حج سوداني الى واشنطن

في أسبوع واحد، مطلع شباط الحالي، استقبلت العاصمة الأميركية اثنين من كبار القيادات السودانية: وزير الخارجية، علي كرتي، ومساعد الرئيس والرجل الأول في "حزب المؤتمر الوطني" الحاكم الدكتور إبراهيم غندور. وبما أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تعتمد سياسة محاصرة النظام السوداني وتقييد حركة مسؤوليه، لدرجة رفض إعطاء تأشيرة دخول للرئيس عمر البشير لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل
2015-02-18

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
| en

في أسبوع واحد، مطلع شباط الحالي، استقبلت العاصمة الأميركية اثنين من كبار القيادات السودانية: وزير الخارجية، علي كرتي، ومساعد الرئيس والرجل الأول في "حزب المؤتمر الوطني" الحاكم الدكتور إبراهيم غندور. وبما أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تعتمد سياسة محاصرة النظام السوداني وتقييد حركة مسؤوليه، لدرجة رفض إعطاء تأشيرة دخول للرئيس عمر البشير لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عامين.. فإن الزيارتين الأخيرتين لفتتا الأنظار.
الخارجية الأميركية نأت بنفسها عن زيارة وزير الخارجية السوداني، موضحة أنه جاء بدعوة لحضور إفطار الصلاة السنوي الذي يقيمه الكونغرس ويدعي له مئات من الشخصيات حول العالم، وحضره الرئيس باراك أوباما. وبرغم رفض وزارة الخارجية الدخول في تفاصيل تتعلق بتأشيرة الدخول الممنوحة لكرتي، الا ان بعض المتابعين للشأن السوداني لاحظوا ان الوزير يتحرك وفق تأشيرة تسمح له بزيارة الولايات المتحدة بدون دعوة رسمية، وأنه لم يكن في مهمة ديبلوماسية. بل تسمح له تأشيرته بتخطي حدود الـ 25 ميلا التي تحد بها تحركات المسؤولين الذين تصنف واشنطن دولهم كراعية للإرهاب.. مثل السودان. وأضاف هؤلاء ان واشنطن لم تشأ عرقلة زيارة كرتي كي لا تؤثر بصورة سلبية على زيارة غندور الذي وُجهت اليه دعوة رسمية للقدوم الى العاصمة والتباحث مع المسؤولين الأميركيين.
 

