برتقال يافا ثمناً لـ"فلسطين الروسية"

بلغ عدد المواقع التي كانت ملكية لروسيا وبيعت بزمن خروتشيف إلى العدو الإسرائيلي 22 موقعاً، مساحتها الإجمالية تصل إلى 167 ألف متر مربع. في "صفقة البرتقال"تلك، لم يدفع العدو المال إلى الاتحاد السوفياتي مقابل الأراضي والأملاك التي بيعت له، بل ما يعادلها من محاصيل برتقال يافا الفلسطينية.
2020-05-22

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مجمع نيقولايف في القدس-1907، وهو الآن مديرية الخرائط العبرية.

يطل مصطلح "فلسطين الروسية" برأسه على الساحة الإعلامية مع كل لقاء يجمع القيادة الروسية بقيادة الكيان العبري، سواءٌ أحدث اللقاء في روسيا الاتحادية أو على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا المصطلح روسي، كان قد استحدث في القرن التاسع عشر، للدلالة على ممتلكات الإمبراطورية الروسية من أراض وعقارات في الشرق الأدنى (بلاد الشام)، واستمر استخدامه بهذا المعنى في الحقبة السوفياتية بعد انتقال هذه الأملاك إسمياً إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، و"الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" في عهد الاتحاد الفدرالي الروسي الحديث. والسبب المعلن لإعادة ترداد هذا المصطلح هو أن سلطات العدو كانت قد وضعت يدها على معظم هذه الممتلكات (لا يوجد إحصاء رسمي شامل لها) إبان الحقبة السوفياتية، وأن القيادة الروسية تطالب بين الحين والآخر باستردادها عقاراً بعد آخر.

الحكاية

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان الوهن قد وصل بالدولة العثمانية إلى درجة لم تعد تقوى على رفض تملك الدول العظمى أراضٍ في بلاد الشام. فاستغلت هذه الدول قانون التملك العثماني الذي يسمح لرعايا السلطنة بشراء أملاك الدولة، وتملكت العقارات بيعاً وشراءً، وليس استئجاراً أو استثماراً لمدة معينة. وكانت الأراضي في فلسطين وسوريا ولبنان تسجل بأسماء الفرق والجمعيات الدينية، وتعلن كل دولة عن نفسها حامية لطائفة من الطوائف، فتوزعت الطوائف الموجودة على الدول واستحدثت طوائف وفرق وجماعات لم تكن موجودة لتتلاءم مع طبيعة مشروع كل دولة منها.

وبطبيعة الحال كان من نصيب روسيا القيصرية طائفة الروم الأرثوذكس، على الرغم من تبعيتها إلى كنيسة أنطاكيا. وهكذا، بناء على توصيات المطران بارفيري أوسبينسكي، الذي كان في مهمة سرية استطلاعية متستراً كحاج في بلاد الشام بين 1843 و1847، أصدر القيصر الروسي نيقولاي الأول مرسوماً إمبراطورياً عام 1847، يتعلق بإنشاء البعثة الروحية الروسية في القدس. كانت مهمة هذه البعثة، التي رأسها أوسبينسكي نفسه، شراء الأراضي وإنشاء الأبنية عليها. وبين العامين 1856 و1864 عملت "اللجنة الفلسطينية" المنبثقة عن البعثة، وبنت عدداً من المباني في القدس القديمة. عام 1864، تحول اسم "اللجنة الفلسطينية" إلى "الهيئة الفلسطينية"، وتابعت عملها إلى عام 1889، حين نقلت ملكيات جميع الأراضي والعقارات لتسجل باسم "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية"، التي كان قد أعلن عن تأسيسها في 21 أيار/ مايو 1882، وحظيت بحماية ورعاية القيصر، ودخل في عضويتها أعضاء من أسرة رومانوف القيصرية إلى جانب نخب سياسية واجتماعية ودينية ورحالة وعلماء. وقد اصطلح على تسميتها بـ"الجمعية الفلسطينية". إلا أن كاتدرائية الثالوث المقدس ومبنى مقر البعثة الروحية الروسية، بقيا مسجلين باسم البعثة.

شكلت عملية شراء الأراضي وإنشاء أبنية عليها أحد أهداف الإمبراطورية الروسية على أراضي فلسطين، التي كانت آنذاك جزءاً من السلطنة العثمانية، وذلك من أجل توسيع نفوذ روسيا الجيوسياسي ووجودها في المنطقة التي تعتبر مهد الديانة المسيحية. وقد تمكنت الإمبراطورية الروسية، عبر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، من القيام بعمليات استحواذ كبيرة للأراضي، وأنشأت عليها منظومة كاملة مصممة لاستقبال الحجاج من روسيا والدول الأرثوذكسية الأخرى وخدمتهم، وكانت تظلل بشعار النسر ذي الرأسين. وقد تعدى عمل هذه المنظومة خدمة الحجاج الذين كانوا يصلون بحراً من ميناء أوديسا بمئات الآلاف، فقد ضمت المنظومة أديرة وكنائس واستراحات ومضافات وخانات للمبيت، ومستوصفات ومصحات، ومدارس ابتدائية ومعهدين عاليين لإعداد المعلمين والمعلمات... ويقدر المؤرخ س. باتالدين في بحثه "مصير الأراضي الروسية في القدس إبان الانتداب البريطاني" مساحة تلك الأراضي عشية الحرب العالمية الأولى، بالمجمل، بثلاثة وعشرين هكتاراً (235 ألف متر مربع) على الأراضي الفلسطينية التي يطلق عليها مصطلح "الديار المقدسة".

"من مالك لهالك"

تغيّر مصير هذه الممتلكات بسرعة مع انخراط روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى في جبهة معادية للسلطنة العثمانية (1914)، واندلاع الثورة البلشفية (1917)، وما تبعها من حرب أهلية في روسيا (1917 – 1921) انتهت بفرض البلاشفة سلطتهم على البلاد، بالتوازي مع احتلال بريطانيا لفلسطين وفرض الحكم العسكري عليها (1917)، ثم إعلان الانتداب (1920) وتسهيل البريطانيين للعصابات الصهيونية السيطرة على فلسطين (1920 – 1948)... ففي عام 1918 أعادت أكاديمية العلوم السوفياتية تسمية "الجمعية الإمبراطورية الأثوذكسية الفلسطينية" باسم "الجمعية الروسية الفلسطينية" وباتت تابعة لها، وبقيت على حالها حتى أعاد "المجلس الروسي الفدرالي الأعلى" إلى الجمعية اسمها الأول سنة 1992. وتتوزع "فلسطين الروسية" في الوقت الحاضر، والتي هي محط اهتمام الجمعية، على الأراضي المحتلة والسلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية.

كانت الأراضي في فلسطين وسوريا ولبنان تسجل بأسماء الفرق والجمعيات الدينية، وتعلن كل دولة عن نفسها حامية لطائفة من الطوائف. فتوزعت الطوائف الموجودة على الدول واستُحدثت طوائف وفرق وجماعات لم تكن موجودة لتتلاءم مع طبيعة مشروع كل دولة منها.

شكلت عملية شراء الأراضي وإنشاء أبنية عليها أحد أهداف الإمبراطورية الروسية على أراضي فلسطين، التي كانت آنذاك جزءاً من السلطنة العثمانية، وذلك من أجل توسيع نفوذ روسيا الجيوسياسي ووجودها في المنطقة التي تعتبر مهد الديانة المسيحية.

من الملفت أن الجمعية التي امتدت أعمالها إلى الأراضي اللبنانية والسورية (ولاية دمشق، متصرفية جبل لبنان، ولاية بيروت) خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، لم تكن مهمتها شراء الأراضي هناك، بل كانت، بشكل عام، تبني المدارس والمرافق الأخرى على أراضي الكنيسة الأرثوذكسية المحلية (التابعة لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس) أو تستخدم المنشآت التي تقدمها الكنيسة فترممها وتجهّزها للتعليم أو الاستشفاء. لذلك لم يعلن عن وجود ملكيات عقارية باسم هذه الجمعية في سوريا ولبنان، أما الممتلكات الأخرى من تجهيزات المدارس ومحتويات المستودعات فترددت الجمعية في البداية في انتظار انجلاء الأوضاع (1) ثم وهبتها إلى الكنيسة المحلية.

المنعطف

بموجب تبعية "الجمعية الفلسطينية" لأكاديمية العلوم السوفياتية، غدت "فلسطين الروسية" ملكًا للاتحاد السوفياتي. يشير بعض الباحثين إلى أن موضوع الكنائس والمعابد بحد ذاته لم يكن ملائماً لسمعة السلطات السوفياتية التي كانت تدعم الإلحاد. أما الواقع فيشير إلى فوائد سياسية واقتصادية سعى إليها السوفيات. فمسألة ملكية هذه الأراضي والعقارات لم تثر أثناء الحقبة الستالينية (1922 – 1953) على الرغم من أن يوسف ستالين كان أول من اعترف بكيان العدو، إلا أن أثارها ظهرت عند خلفه نيكيتا خروتشوف بعد وصوله إلى سدة الحكم، كجزء من الانفتاح على الكيان المدلل لدى الأميركيين، فقرر بيعها إلى هذا كيان. وقد أثمرت المفاوضات بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1964 عن إبرام صفقة بيعت بموجبها معظم العقارات والمباني التي كانت مسجلة باسم الجمعية إلى العدو في مقابل أربعة ملايين وخمسمئة ألف دولار أميركي، بناء على اتفاقية موقعة بين رئيسة وزراء العدو غولدا مائير (1898-1978) ووزير ماليتها بنحاس سابير (1906-1975) من جهة، وسفير الاتحاد السوفياتي في هذا الكيان ميخائيل فيودروفيتش بودروف (1903-1988). وقد أطلق على هذه الاتفاقية، التي حملت الرقم 593، اسم "صفقة البرتقال" لكون العدو لم يدفع المال إلى الاتحاد السوفياتي بل ما يعادله من محاصيل برتقال يافا الفلسطينية. ومن مفاعيل هذه الصفقة تراجع ترتيب روسيا بين الكيانات الأجنبية التي خولتها السلطنة العثمانية أن تتملك أراضي في فلسطين، فتحل اليوم ثالثة بعد الفاتيكان واليونان (وفق "المركز البطريركي للحج" في موسكو، 2008).

فما الذي باعه نيكيتا خروتشوف إلى غولدا مائير وقبض ثمنه ليموناً يافاوياً؟

بلغ عدد المواقع التي بيعت 22 موقعاً، ذات مساحة أجمالية تصل إلى 167 ألف متر مربع، وفق نص الاتفاقية (أرشيف المكتبة القومية العبرية – هيفات رام)، وهي تتألف من أراض تقع عليها مبان تسمى بالمنشآت الروسية، واسمها المتداول "المسكوبية"، تضم: مقر القنصلية العامة في القدس ومنزل حجري ملحق به، مجمع مارينسكي، مجمع يليزافيتا، مبنى المستشفى الروسي، مجمع نيقولايف، منزل حجري قديم مكون من ثلاثة طبقات، منزل حجري آخر وملحقاته، قطعة أرض فيها مستودعين حجريين. وفي القدس كذلك: قطعة أرض مطلة على شارع الملك جورج، مجمع فينيامين، مبنى في شارع سليمان، قطعة أرض في بلدة عين كارم المجاورة للقدس. في حيفا: قطعة أرض مطلة على البحر وأخرى داخل المدينة ومجمع ميخائيل سبيرانسكي. وعلى الطريق نحو طبريا قطعة أرض، وأخرى في العفولة. في الناصرة: قطعة أرض مصوّنة تسمى حديقة السيمنار (دار المعلمين)، قطعة أرض فيها بيت في خراج البلدة، مجمع الأمير سيرغي ألكسندروفيتش الكبير، قطعة أرض مع بيت حجري من طبقتين، قطعة أرض ذات سور حجري... وبذلك يكون الاتحاد السوفياتي، الذي اعتبر نفسه المالك الوحيد لهذه الأراضي والمنشآت، قد باع 22 موقعاً من أصل سبعين (وفق أرقام "الجمعية الفلسطينية" من دون إدراج تفاصيل).

ما الذي تبقى؟

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع عودة الروح إلى "الجمعية الفلسطينية"، بدأت المفاوضات على استرداد الجمعية للممتلكات التي لم تشملها صفقة البرتقال، وقد سارت الأمور بسلاسة مع السلطة الفلسطينية التي كانت قد سلمت مسكوبية الخليل أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم في أيار/ مايو 2008، أعادت تسجيل ملكية قطعة أرض في بيت لحم باسم الجمعية، (أنشأت عليها وكالة التعاون الدولية الروسية "المركز الروسي للثقافة والعلوم في بيت لحم"). وتكرر السيناريو نفسه في أريحا (مسكوبية أريحا وموقع يُعتقد أن فيه شجرة التين التوراتية – شجرة زكا) وموقع في جبل الزيتون قرب القدس. إلا أن الأمور اتخذت منحى آخر مع سلطات الاحتلال.

أثمرت المفاوضات بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1964 عن إبرام صفقة بيعت بموجبها معظم العقارات والمباني التي كانت مسجلة باسم الجمعية إلى العدو في مقابل أربعة ملايين وخمسمئة ألف دولار أميركي، بناء على اتفاقية موقعة بين رئيسة وزراء العدو غولدا مائير ووزير ماليتها بنحاس سابير من جهة، وسفير الاتحاد السوفياتي في هذا الكيان ميخائيل فيودروفيتش بودروف.

تتوزع "فلسطين الروسية" في الوقت الحاضر، والتي هي محط اهتمام "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية"، على الأراضي المحتلة والسلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية.

كانت بداية المفاوضات مثمرة، فاستردت الجمعية مجمع سيرغي في القدس القديمة، في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2008، وجعلت منه مركز فرعها في الكيان العبري. وبات ما تبقى من أملاك رهناً بمطالب سياسية (آرييل شارون يشترط وقف بيع روسيا السلاح في منطقة الشرق الأوسط مقابل مجمع ألكسندر، 2003) أو زيادة شعبية عندما تطرح قضية إعادة الأملاك إلى روسيا (لقاءات نتانياهو – بوتين بين 2015 – 2018)، أو حتى تسجيل مقايضة مربحة للطرفين عبر استرداد الكيان العبري مهربة مخدرات ألقي القبض عليها في مطار شيريميتيفا الدولي، وحكمت بالسجن سبعة أعوام ونصف العام، إلا أن بوتين، وقبل بعد أقل من سنة أصدر بحقها عفواً رئاسياً خاصاً، مسترجعاً بموجب هذه الصفقة مجمع ألكسندر في القدس.

______________

1-انظر وثيقة صادرة عن "الجمعية الفلسطينية"، الرقم 892، في 21 آب/ أغسطس 1914، نشرتها د. جوليات الراسي في ملحق بحثها "المدارس الروسية في منطقتي حاصبيا ومرجعيون"، من أبحاث مؤتمر "لبنان في الحرب العالمية الأولى"، الجامعة اللبنانية، 2011، ج1، ص 332 وما بعدها.

للكاتب نفسه

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....