المغرب: الأمازيغية أكبر من مجرد بطاقة هوية

لم تعد الأمازيغية "بُعْبُعاً" هوياتياً يخيف النظام السياسي في المغرب كما كان الأمر قبل عقود، فيحاربه تحت ذريعة "زعزعة السلم الاجتماعي" وتهديد وحدة البلد. حدث "تصالح" نسبي معها، بقليل من المرونة والسعي نحو احتواء هذه القضية. إلا أن عدم إدراج حروف "تيفيناغ" الأمازيغية في بطاقة التعريف الوطنية للمواطنين المغاربة أعادت اثارة الموضوع.
2020-07-05

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
حروف "تيفيناغ" الأمازيغية.

"ايوا ها تَاحْكَارْتْ إِسْكْرْنْ اسْكِوِينْ" (جملة بالأمازيغية، ومعناها: هذا هو الاحتقار متعالياً بقرنين)

بكثير من الاحتجاج، عبَّر فنان أمازيغي مغربي عن رفضه لعدم إدراج حروف "تيفيناغ" الأمازيغية في بطاقة التعريف الوطنية للمواطنين المغاربة (بطاقة الهوية). إجراء أثار غضب وحفيظة فئات واسعة من المغاربة والنشطاء والمنظمات الأمازيغية. مع العلم أن الإطار الدستوري والتشريعي ينصان على ترسيم اللغة الأمازيغية، واعتمادها في جل مناحي حياة المغاربة.

المطلب: الأمازيغية إلى جانب العربية

خلال الأيام الماضية، أفرجت السلطات المغربية عن الشكل النهائي لبطاقة التعريف الوطنية للمواطنين، لكنها اكتفت بحروف فرنسية وعربية.

اعتبر معارضون ناشطون أمازيغيون هذه الخطوة تجسيداً لـ"الإقصاء" و"التمييز" و"العنصرية"، وتكريساً لـ" "مُصالحة منقوصة مع الهوية الأمازيغية" باعتبارها مكوناً أصيلاً ومتجذراً في المغرب. وطالبوا بإدراجها إلى جانب اللغة العربية على قدم المساواة، على اعتبار أنهما لغتان رسميتان للبلد.

ينص الإطار الدستوري والتشريعي على ترسيم اللغة الأمازيغية الى جانب العربية، واعتمادها في جل مناحي حياة المغاربة.

ويعزى سبب استبعاد حروف "تيفيناغ" الأمازيغية إلى اعتماد مواد مشروع القانون 20.04 الذي لا يشرّع تدوين البيانات الشخصية بالأمازيغية. وهذا "يتناقض" مع مواد القانون التنظيمي لترسيم وتفعيل الأمازيغية المصادق عليه العام الماضي، وهو ينص على تطبيق هذه الهوية في الحياة العامة للمغاربة في مجالات التعليم، والتشريع والقضاء، والتنظيم والعمل البرلمانيين، وحقول الإعلام والاتصال والإبداع الثقافي والفني، وأيضاً في التعاملات الإدارية.

تنتقد المنظمات والجمعيات الأمازيغية هذا الإجراء وتعتبره "خرقاً لمبدأ تكييف القوانين والتشريعات الجديدة مع مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية"، مؤكدة أنه "سيبعث على الشكوك في توفر الإرادة السياسية، وفي جدية الدولة في التزاماتها، وسيزيد من زمن الإقصاء والتهميش الذي طالما عانت منه الأمازيغية"، وأنه يؤشر على "استمرار الإقصاء التشريعي في حق الأمازيغية الذي يكرس لواقع التمييز اللغوي، ويثبت من جديد تملص الحكومة والدولة من التزاماتها الدستورية لتحقيق المساواة، وتدارك عناصر التمييز في القوانين السابقة".

