سحابة سلام الضعف تظلل السودان

تشير التطورات التي يشهدها السودان في جانبي الحكم والمعارضة، معطوفة على بعض الأحداث الإقليمية، الى احتمال اتجاه البلاد نحو تحقيق سلام داخلي ينبع في الأساس من حالة الضعف والإنهاك التي تعتري الجميع، واضمحلال الخيارات بما فيها تلك المدعومة من المجتمع الدولي. فمنذ أسابيع قليلة، في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، افتتحت أعمال الدورة الأولى للحوار الوطني التي تستمر ثلاثة أشهر، تقاطعها
2015-11-05

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
تاج السر الملك - السودان

تشير التطورات التي يشهدها السودان في جانبي الحكم والمعارضة، معطوفة على بعض الأحداث الإقليمية، الى احتمال اتجاه البلاد نحو تحقيق سلام داخلي ينبع في الأساس من حالة الضعف والإنهاك التي تعتري الجميع، واضمحلال الخيارات بما فيها تلك المدعومة من المجتمع الدولي.
فمنذ أسابيع قليلة، في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، افتتحت أعمال الدورة الأولى للحوار الوطني التي تستمر ثلاثة أشهر، تقاطعها قوى المعارضة الداخلية وتلك المسلحة، ويضمها تنظيم "الجبهة الثورية السودانية" وتشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال، وحركات دارفور المتمردة. المقاطعون ينطلقون من عدم ثقتهم بالنظام ويركزون بالتالي على أهمية عقد مؤتمر تحضيري خارج السودان برعاية الاتحاد الأفريقي للاتفاق على الآليات والإجراءات اللازمة لضمان بدء الحوار والالتزام بمخرجاته، الأمر الذي يتطلب ان يكون الجميع على قدم المساواة، الى جانب تهيئة الأجواء، من حرية للإعلام والعمل السياسي. لكن الرئيس عمر البشير وحزبه ("المؤتمر الوطني") رفضا فكرة اللقاء خارج السودان لاعتراضهم على "تدويل قضايا السودان"، مضيفين انه لا يمكن للبشير ان يجلس مرؤوسا لشخص آخر في مؤتمر يتناول قضايا البلاد. ولوحظ غياب أي ممثل للاتحاد الأفريقي عن جلسة افتتاح مؤتمر الحوار وهو ما فسر كعتب ديبلوماسي من قبل الاتحاد للسودان، لا سيما أن الاتحاد ساند الخرطوم كثيراً، خاصة في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية.

ديموقراطية المعارضة

في الوقت الذي يبدو فيه الحوار وكأنه مونولوج داخلي لحزب المؤتمر الوطني والقوى السياسية المتحالفة معه، بسبب غياب المعارضين، الأمر الذي يثير تساؤلات حول جدوى هذه العملية، إلا ان جانب المعارضين لم يسْلم من تساؤلات هو الآخر طالت حتى التزاماته بالشعارات التي يرفعها عن الديموقراطية وتداول السلطة. فقد انفجرت الأوضاع داخل "الجبهة الثورية" اثر رفض مالك عقار، رئيس "الحركة الشعبية ـ قطاع الشمال" تسليم رئاسة الجبهة الى جبريل ابراهيم زعيم "حركة العدل والمساواة" الدارفورية. فعند تكوين الجبهة قبل أربع سنوات، تقرر أن يتم تداول الرئاسة بين القيادات المكونة لذلك التحالف المعارض، وكانت الدورة الأولى من نصييب عقار الذي يفترض أن يسلمها بعد عام. لكن عدم اتفاق جبهات دارفور على من يخلفه أدى الى تمديد فترة رئاسته للجبهة لفترة أخرى. قبل انتهاء فترة التمديد اتفقت الجبهات الدارفورية المتمردة على تولي جبريل ابراهيم الرئاسة، وتنازلت له القيادات الأخرى. لكن عقار رفض تسليم الرئاسة وغادر اجتماع الجبهة المنعقد في باريس. وأدى هذا الوضع الى اشتعال حرب البيانات: تصر حركات دارفور على ان رئاسة الجبهة آلت فعليا الى جبريل ابراهيم، بينما يصر عقار على ان الأمر لم ينته بعد، وانه لا يزال رئيسا للجبهة. ويتأسس اعتراض عقار على قناعته بأن تنظيم حركة العدل والمساواة خسر قوته العسكرية الرئيسية اثر كمين نصبته له القوات السودانية والميليشيات التابعة لها، وأن مسعى جبريل لتسلم الرئاسة يهدف الى اكتساب ثقل سياسي وديبلوماسي يعوّض عن خسارة حركته العسكرية، وربما يسمح له بالتفاوض مع الخرطوم.. هذا الى جانب الاتهامات المثارة حول "حركة العدل والمساواة" بأنها الجناح العسكري لحزب "المؤتمر الشعبي" المعارض الذي يتزعمه الترابي، بسبب الخلفية الإسلامية لمختلف قياداتها ومشاركتها في السلطة عندما كان الترابي يتمتع بنفوذ قوي في السنوات العشر الأولى من استلام الإنقاذ لها، قبل أن ينقلب البشير على الترابي بمساندة من تلاميذ الأخير.