من نافع الى غندور

فكرة زيارة مسؤول سوداني رفيع المستوى ليست جديدة، ويضغط باتجاهها أن واشنطن وجدت نفسها معزولة عن التعاطي مع الرئيس البشير بعد منعها لديبلوماسييها ومسؤوليها من الالتقاء به إثر توجيه اتهامات له من المحكمة الجنائية الدولية. ومن الناحية الثانية، فإن السودان عبّر بصورة واضحة عن استيائه من تنصل واشنطن من وعودها برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإلغاء الحظر الاقتصادي عليه أثر توقيع اتفاق السلام في 2005، وكذلك استياؤه من المبعوثين الخاصين الذين ترسلهم الولايات المتحدة للتعاطي مع الشأن السوداني، حيث لا يرى أنهم يركزون على كيفية تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وإنما ينفقون وقتهم وجهدهم في متابعة قضايا السودان الداخلية، مثل الوضع في دارفور والتحول الديموقراطي.
وقد اتخذت الخرطوم موقفاً متشدداً ضد المبعوث الأميركي الأخير، دونالد بوث، فاستقبلته مرة واحدة على مستوى وكيل وزارة الخارجية فقط، الذي طلب منه خريطة طريق لمهمته وكيفية تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين، وبعد ذلك رفضت الخرطوم منحه تأشيرة لدخول السودان. ومع أن واشنطن تردّ أن تفجر الحرب في دارفور أعاق مكافأة السودان على توقيع اتفاق الجنوب، إلا أنها بدأت تخفف قليلا من الحظر الاقتصادي في بعض الجوانب الزراعية والأكاديمية.
وقبل عامين اتجهت واشنطن لتجاوز هذا الوضع وتوجيه دعوة الى سلف غندور في الحزب، الدكتور نافع علي نافع، لزيارة واشنطن. لكن الزيارة وُوجهت بحملة عنيفة من الناشطين وجماعات الضغط، شارك فيها بعض أعضاء الكونغرس، أمثال النائب فرانك وولف، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية الى إلغاء الدعوة. وقد يكون لشخصية نافع المثيرة للجدل (كونه رئيساً سابقاً لجهاز الأمن ومتهماً بالكثير من التجاوزات)، دور في نجاح حملة إلغاء الدعوة له.
هذه المرة يبدو الوضع مختلفاً. فشخصية الدكتور غندور وفاقية أكثر، ما يسهّل التواصل معه حتى من قبل خصومه السياسيين. لكن أهم من ذلك هو بروز ثلاثة عوامل دفعت واشنطن فيما يبدو الى السعي للتعاطي بصورة عملية مع الخرطوم، برغم تحفظاتها على ممارستها الداخلية والأقليمية: أولها البروز القوي لتنظيم داعش في سوريا والعراق، وربما ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا، واتجاهها للتمدد في غرب أفريقيا، إضافة الى وضع الصومال والوجود الفاعل للقاعدة في اليمن.
وللسودان خبرة في التعاطي مع التنظيمات الإسلاموية المسلحة، استفادت منها واشنطن بصورة واضحة أثر هجمات "11 أيلول"، بل وأثنت في مناسبات عديدة على تعاون السودان في مواجهة الإرهاب برغم وجوده في قائمة الدول الراعية للإرهاب! ولكن الأهم من هذا، هو الخوف من تدهور الوضع السياسي والأمني في السودان، وأن ينهار بالتالي الحاجز الذي يمنع من تواصل غرب أفريقيا بشرقها، خاصة مع النمو المتزايد لتلك المجموعات في ليبيا المجاورة لأقليم دارفور المضطرب.
أما العامل الثاني فيتمثل في تفجر الحرب الأهلية في جنوب السودان. فبروز دولة جنوب السودان يكاد يكون صناعة أميركية خالصة، إذ نجحت اللوبيات العديدة من المسيحيين والسود ومجموعات حقوق الإنسان المختلفة في الضغط على الإدارات الأميركية المتعاقبة للدفع باتجاه فصل جنوب السودان، من دون الإعداد الكافي للدولة الجديدة ولمؤسساتها ومع غض الطرف عن المشاكل الهيكلية التي تعتورها.. توج ذلك في العام 2011 ببروز جنوب السودان كأحدث دولة على ظهر البسيطة. ولكن، وبعد مضي عامين فقط تفجرت الحرب الأهلية بين رفاق الأمس، متخذة بعداً إثنياً وقبلياً يهدد بالتحول إلى حرب إقليمية بعد التدخل الأوغندي الى جانب رئيس جنوب السودان، سيلفا كير، بمواجهة خصومه الذين يقودهم نائبه السابق رياك مشار. السودان يمثل عاملاً لا يمكن تجاهله عندما يتعلق الأمر بجنوب السودان، فهناك التاريخ المشترك ومعرفة الخرطوم الحميمة بكل قياداته السياسية، ووجود ألفي كيلومتر من الحدود المشتركة، وهي الأطول مع جيران جنوب السودان الستة. والأهم من هذا أن السودان يمثل المعبر الوحيد لصادرات نفط جنوب السودان الى الأسواق العالمية، وهي مصدر الدخل الوحيد لتلك الدولة.
وبسبب الدعم الأميركي القوي الذي أسهم في انفصال جنوب السودان، فإن الولايات المتحدة تعتبر مسؤولة بصورة ما عما يجري هناك. لكنها تبدو مشلولة ولا تعرف كيفية التعامل مع ما يجري، وهو ما يتضح من الانقسام الواضح في الإدارة بين ما إذا كان على واشنطن أن تمضي قدماً في فرض عقوبات وحظر على القيادات الجنوبية المسؤولة عن استمرار الحرب، من عدمه.
العامل الثالث يظهر في بروز الرئيس البشير بخلفيته وشخصيته العسكرية (وليس الاسلاموية)، كأقوى رجل في البلاد بعد نجاحه في تحييد الحركة الأسلاموية تحت مسمياتها المختلفة، وهي التي حملته الى السلطة قبل ربع قرن من الزمان. فهو تخلص بداية من زعيم الحركة، الدكتور حسن الترابي، مستعيناً بتلامذته مثل نائبه السابق علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، ثم تخلص من هؤلاء في أواخر العام 2013 تحت دعاوى التغيير، وأصبح الطاقم الذي يدير البلاد حالياً يدين بالولاء الشخصي له أكثر من انتمائه الأسلاموي أو لحزب المؤتمر الوطني.

متغيرات سودانية

وهكذا، فالإشكال الرئيس الذي يواجه الإدارة الأميركية هو أنها عزلت نفسها عن التعاطي المباشر مع البشير بسبب اتهامات المحكمة الجنائية الدولية تجاهه، كما انه ليس واضحاً اذا كان لأي من معاونيه الحاليين قدر من السلطة والقدرة يمكنهم من التأثير على البشير وعلى الأوضاع بصورة عامة. ويزيد من تعقيد الأمور أن البلاد تتهيأ الى انتخابات رئاسية وبرلمانية في نيسان المقبل، يتوقع أن يفوز فيها البشير بدورة رئاسية جديدة، ومعه حزبه المؤتمر الوطني، وذلك في ظل مقاطعة من معظم القوى السياسية الأخرى. وتظلل علامات الاستفهام نوع السياسات التي سيتم تبنيها في مختلف الملفات الداخلية والخارجية في الدورة الرئاسية الجديدة، وأهم من هذا، نوع الشخصيات التي سيعتمد عليها البشير لإنفاذ هذه السياسات ومتابعة مختلف الملفات.
ولهذا كله، فلا يبدو غريباً التعتيم الذي لازم زيارة غندور الى واشنطن.
وبغض النظر عما تمّ الاتفاق عليه، فإن التدرج في التعاطي مع مختلف القضايا العالقة بين البلدين يبدو سيد الموقف، خاصة أن سياسة واشنطن تجاه السودان ظلت الى حد كبير متأثرة بمجموعات الضغط العديدة التي فرضت القضية السودانية على الإدارات الأميركية المتعاقبة، برغم ان السودان لا يتمتع بثقل سياسي أو اقتصادي خاص يبرر جعله أولوية سياسية أو اقتصادية لواشنطن.
ويظهر هذا في انه، وبعد أسابيع قليلة من دخول جورج بوش البيت الأبيض في رئاسته الأولى في 2001، استقبل مستشاره كارل روف وفداً من المسيحيين بقيادة شارلس كولسون الذي سجن بسبب دوره في فضيحة ووترغيت وخرج من السجن "مسيحياً جديداً"، حيث طلب الوفد أن تعمل ادارة بوش على معاونة مسيحيي السودان، ووعدهم روف خيراً، وترجم وعده ذاك الى واقع حيث رمت الادارة بثقلها حتى أبرم اتفاق السلام مع الحركة الشعبية المتمردة في جنوب السودان في العام 2005.
وإبان تولي مادلين أولبرايت وزارة الخارجية، قدم لها الديبلوماسيون المحترفون مذكرة يوصون فيها ان تعيد الوزارة السفير الأميركي الى الخرطوم بعد أن نقل الى نيروبي بدعوى التخوف الأمني عليه، وأوصوها بتعزيز الوجود الديبلوماسي لأن السودان مصنف دولة إرهابية وتحتاج الإدارة الى الحصول على معلومات موثوقة، هذا بالإضافة الى الحرب الأهلية الدائرة هناك، وكلها تحتاج الى وجود ديبلوماسي أميركي فعَّال لمواجهتها. أولبرايت وافقت على المقترح وأصدرت قراراً بذلك، لكن مجموعات الضغط هبَّت منتقدة القرار الذي أعتبرته مكافأة للخرطوم، مما أضطر أولبرايت لسحبه في غضون 24 ساعة.
ولهذا من المفيد انتظار مرور وقت كاف لاختبار متغيرات ما يجري في كل من الخرطوم وواشنطن، لمعرفة ما اذا كانت زيارة غندور تؤشر الى مسار جديد في علاقات البلدين وفي التعامل المباشر بينهما، وفي تقليل تأثير مجموعات الضغط في توجيه السياسات الأميركية تجاه السودان.. أم لا.

 

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...