بيد أن السلطات قللت من أهمية الضجة التي تحيط بهذه القضية، وعزت عدم تضمين حروف "تيفيناغ" في بطاقة الهوية إلى أنها مسألة "تقنية محضة". وأوضحت بأن "سجلات الولادة التي يجري الاعتماد عليها في إنجاز بطاقة الهوية، لا تتضمن اللغة الأمازيغية التي جرى إقرارها رسمياً قبل سنوات قليلة، وبالتالي فلا يوجد مرجع يمكن الاعتماد عليه للحصول على اسم الشخص مكتوباً بالأمازيغية، بغرض وضعه في البطاقة".

من ناحيته، رفض ناشط وباحث أمازيغي مسوغات السلطات، وأكد بأنه لن يقبل ببطاقة هوية لا تحترم الدستور ولا تحترم كياننا، و كتب في مقالٍ له: "العذر التقني الذي تقدمه السلطة له حل تقني هو كتابة المعلومات العامة المحايدة بالحروف الأمازيغية. في انتظار تسوية مشكل الحالة المدنية الذي تتحمل السلطة مسؤوليته منذ سنوات، لأنها عندما تريد شيئاً إنما تقول له كن فيكون".

القضية أكبر من مجرد بطاقة هوية

لا يمكن اختزال الأمر بمجرد المطالبة ببطاقة هوية مدونة بحروف "تيفيناغ"، على الرغم من أهمية هذه الخطوة. بل هي تتعلق بالاعتراف بمكانة مكون أصيل وتاريخي للمغاربة. وهي تثير الكثير من السجال والنقاش حول مُعْطَيَي الطمس والإقصاء الثقافي والهوياتي الممارسين عليها من قبل إرادة "المنتصِر"، على مر العصور، إذ عادة ما يفرض كلمته لإخضاع السكان الأصليين لثقافته ولغته.

كانت ذريعة السلطة السياسية حتى نهاية الثمانينات الفائتة هي حماية "الوحدة الوطنية للبلد" وعدم الانزياح نحو خندق "التفرقة القومية بين المغاربة".

استمر نضال الأمازيغ، في شكليه المؤطر وغير المؤسساتي، مع حقبة "الحماية الفرنسية" بالمغرب، ثم تنامى ليأخذ طابعاً سياسياً ومؤسساتياً (حزب الحركة الشعبية) مع بداية استقلال المغرب في أواخر الخمسينات الفائتة، ليسجل صراعاً وتشجناً مع السلطة السياسية المغربية خلال العقود اللاحقة التي تلت، مع ما رافقها من اعتقالات وتعذيب وتهميش وإقصاء. وكانت ذريعة السلطة السياسية آنذاك هي حماية "الوحدة الوطنية للبلد" وعدم الانزياح نحو خندق "التفرقة القومية بين المغاربة".

بشكل تدريجي، بدأت هذه الأزمات في الزوال مع أواخر الثمانينات، إلى أن اختمرت التجربة بإصدار "ميثاق أكادير" الموقع من طرف ست جمعيات أمازيغية خلال عام 1991. وثيقة تعتبر الأولى من حيث وضوحها، إذ تتضمن مطالب الحركة الأمازيغية المختزلة في دسترة اللغة واعتمادها في التعليم والإعلام والبحث العلمي، علاوة على تأسيس مجلس التنسيق الوطني بين الجمعيات الأمازيغية التي بلغ عددها 122 جمعية أهلية.

الأجواء في فترة التسعينات الفائتة كانت لينة تشي بالهدوء والانفراج قياساً بالعقود الفائتة. ففي 20 آب/ أغسطس 1994، قرر الملك الراحل الحسن الثاني تدريس اللغة الأمازيغية في أسلاك التعليم الأولى، وإطلاق نشرات أخبار مسائية متلفزة باللهجات الأمازيغية (تاريفيت، تامزيغت، تشلحي...) كما أصدر عفواً شاملاً عن المعتقلين الأمازيغيين. اعتبر النشطاء الأمازيغ أنها فرصة تاريخية لاستثمارها بتقديم مذكرة للقصر الملكي بغية الاعتراف الدستوري بالأمازيغية، واعتمادها في دستور 1996، لكن ذلك لم يتحقق.