جدل المركز والهامش

الصراع على منصب رئاسة تنظيم جبهوي، والصراع في دولة جنوب السودان الوليدة بين رفاق الأمس، أعادا تركيز الانتباه والتساؤلات حول حقيقة "صراع المركز والهامش" التي تمحورت حولها أطروحة زعيم ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق، الذي كان يرى أن الدولة السودانية تحتاج للعودة الى منصة التأسيس بهدف إنصاف الأقاليم من سطوة المركز الذي هيمن على السلطة والثروة في البلاد، وجيّرها لمصلحة أهل الوسط النيلي على حساب أهل الهامش. ولهذا كان الملمح الرئيس لاتفاقية السلام التي أبرمها قرنق مع الحكومة السودانية في العام 2005 تضمينها جوانب أساسية تتعلق بقسمة السلطة والثروة.
الطريقة التي نفذت بها تلك الاتفاقية لم ترضِ الكثيرين، وكان أن صوّت الجنوبيون لمصلحة الانفصال بأغلبية ساحقة رغم أن الاتفاقية كانت تنص على إعطاء الأولوية للوحدة. كثيراً ما يُعتبر غياب قرنق ـ وفاته في حادث تحطم طائرة بعد ثلاثة أسابيع من بدء تنفيذ اتفاقية السلام ـ سبباً لتعثر الاتفاقية في ما بعد، إلا انه بعد تفجر الصراع في دولة جنوب السودان (ولا يزال مستمراً)، والتشققات التي طالت "الجبهة الثورية" بسبب الخلاف على الرئاسة.. كل هذا دفع الى التشكيك في نظرية صراع المركز والهامش، لأن أي هامش يقوم بعد فترة بإنتاج مركزه الخاص، وأيضاً هامشه الذي يمكن ان يثور مطالبا بقسمة جديدة للسلطة والثروة، وهو ما يشهده جنوب السودان في الوقت الحالي وما تُنبئ عنه خلافات الجبهة الثورية.. ما يشير من ناحية أخرى إلى ان عقلية التسلط والسيطرة ليست قاصرة على المركز وحكومته. انتهى الخلاف بين مكونات الجبهة الثورية الى اصطفاف حركات دارفور معاً رغم ما بينها من خلافات، ما أدى عمليا الى نشوء حركات مختلفة ومتباينة، وذلك في مواجهة الحركة الشعبية ـ شمال التي أصبحت تمثل جنوب السودان، وكأنه المركز الجديد الذي يريد بسط هيمنته على الهامش المتمثل في حركات دارفور، وهو ما يعطي هذا النزاع أبعادا اثنية.
والمفارقة في هذا كله ان نظرية صراع المركز والهامش تلقت ضربة قوية لم تأت من خصومها بل من الداعين لها، لدرجة حمل السلاح ورفع سقف المطالب والعمل بالقوة على إعادة هيكلة الدولة السودانية والسعي لوضعها في منصة التأسيس مرة أخرى.

نقد الوساطة الغربية

يفتح كل هذا الباب أمام إعادة نظر في الدور الذي لعبه المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة في التوسط بالنزاعات السودانية والعمل على وقفها من منطلقات ليبرالية، وتوظيف نفوذها لفرض نماذج "حرية السوق" و "التحول الديموقراطي المشروط".
أحد منتقدي هذا التوجه هو الباحث الكندي جون يونق الذي وثق بصورة تفصيلية لعمليات فرض السلام الذي قامت بها الدول الغربية في السودان، وتوصل الى أن اتفاقية السلام تلك لم تحقق أياً من الأهداف التي انتدبت نفسها لها، إذ لم تحافظ على وحدة السودان، ولم تفتح الباب أمام التحول الديموقراطي، ولم تحقق سلاماً، بدليل اشتعال الحرب مرة أخرى. كما أن الدولة التي أقيمت بعد الانفصال في جنوب السودان لا تمتلك المؤهلات والأسس اللازمة للاستمرار كدولة. وعلى الرغم من هذا الفشل لجهد استمر 26 عاما، إلا ان المجموعة الدولية نفسها تسعى الى "تجريب المجرَّب" في مواجهتها للصراع المندلع في جنوب السودان. ويعتقد يونق ان نجاحها لن يتجاوز عمليات إطفاء الحرائق التي تحيط بعملية إعادة الأمن والاستقرار والسلام الى الدولة الوليدة لكن بدون تحقيق سلام مستدام. هذه التساؤلات حول أداء الوساطة الدولية وسجلها الفعلي تضعف من دورها، خاصة بما يتعلق بقضايا مثل التحول الديموقراطي. فالمجموعة الدولية التي كانت متحمسة لممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير الذي انتهى بالانفصال، لم تتوقف كثيرا عند البطء والتعطيل الذي شاب عملية التحول الديموقراطي.
وعلى الرغم من ذلك، يظل للمجتمع الدولي ثقله، خاصة لجهة دفع المجموعات المتمردة الى طاولة المفاوضات. فقد ضغطت واشنطن على أطراف "الجبهة الثورية" لكي تجيب على عرض الرئيس البشير إعلانه وقفا لإطلاق النار لمدة شهرين، وردت الجبهة بتأكيد عزمها واستعدادها لوقف العدائيات لفترة ستة أشهر، وهو العرض الذي لا يزال قائما ويحتاج الى متابعة سياسية نشطة لتحويل وقف العدائيات الى وقف شامل لإطلاق النار يمكن أن يفتح الباب أمام عمل سياسي سلمي.
أما داخل السودان فإن الرئيس البشير أعلن عن السماح بحرية العمل السياسي والإعلامي. وقررت "حركة الإصلاح" المنشقة عن المؤتمر الوطني اختبار هذا الإعلان فتقدمت بطلب لإقامة ندوة جماهيرية، وهو ما رفضه جهاز الشرطة بداية. لكن حركة الإصلاح أعلنت انها ستمضي قدما في ندوتها تلك ورفض الرفض الذي ورد من الشرطة، واختبار صدقية إعلانات البشير. وبالفعل أقيمت الندوة وأعقبتها ثانية لمجموعة أخرى معارضة. ومع ان هاتين الندوتين شهدتا حضورا جماهيريا جيدا، إلا ان الأسئلة بدأت تظهر عن مغزى ومحتوى خطابات المعارضة التي ركزت على قضايا الفساد والفشل الحكومي، مما يعرفه الناس ويعايشونه يوميا، لكنهم يتطلعون الى أن تكون لدى المعارضة أفكار جديدة وحلول لمواجهة تعقيدات المشهد السوداني.
حالة الضعف التي تعتري الجميع بدأت واضحة للعيان، ووصلت الى انتقاد البشير حزبه، "المؤتمر الوطني" علناً، واصفا إياه بأنه أصبح مثل الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الذي أقامه الرئيس الأسبق جعفر النميري وانهار برحيله. أي ان التنظيم الذي ترجع جذوره الى مجموعة الإسلام السياسي التي تمددت لدرجة القيام بانقلاب والسيطرة على السلطة لأكثر من ربع قرن من الزمن، انتهى به الأمر تنظيما حكوميا يفتقد المبادرة السياسية.
قوى المعارضة تعاني غياب البدائل وتصاعد الأسئلة حول جدوى العنف، خاصة في ظل استنكاف دول الجوار عن توفير الدعم للعمل المعارض ببعده العسكري. ولعل في قيام يوري موسفيني، الرئيس الأوغندي صاحب المواقف العدائية المعلنة تجاه الخرطوم، مؤخرا بزيارة معلنة إلى السودان، مؤشرا على حالة التحولات الجارية.
وكذلك الوضع مع المجتمع الدولي الذي تتنازعه الأزمات المتفجرة حول العالم، ولا يجد لها حلولا سريعة وناجعة، ويجد من الأفضل له دفع السودانيين الى طاولة حوار سلمي بدلا من الحديث بالرصاص، وذلك خوفا من انهيار البلاد بكل ما يعنيه ذلك، ولا سيما في موضع السودان الجيوسياسي... وهكذا يبدو الخيار الوحيد، الاتجاه نحو حوار وسلام، قائما على الضعف والإنهاك.

 

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...