نوع من الغطاء اﻷمني لها، في ظل صراعات مستعرة بالقرب منها، ورفض لها من قبل الحكومة المركزية التي رأت فيها انقلاباً على شرعيتها من جانب، وانقلاباً على نموذجها في إدارة البلاد عبر المركزية المفرطة.

كانت العلاقة مع دمشق واحدةً من المسائل الرئيسية في دعوة الإدارة الذاتية إلى تشكيل مفهوم جديد للوطنية في الدولة القادمة، مبني على تصوّر مختلف عن التصور القومي العربي البعثي المنشأ، يتمثل في الاعتراف المطلوب بوجود قوميات أخرى (ليس الكُرد وحدهم) ولغات أخرى (السريانية والكُردية وغيرها)، وثقافات أخرى. حتى أن بعضاً من هذه العناصر تقع خارج المنظومة الإسلامية الرسمية (اليزيدية مثلاً)، وهو ما تمّ تظهيره في تلك التجربة، على الرغم من وجود بعض التطلعات القومية الكُردية نحو الانفصال.

التحدي الثاني للوطنية السورية بمعناها القومي ـ البعثي جاء من مناطق سيطرة المعارضة المسلحة على مناطق شمال وغرب البلاد (إدلب والباب وتل أبيض وغيرها)، حيث تمت تنحية الوطنية السورية لصالح عصبيات ما قبل وطنية، إسلامية بالدرجة اﻷولى، تقبل الاحتلال التركي وتدافع عنه وتتعامل معه بالضد من بقية الهويات اﻷخرى. يتضح ذلك في عملية إسكان مهجّري ريف حمص والقلمون في مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، ومشاركة مقاتلي المعارضة المسلحة في عمليات الجيش التركي ضد "قوات سوريا الديمقراطية" واعتبارها إرهابيةً وفق التصور التركي، وكذلك عملياتها ضد الجيش السوري في مناطق مختلفة.

تاحت اﻷزمة الطاحنة منذ 2011 ظهور عدد كبير من هياكل السلطات المحلية في مختلف المناطق، بما في ذلك مناطق سيطرة الحكومة، قدّمت نفسها على أنها بديل للمؤسسات السابقة الموسومة بالفساد وشبكاته. ومع مرور الوقت، أصبحت سلطةٌ يوميةٌ حاضرة وفاعلة، ومتجّذرةٌ في بيئتها بحكم فراغ السلطة المركزية من جانب، وبحكم كونها بديلاً أكثر تماساً مع حاجة الناس.

كانت العلاقة مع دمشق واحدةً من المسائل الرئيسية في دعوة "الإدارة الذاتية" (الناشئة في منطقة واسعة تشمل ثلاثاً من أغنى المحافظات السورية بالموارد، الحسكة والرقة وشمال حلب) إلى تشكيل مفهوم جديد للوطنية في الدولة القادمة، مبني على الاعتراف المطلوب بوجود قوميات أخرى (ليس الكُرد وحدهم) ولغات أخرى (السريانية والكُردية وغيرها)، وثقافات أخرى.

أحد أوضح خسارات الوطنية السورية جاء من قبول سكان تلك المناطق التدابير التركية في استبدال العملة الوطنية بالليرة التركية (وهو ما يجري على قدم وساق هناك)، سبقها، التأسيس لبنية تحتية مرتبطة بالدولة التركية من الاتصالات والتعليم والطرقات والشؤون المدنية والاقتصادية، وهو ما يؤشر إلى وقوع قطيعة مع المتحد السوري المعرّف بحدود سايكس بيكو. وهذا يقود إلى سهولة تحقق التقسيم الناعم في قادم الوقت، بخروج مناطق واسعة من البلاد من إمكانية الدخول في الحل السياسي.

قصف البلاد ومعاركها

ظهر الخلاف بشكل حاد في كثير من الأحداث، بدءً من أسماء الأسابيع (الثورية) وصولاً إلى الضربات اﻷمريكية واﻹسرائيلية والروسية في البلاد.

على سبيل المثال، وإثر تناقل تقارير عن تجدد استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق (7 نيسان/ابريل 2018) من قبل قوات الحكومة، تعرّضت البلاد إلى عدة ضربات جوية ـ أمريكية - بريطانية – فرنسية، بموافقة روسية، وهو ما خلق استقطاباً حادّاً بين السوريين داخل وخارج البلاد، وحتى داخل الصف الواحد، موالاةً ومعارضةً، بين مؤيّد للضربات ورافض لها، ولكل منهم أسبابه المُفزعة بالنظر إلى كونهم جميعاً سوريين! وتُظْهر هذه اﻵراء الشرخ الكبير لنسيج الاجتماع السوري، وتحلّل مفاهيم الانتماء والشرعية والسيادة الخ.

في السياق نفسه، تشير المعارك المستمرة في مناطق إدلب وريفها إلى معضلة وطنية أخرى أشدّ التباساً. فهناك جيشٌ وطني كما يُفترض (تدعمه روسيا بحدود معينة) يقاتل القوات التركية التي تعضدها قواتٌ سوريةٌ معارضة (إسلامية الطابع). وهناك اليوم من يستميت بالدفاع عن الوجود التركي في مناطق إدلب وريف حلب، ولا يعتبره احتلالاً مثلما يعتبر الروسي واﻹيراني واﻷميركي. وهناك من يرى أن الوجود الروسي منع انهيار الدولة السورية، دون أن يعتبره احتلالاً، وكل هذا يشير إلى حجم تجاذبات وصراعات "الوطنية السورية" واصطفافاتها في قلب الصراعات اﻹقليمية والدولية.

نموذج آخر تختلط فيه "الوطنية" مع الوضع اﻹقليمي والدولي، يظهرمع الضربات الجوية اﻹسرائيلية على مواقع القوات اﻹيرانية في البلاد، وآخرها ما حدث في السويداء ودير الزور. ولكثير من السوريين (بمن فيهم موالو النظام)، فإن الوجود اﻹيراني في البلاد أصبح عبئاً، ليس بسبب الضربات اﻹسرائيلية فقط، بل وبسبب ما فعلته القوات اﻹيرانية في سياق الحرب السورية من إشعال للنيران الطائفية (ومثلها فعلت قوات المعارضة). وإذا كان بعضهم (موالاة ومعارضة) يفهم الوجود الروسي ويتقبله (مؤقّتاً على الاقل) كبوابة للحل السياسي، فإنه من غير المقبول مثلاً أن تتدخل إيران في صياغة المناهج التعليمية السورية و"تحديثها"! وتصبح علاقة التبعية بين دمشق وطهران مرفوضة من قبل سوريين يرون في علمانية ومدنية مستقبل بلدهم شرطاً أساسياً للدخول في حل سياسي. ويتوافق في هذا اﻷمر بقايا التيارات العلمانية والقومية وحتى اﻹسلامية.

إذا كان بعضهم في الموالاة والمعارضة على السواء يفهم الوجود الروسي ويتقبله (مؤقّتاً على الاقل) كبوابة للحل السياسي، فإنه من غير المقبول مثلاً بشكل عام في البلاد أن تتدخل إيران في صياغة المناهج التعليمية السورية و"تحديثها"!

إلى جانب ما سبق، هناك قضايا لا تقل أهمية جعلت من الوطنية السورية موضع سؤال وشك، فالتعامل مع قضية المهجّرين والنازحين غلبت عليه الحسابات السياسية دون الوطنية من جانب النظام، تجّلت في توجيه النازحين إلى مناطق محددة، وبالمقابل تم استخدام المهجّرين في تغيير ديموغرافية مناطق الشمال السوري، وهو اﻷمر نفسه الذي جرى لبعض المكونات العربية في مناطق الإدارة الذاتية. هذا لو تركنا جانباً المقولة الاستعمارية الموطنة محلياً كرد فعل على النزوح الواسع للسوريين الى خارج البلاد، والتي اشارت الى وجود "سوريا نافعة" (هي الموالية) واخرى التخلص منها يجري بلا أسف!

قانون قيصر

بقدر ما يبدو أنّ "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" ـ اسمه الرسمي ـ موجّهٌ ضد دمشق، إلا أنه موجّه بالوقت نفسه ضد روسيا وإيران، ويصب دون شك في مصلحة إسرائيل التي تشارك بفاعلية في صياغة التوازنات المحيطة بدمشق وأطراف الصراع السوري اﻷخرى. يشترط القانون في أحد أبرز بنوده خروج إيران من الأراضي السورية، وهو الطلب المتفق عليه عربياً وأميركياً وأوروبياً وإسرائيلياً، مع الانتقال إلى عملية سياسية سوريّة منبثقة من القرار 2254، وما يقتضيه ذلك من تغييرات في قلب تكوين النظام السوري. وﻷن هذا الأمر يخضع لصراعات القوى اﻹقليمية والدولية وتوازناتها، يُستبعد أن تنفذه دمشق.

كان هناك ترحيبٌ من شخصيات المعارضة البارزة بالقانون باعتباره نتاج نضالهم (الوطني!)، وهي كذبة أنتجوها وصدقوها، وهم من كان يطالب بالتدخل الخارجي منذ سنوات، ويدركون تماماً أن القانون إياه ناتج عن الاستخدام السياسي للمأساة السورية في أسوأ صورها، ويعرفون تماماً ـ مثلهم مثل النظام ـ أن استجابة دمشق للشروط الموضوعة من قبل واشنطن سوف لن توقف تنفيذ القانون، وأن المطلوب استمرار إنهاك البلاد ووصول ما بقي منها إلى ما وصل إليه العراق بعد أكثر من ربع قرن على حصاره، وتنفيذ "قانون النفط مقابل الغذاء".

ترافق بدء تطبيق قيصر مع اتفاق كُردي ـ كُردي (أوّلي) يُفترض أنه طوى صفحة خلاف تاريخية بين "المجلس الوطني الكُردي" وأحزاب "الوحدة الوطنية الكُردية" (25 حزباً) بدعم وتنسيق أميركي، على الضد من الرغبة التركية. كان اللافت في الاتفاق قوله أنه "تمهيدٌ لاتفاقات تضم مختلف القوى السياسية السورية بغض النظر عن انتمائها القومي" ـ حسب نص الاتفاق ـ وهو ما يبدو "إيجابياً"، لولا أن هناك تصريحات أميركية تقول بعدم تطبيق قانون قيصر في الشمال السوري (وهو ادّعاء يكّذبه وضع الليرة السورية هناك)، وهو ما يعني صبّ مزيد من الشقاق بين السوريين (مولاةً ومعارضة) في وجه الكُرد، والتسبب بمزيد من الاشتعال في منطقة مشتعلة أصلاً. كل ذلك يجعل من التقسيم أمراً واقعاً في ظل الحديث عن اللامركزية والكونفدرالية وغيرها.

بقدر ما يبدو أنّ "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" ـ اسمه الرسمي ـ موجّهٌ ضد دمشق، إلا أنه موجّه بالوقت نفسه ضد روسيا وإيران، ويصب في مصلحة إسرائيل التي تشارك بفاعلية في صياغة التوازنات المحيطة بدمشق وأطراف الصراع السوري اﻷخرى.

ترافق بدء تطبيق قيصر مع اتفاق كُردي ـ كُردي (أوّلي) يُفترض أنه طوى صفحة خلاف تاريخية بين المجلس الوطني الكُردي وأحزاب الوحدة الوطنية الكُردية (25 حزباً) بدعم وتنسيق أميركي، على الضد من الرغبة التركية.

على جانب دمشق، فإن القانون الذي يقيّد حركة كل نشاط مالي، تسبب قبل بدء سريانه بتدهور اقتصادي غير مسبوق، جعل من الواقع المعيشي للسوريين المنكوبين بالحرب (وتوقف النشاط الاقتصادي بسبب جائحة كورونا)، نكبةً مضافة. فلم ترتفع أسعار السلع فقط، بل اختفى قسم منها (400 صنف دوائي)، وبدأ الناس يحجزون صباحاتهم ﻷجل ربطة خبز واحدة، وﻷجل تأمين قوت يومهم بعد فقدان الليرة لحوالي 70 في المئة من قيمتها.

وعلى الرغم من هذا التسارع في تدهور الاقتصاد (والسياسة)، فإن حكومة دمشق وجدتها فرصة لدعوة السوريين إلى مزيد من الصمود والصبر والوقفات التضامنية ضد قانون قيصر، وكأن ما خبروه في السنوات الفائتة لم يكن صموداً! تصريحات مسؤوليهم المنفصلين عن الواقع إلى درجة الدعوة إلى انتخابات لمجلس الشعب ظهر فيها اختراعٌ ديمقراطي جديد اسمه "الاستئناس" سيأتي بالمنتفعين والفاسدين من جديد إلى قبة المجلس. هو استمرار للسياسات القديمة في التعامل مع الواقع الجديد، سواء عند إجبار الموظفين على الخروج اﻹجباري إلى الوقفات التضامنية تلك، أو في الزخ اﻹعلامي الذي يتغنى بصمود من ليس في يدهم أي خيار سوى محاولة الحياة.

يمكن القول، إن "الوطنية السورية" في حالها الراهن، هي في أسوأ وضع لها منذ الاستقلال، وأنها قد تودي بوجود الكيان السوري بشكل لا رجعة فيه. ويشير لقاء روسي جرى مؤخراً مع شخصيات علوية معارضة إلى أن اﻷمر ليس مجرد تخمين، بقدر ما بدأ يتحول إلى سياسات دولية معلنة، ولنا في العراق "أسوةٌ حسنة".

______________

1-خلود الزغيّر‎، "سورية الدولة والهوية: قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري" ( 1946-1963)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ‎، 2020 بيروت.

مقالات من سوريا