تحققت منجزات كثيرة، إلا انه يبقى على المغاربة جميعهم أن يتصالحوا مع تعدد هوياتهم الأصيلة. كما أن بعض مناصري ونشطاء الحركة الأمازيغية مدعوون للتقليل من جرعات الأنا المفرطة، واستدعاء خطاب المظلومية المبالغ فيه، الذي يجعلهم في موضع "الأقلية".

تنفس الأمازيغ الصعداء بعد أن تحقق مسعاهم جزئياً. إذ تم الاعتراف الحكومي بتعددية الهوية المغربية، واعتبار الأمازيغية مكوناً مركزياً من هذه الهوية، وذلك في عهد حكومة الزعيم الاشتراكي الراحل عبد الرحمن اليوسفي عام 1999.

مع بداية الألفية الثالثة، تجدد الاعتراف بالأمازيغية، هذه المرة مع الملك محمد السادس، الذي اختار مدينة أجدير (بلدة تقع قرب الحُسيمة في منطقة "الريف" شمال المغرب) ذات الطابع الأمازيغي ليخطب منها في العام 2001، ويقر بالحقوق اللغوية والهوياتية والثقافية للأمازيغ، بتأسيس المعهد الملكي الأمازيغي كمرجع مؤسساتي رسمي غايته "النهوض بهذه الهوية الأصيلة، والدفع بمكتسباتها".

بدأت تتحقق خلال السنوات اللاحقة، بعض المكتسبات على أرض الواقع، من بينها البدء بتدريس اللغة الأمازيغية بحروف "تيفيناغ" في 120 مدرسة عبر التراب المغربي خلال عام 2003، وكان ذلك من باب التجريب، إلى أن تم تعميمها وإرساؤها في معظم المدارس لاحقاً. وخلال عام 2010 أطلقت قناة "تمازيغيت".

والآن..

لم تعد الأمازيغية "بُعْبُعاً" هوياتياً يخيف النظام السياسي كما كان الأمر قبل عقود، فيحاربه تحت ذريعة "زعزعة السلم الاجتماعي" وتهديد وحدة البلد. حدث "تصالح" نسبي معها، بقليل من المرونة والسعي نحو احتواء هذه القضية.

ما زال هناك أشواط طويلة تقطعها لتنال حقها حتى تصير كياناً هوياتياً وثقافياً حاضراً بقوة داخل النسق الثقافي والاقتصادي والمجتمعي بالمغرب. ولتحقيق هذا المبتغى، على المغاربة جميعهم أن يتصالحوا مع تعدد هوياتهم الأصيلة. كما أن بعض مناصري ونشطاء الحركة الأمازيغية مدعوون للتقليل من جرعات الأنا المفرطة، واستدعاء خطاب المظلومية المبالغ فيه من خلال اللعب على وتر القومية والعرقية الضيقة بشكل فج وشعبوي، لأن ذلك سيجعلهم في موضع "الأقلية" (كما شدد المفكر محمد عابد الجابري). أما السلطة السياسية فمطلوب منها أن تقدم تنازلات تسرّع من الاستجابة لبقية المطالب من قبيل تطبيق مواد القانون التنظيمي لتفعيل وترسيم الأمازيغية، إقرار رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً، تدريس اللغة الأمازيغية في بقية الأسلاك التعليمية، دعم الإنتاجات العلمية والمعرفية والإبداعية بهذه اللغة، وإعادة النظر في مقررات التاريخ التي ما زالت تقدم محتوًى تربوياً مؤدلجاً، يحتاج للتنقيح الموضوعي على قدر من الإنصاف للماضي الأمازيغي للمغاربة.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه