هل ينجح خط أوباما الأحمر في جنوب السودان؟

زيارة الأيام الخمسة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى القارة الأفريقية، والتي بدت كممارسة للعلاقات العامة وانطلقت من كينيا "للتواصل العائلي"، وامتلأت بالمديح للأداء الاقتصادي المميز لإفريقيا، مع نصائح بضرورة مواجهة الفساد، والتخلي عن التشبث بالسلطة، وتحسين معاملة النساء، وفتح الباب أمام الممارسة الديمقراطية.. كانت فعلياً مهجوسة من ناحية بمواجهة تقدم النفوذ الصيني في
2015-08-06

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
دار النعيم مبارك-السودان

زيارة الأيام الخمسة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى القارة الأفريقية، والتي بدت كممارسة للعلاقات العامة وانطلقت من كينيا "للتواصل العائلي"، وامتلأت بالمديح للأداء الاقتصادي المميز لإفريقيا، مع نصائح بضرورة مواجهة الفساد، والتخلي عن التشبث بالسلطة، وتحسين معاملة النساء، وفتح الباب أمام الممارسة الديمقراطية.. كانت فعلياً مهجوسة من ناحية بمواجهة تقدم النفوذ الصيني في القارة السمراء، والتركيز على أن الولايات المتحدة تقدم "بديلا أفضل لأفريقيا"، كما ومن ناحية ثانية، بخطر أن يحدث تداعٍ في الحرب الأهلية العنيفة الدائرة في جنوب السودان، يحولها إلى صراع إقليمي متفجر.
كان أوباما قاطعا وشديد الدقة عند تناوله الوضع المأساوي في جنوب السودان وتبعات الحرب الأهلية هناك، المستمرة منذ أكثر من 18 شهرا. حدد مهلة حتى 17 من آب/أغسطس الجاري لوقف القتال والوصول إلى اتفاق سياسي، وإلا واجه قادة الحرب من الطرفين عقوبات مجلس الأمن، التي يمكن أن تشمل حظرا للسلاح وتدابير اقتصادية، إلى جانب إجراءات تتعلق بالقيادات، ليس فحسب بسبب انخراطها في القتال وإنما لأنها أبدت عدم حساسية فائقة حيال المعاناة التي يعيش فيها المواطنون. ولكن الشكوك تحيط بإمكانية تغيير هذه التهديدات للوضع في جنوب السودان، حتى إذا تمّ تنفيذها.
جنوب السودان هو في الأساس صناعة أمريكية (بحسب الصحف الأمريكية نفسها وأبرزها افتتاحية لنيويورك تايمز في الشأن أثناء الزيارة). فبسبب جمعيات الضغط واللوبيات المختلفة، أصبح الوضع في جنوب السودان في مقدمة اهتمامات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، رغم أن السودان كله لا يمثل أولوية سياسية أو اقتصادية لواشنطن. وتمّ تحت رعاية جورج بوش الابن التوصل إلى اتفاق السلام بين الخرطوم والمتمردين الجنوبيين في العام 2005، متضمنا ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير. وفي ظل رعاية أوباما، وصل هذا الاتفاق إلى نهايته المنطقية، وهو استقلال جنوب السودان قبل أربع سنوات من اليوم.
لم يستمر طويلا شهر العسل في جنوب السودان، بعد إعلانه كآخر وأحدث دولة مستقلة في العالم. حل محل العداء ودعاوى التهميش التي كانت من نصيب شمال السودان، اتهامات متبادلة بين النخب التي كانت تتزعم القتال من أجل الاستقلال. ولم يحتج الوضع إلى وقت أطول لينحدر ذلك الصراع إلى مستويات قبَلية، طرفاها الرئيسيان قبيلتان نيليتان من جد بعيد واحد، هما "الدينكا" التي ينتمي إليها الرئيس سلفا كير، وهي أكبر قبيلة في جنوب السودان (حوالي 1.5 مليون من أصل حوالي 9 مليون نسمة هم مجمل عدد السكان)، و"النوير" التي تليها في الحجم وينحدر منها نائب الرئيس السابق وزعيم المعارضة الحالي، رياك مشار.

أسوأ حرب أهلية في أفريقيا

القتال الذي اندلع في منتصف كانون الأول /ديسمبر 2013 بعد اتهام كير لمشار أنّه سعى للقيام بانقلاب ضد الحكومة، أدى حتى الآن إلى مقتل عشرات الآلاف والى أكثر من مليوني مهجر من مناطق سكنهم الأصلية، بعضهم في معسكرات اقامتها الأمم المتحدة وفصلت فيها بين المهجّرين من الدينكا والنوير كي لا يشتبكوا حتى في معسكرات اللجوء! ومع استمرار القتال وانعدام الأمن، فإن شبح المجاعة يخيم على البلاد. وتقدر اليونيسيف أنّ 50 ألفا من الأطفال مهددون بالموت جوعا، بينما وكالة المعونة الأمريكية تشير إلى أكثر من أربعة ملايين نسمة سيواجهون المجاعة هذا العام. ولهذا وصفت مجلة "الإيكونومست" ما يجري بأنه أسوأ حرب أهلية تشهدها القارة الأفريقية.
اهتمام أوباما لا ينبع من هذا الجانب الإنساني فقط، وإنما من الخوف أن يؤدي استمرار هذا الصراع في جنوب السودان إلى تدخلات إقليمية من الصعب ضبطها، مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من تبعات على الاستقرار في المنطقة التي تعتبر إحدى جبهات واشنطن المفتوحة في "حربها على الإرهاب"، وفي مواجهة "حركة الشباب" الصومالية. وهذا ما دفع أوباما إلى عقد اجتماع إقليمي شاركت فيه أثيوبيا وأوغندا وكينيا والاتحاد الإفريقي و.. السودان. ومشاركة الأخير تلفت النظر، على الرغم من أنها تمت على مستوى وزير الخارجية، لرفض الأمريكان التعامل مع الرئيس عمر البشير بسبب الاتهامات الموجهة إليه من المحكمة الجنائية الدولية. وهكذا، تمّ إشراك الخرطوم في الاجتماع بسبب التداخل التاريخي بين البلدين، ولأنها تملك أطول حدود مع جنوب السودان ومعرفة وثيقة به وبالتعامل مع القيادات هناك، وأيضاً ربما بسبب ما يتردد من تسريبات بأن الخرطوم تدعم مشار بشحنات من الأسلحة بينما أوغندا تقف علانية مع كير، وقد أرسلت قواتها للقتال إلى جانبه، وهو ما يجعل للحرب الأهلية الدائرة هناك بعداً إقليميا يبدو مرشحا للتوسع. فمن ناحية، هناك العداء القديم بين السودان وأوغندا، الذي يجد في ساحة جنوب السودان ميدانا مفتوحا لتصفية الحسابات بين الطرفين، كما أن في أثيوبيا مجموعة مقدَّرة من النوير، وهي تخشى أن تجد نفسها متورطة في الصراع إلى جانب مشار ومناصريه.
هدفَ الاجتماع (الذي أبعد عنه جنوب السودان، الأمر الذي أثار غضب المسؤولين في جوبا) إلى تحديد ما يمكن عمله خلال هذه الفترة، وحتى منتصف هذا الشهر. وتم تداول أفكار مثل توفير قوة تدخل إفريقية وتوسيع عقوبات حظر السفر، وتجميد الأرصدة، الذي شمل حتى الآن ستّاً من القيادات العسكرية للطرفين، لتضم كير ومشار.. بعض المراقبين، مثل أندرو ناتسيوس، المبعوث الأمريكي الأسبق للسلام في السودان، يقول إن مثل هذه الإجراءات قد لا تأتي بالنتائج المأمولة لأن القيادات تستميت في الدفاع عن وجودها، كما أنّ فرض مقاطعة اقتصادية يُضعف من قوة أدوات الضغط التي يمكن للعواصم الغربية استخدامها.

وساطات

طوال فترة الثمانية عشر شهراً منذ تفجر الصراع، تدخلت "الهيئة الحكومية للتنمية" المعروفة اختصارا بـ "إيقاد" بوساطات، وقامت كل من أثيوبيا والسودان وكينيا بتعيين مفوضين لمتابعة الحوار بين الطرفين المتصارعين. وعلى الرغم من إبرام نصف دزينة من الاتفاقيات الخاصة بوقف إطلاق النار وتقاسم السلطة، وبعضها كان عبر وساطة مباشرة من وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، إلّا أنّ تلك الاتفاقيات لم تدخل قط حيز التنفيذ.
دفع هذا الوضع إلى التفكير في مسارات أخرى، مثل توحيد الحركة الشعبية والجيش الشعبي على أساس أن جذور المشكلة تكمن في الخلافات التي عصفت بالقيادات ودفعتها إلى رفع السلاح ضد بعضها البعض. ففي رأي الكثيرين أن دولة جنوب السودان هي مولود للجيش الشعبي والحركة الشعبية وليس العكس، وأنه بشيء من الوحدة في الحركة يمكن استعادة الهدوء. وفي هذا الإطار تحركت تنزانيا وجمعت الأطراف المتصارعة الثلاثة، فإلى جانب كير ومشار، هناك مجموعة المسجونين السياسيين السابقين مثل باقان أموم، الأمين العام السابق للحركة الشعبية، ودينق ألور الذي شغل عدة مناصب وزارية، وهم من الذين اتهمهم كير بالفساد ووضعهم في السجون ثم أفرج عنهم بعد ضغوط دولية، لكنهم قرروا عدم الانحياز الى أي طرف في الصراع الجاري، وكذلك عدم اللجوء إلى العنف. الاجتماعات التي تمت في أروشا بتنزانيا انتهت الى اعتماد وثيقة إعادة توحيد الحركة الشعبية كإطار سياسي تنطلق منه عملية وقف إطلاق النار، والسعي نحو حل سياسي للصراع على السلطة. وبالفعل تمت إعادة تعيين باقان أموم في منصبه السابق أمينا عاما للحركة.
أعطى هذا التطور دفعة أمل في تسوية سياسية، خاصة وأن وساطة "الأيقاد" وجدت لها دعما من خلال منظمة إقليمية هي "الاتحاد الأفريقي"، وأخرى دولية هي الأمم المتحدة، إلى جانب التواصل والدعم المباشر من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج والاتحاد الأوروبي.
اقترحت خطة السلام الأخيرة هذه قسمة للسلطة والثروة بين الزعيمين كير ومشار عبر تخصيص 53 في المئة من الوظائف التنفيذية للدولة لصالح معسكر كير و33 في المئة لصالح مشار و14 في المئة مقسمة بين مجموعة السجناء السابقين ومعارضي الحركة الشعبية، على أن يُعكَس هذا التوزيع في ولايات أعالي النيل والوحدة وجونقلي، لتكون الغلبة لمشار وجماعته. وكذلك تثبيت كير في منصبه رئيسا وإعادة مشار نائبا له بصلاحيات محددة من خلال مرحلة انتقالية تستمر 18 شهرا، ويتم خلالها إعادة توحيد المجموعات المتقاتلة من الجيش الشعبي، وأن تستمر هذه العملية لفترة 30 شهرا تنتهي بانتخابات وتشكيل حكومة من واقع نتائج تلك الانتخابات التي ينبغي على الجميع احترام نتائجها لأنها ستؤسس لشرعية جديدة.
هذا إلى جانب تجريد العاصمة جوبا من السلاح، وإقامة لجنة للحقيقة والمصالحة برئاسة قاض للنظر في الدعاوى الخاصة بعمليات الإبادة، واستعادة السلام والوئام بين القبائل.. أي باختصار محاولة استعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع القتال.. وهو ما لا يثير التفاؤل، لأن الحلف الذي كان قائما بين النخب السياسية والعسكرية واستطاع تحقيق استقلال جنوب السودان انهار بسبب المطامح الشخصية لهذه النخب، وكذلك بسبب الخلاف الجذري حول الموقف الذي ينبغي اتخاذه من السودان ونظامه، أي هل يكون بالتعايش معه أم بالعمل على الإطاحة به من خلال معاونة رفاق الأمس في الحركة الشعبية والجيش الشعبي، وهما لا زالا يحملان الاسم نفسه ويسير القتال تحت رايتهما في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق السودانيتين.
سيلفا كير انتقد الاتفاق وأعلن أنّه لن يوقعه، مشيرا إلى أن وساطة "الإيقاد" أعطت الأغلبية لمشار في الولايات المنتجة للنفط، الأمر الذي يطرح سؤالا حول كيف ستقوم الحكومة المركزية بتمويل أعمالها. المبعوث الأمريكي ناتسيوس يرى أنه، لتعزيز فرص نجاح مبادرة "الأيقاد" الأخيرة، فهناك حاجة للحصول على دعم مباشر من رؤساء الدول المجاورة وضمان تعاونهم وعدم تدخلهم، والضغط على أوغندا تحديدا لسحب قواتها ولو أدى ذلك إلى قيام واشنطن بالتلويح بتعليق اتفاقية التعاون العسكري معها. كذلك، فهناك حاجة ماسة الى اشراك القيادات العسكرية الميدانية في أي اتفاق سلام، لأنهم هم الذين يمكن أن يقوضوا ذلك الاتفاق أو يجعلونه يصمد. وأخيرا ينبغي فتح الباب أمام القيادات المجتمعية، من رجال دين وزعامات قبلية، ليلعبوا دورا توافقيا.
.. ولكن، وفي النهاية، وبالاستناد إلى تجارب أخرى، لا تبدو "الخطوط الحمر" التي تعلنها واشنطن فعالة.

 


وسوم: العدد 155

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...