السودان والاستمرار في تضييع الفرص

حفل شهر آب/ اغسطس المنصرم بحراك سياسي كثيف لمختلف القوى السودانية، حكومة ومعارضة، ما ينبئ بتصاعد الإحساس العام بعمق الأزمة. فهل تتجه الأمور إلى بعض الانفراج والتوافق والتعاطي الإيجابي مع التطورات المهمة، كما في التجربة التونسية، أم تضيع الفرصة مثلما حدث من قبل وتنتقل البلاد الى مزيد من التفتت والتشتت.فقد أعلنت مفوضية الانتخابات عن جدول الاستحقاقات الخاصة بعملية الانتخاب، من تسجيل ودعاية،
2014-09-03

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
الصادق عجينة -السودان (من موقع "فنون")

حفل شهر آب/ اغسطس المنصرم بحراك سياسي كثيف لمختلف القوى السودانية، حكومة ومعارضة، ما ينبئ بتصاعد الإحساس العام بعمق الأزمة. فهل تتجه الأمور إلى بعض الانفراج والتوافق والتعاطي الإيجابي مع التطورات المهمة، كما في التجربة التونسية، أم تضيع الفرصة مثلما حدث من قبل وتنتقل البلاد الى مزيد من التفتت والتشتت.فقد أعلنت مفوضية الانتخابات عن جدول الاستحقاقات الخاصة بعملية الانتخاب، من تسجيل ودعاية، وعن إجراء الانتخابات نفسها في نيسان/ أبريل من العام المقبل. الردّ على الخطوة الحكومية بإعلان مقاطعتها جاء بعد يومين فقط، ومن قبل أكبر قوتين معارضتين لنظام الرئيس عمر البشير. من الجانب الأول «الجبهة الثورية»، حاملة السلاح التي تضم الحركة الشعبية - قطاع الشمال ومجموعات دارفور المتمردة، ومن الجانب الآخر حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، أكبر حزب معارض داخل السودان، متمسك بالعمل السلمي لفرض التغيير. بعد ذلك بأسبوع، طرحت لجنة 7+7 التي تمثل الحكومة والمعارضة، والمنبثقة عن «مؤتمر الحوار الوطني الشامل» (الذي بادر إليه البشير في مطلع 2014) خلاصة ما توصلت اليه، وذلك بعد ثمانية أشهر من العثرات التي ألمت بهذا الحوار وجعلت أبرز المشاركين فيه وقتها، الصادق المهدي، ينعيه قائلاً إنه في حالة موت سريري.

الاستحقاق الانتخابي

الانتخابات استحقاق معيّن منذ العام 2010 وقبل انفصال الجنوب، ولهذا تصرّ الحكومة على قيامه في مواعيده لتجنب الفراغ الدستوري، مضيفة أن المعارضين يرفضون خوضه لأنه سيكشف ضعف قاعدتهم الجماهيرية. على أن هؤلاء المعارضين يشيرون إلى انه، وخلال ربع قرن من سيطرة البشير وحزبه (المؤتمر الوطني) على السلطة إثر انقلابهم العسكري، فإجراء الانتخابات يعني التسليم بكل ما فعل النظام واعطائه شرعية ظل يفتقدها، وان المخرج من هذا الوضع يكون عبر حكومة انتقالية تتولى إعداد البلاد لانتخابات حرة ونزيهة.
لم يحسم الحوار الوطني الشامل الذي بادر إليه البشير نفسه هذا الجدل، رغم أنه حظي بمتابعة على أساس انه طرح قضايا الحرب والسلم وهوية البلاد وأوضاعها السياسية والاقتصادية على طاولة لا تستثني أحداً، حتى من حَمَلة السلاح. لكن الوقت مرّ من دون الإعلان حتى عن آلية لعمل هذا الحوار. وجاءت كبرى العثرات إثر قيام الحكومة باعتقال المهدي على خلفية انتقاده ل«قوات الدعم السريع»، وهي مجموعات خاصة تتبع جهاز الأمن وتعمل ضد المتمردين متبعة أسلوباً أقرب إلى تحركات حرب العصابات من عمل الجيوش التقليدية.. المهدي أمضى شهراً في المعتقل ثم أفرج عنه، كما اعتقل إبراهيم الشيخ وهو زعيم لحزب المؤتمر السوداني المعارض. وأدى الاعتقال الى نفض المهدي يده من مشروع الحوار الوطني برعاية البشير، بينما بقي الى جوار الاخير الدكتور حسن الترابي زعيم «حزب المؤتمر الشعبي» و«حركة الإصلاح الآن» بزعامة الدكتور غازي صلاح الدين، أحد المنشقين عن المؤتمر الوطني، وأحزب أخرى صغيرة وخفيفة الوزن، الأمر الذي جعل ذلك الحوار يبدو وكأنه محاولة لتجميع الإسلامويين بعد المفاصلة الشهيرة التي تمت بين الترابي والبشير في العام 1999. ولعل التطورات الإقليمية التي تستهدف الاسلامويين في المنطقة كانت الدافع الرئيس وراء تحمس الترابي لحوار البشير هذا.

خارطة طريق

لجنة 7+ 7 المنبثقة من حوار البشير وضعت خارطة طريق متفق عليها لنوع القضايا التي سيتم نقاشها وحددتها بست قضايا، كما حددت إطاراً زمنياً لعملها وهو ثلاثة أشهر كحد أقصى، وأن تسعى اللجنة الى التوصل الى قراراتها بالتوافق أو بحصول أي قرار على نسبة 90 في المئة من أصوات اللجنة للموافقة عليه. دعت اللجنة الى ضرورة قيام مفوضية مستقلة لإجراء الانتخابات، لكن من دون أن تتعرض للخطوات التي بدأت الحكومة في إنفاذها، كما دعت إلى إشاعة الحريات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين كوسيلة لتهيئة الأجواء لانطلاق الحوار في أجواء إيجابية.
منتقدو حوار البشير أشاروا الى انه، مع التسليم بإيجابية ما أعلنته اللجنة، إلا أن واقع الحال يسجل فشلها حتى في تحديد موعد لبدء هذا الحوار، كما أن الحكومة استمرت في نهجها باستهداف الصحف بالمصادرة والتضييق، وأضافت إلى المعتقلين الدكتورة مريم الصادق المهدي بعد عودتها من باريس ومشاركتها والدها في المفاوضات مع الجبهة الثورية التي أدت الى «إعلان باريس». هذا علاوة على استمرارها بإجراءات العملية الانتخابية التي أعلنت عنها من طرف واحد.
وعلى الرغم من ان المهدي كان من أكبر منتقدي الجبهة الثورية لتركيزها على حمل السلاح والعمل العسكري، إلا أن توقيعه لإعلان معها يشير إلى ضيقه بمناورات البشير ووصوله إلى قناعة باستحالة إحداث تغيير في ظل موازين القوى الحالية. لذا جاء «إعلان باريس» وكأنه يوفر لكل طرف ما يحتاجه: فللجبهة الثورية سلاحها وعلاقاتها الدولية مع الدول المناوئة لحكم البشير، كما ان المهدي وحزبه يوفران للجبهة تواصلاً يغطي على قصورها الناجم عن تقوقعها في مناطق الهامش السوداني، الأمر الذي يسّر اتهامها بالعنصرية. وبالمقابل، نجح المهدي في إبدال شعار الجبهة الثورية عن ضرورة «إسقاط» النظام، إلى «تغييره»، الأمر الذي يعني ان ذلك يمكن أن يتم بوسائل سلمية انتخابية، وهو ما أشار إليه ياسر عرمان، الأمين العام للجبهة الثورية، في حديثه في المعهد الملكي البريطاني (شاتام هاوس) بعد أيام من توقيع اتفاق باريس. بل ذهب خطوتين أبعد بالإعلان عن استعداده للدخول في حوار شامل وفوري لحسم الأزمة السودانية المتفاقمة.
وكبادرة على حسن النية، أعلن من طرف واحد عن وقف لإطلاق النار لفترة شهرين. وهو ما ردّت عليه الخرطوم بأن المطلوب وقف دائم لإطلاق النار كي لا تستغل فترة الشهرين كوسيلة لإعادة تموين القوات المتمردة وتخفيف الضغط العسكري عنها.

تضييع الفرص

أُحبط الكثيرون بسبب عدم اهتبال هذه الفرصة والبناء عليها لوقف دائم لإطلاق النار والدفع بعملية الحوار من خلال إجراءات عملية مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتخفيف القيود التي تكبل الحركة الإعلامية. وعلى كل، يبدو أن الرسالة التي فهمتها مختلف القوى السياسية هي أن ما يجري من تحركات داخل البلاد وعلى رأسها عملية الحوار، كان المقصود منها تضييع الوقت حتى حدوث الاستحقاق الانتخابي العام المقبل، التي يبدو البشير وحزبه في وضع أفضل للفوز بها، حتى ولو نافسته أحزاب المعارضة. أهمية الانتخابات، بغض النظر عن تدثرها بالحديث عن تجنب فراغ دستوري، أنها تعطي الفرصة للبشير وحكمه للاستمرار في السلطة. إلا أنها تستبطن عاملاً آخر لا يقل أهمية، وهو المحكمة الجنائية الدولية التي تتهم البشير بالإبادة الجماعية في دارفور وتدعوه إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة هذه التهم في لاهاي. وقد برهنت التجربة أن البقاء في سدة الحكم يمثل خير وسيلة لتجنب الذهاب إلى تلك المحكمة. ويربط بعض المراقبين هذه النقطة برفض الخرطوم «إعلان باريس» لإشارته إلى ضرورة عدم الإفلات من المحاسبة.في تقريرها عن السودان الصادر الشهر الماضي، أكدت وحدة استخبارات «الأيكونومست» توقعاتها السابقة، من انه خلال فترة الأعوام الأربعة المقبلة، حتى 2018، فإن البشير وحزبه (المؤتمر الوطني) سيكونان القوة الرئيسية في السودان بسبب تعدد المجموعات المعارضة وتكاثرها وتضعضع فعاليتها.
وهذا على الرغم من تزايد حجم التحديات التي يواجهانها، خاصة في الجانب الاقتصادي، وعلى الرغم من تنامي العداء الإقليمي والدولي لحركات الإسلام السياسي، الأمر الذي يفترض أن يدفع باتجاه تغيير في المناخ السائد في الجبهة الداخلية. لكن النظام يشعر بقوته. فالجبهة الثورية تعاني من ضائقة بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان، الذي شكّل خط إمداد رئيس لها. أما في الداخل، فحزب الأمة يقف وحده مع تحالفات وقتية هنا وهناك، وخصوم المهدي حتى في المعارضة يتهمونه بعدم الثبات في مواقفه. كما أن وجود ابنه عبد الرحمن مساعداً لرئيس الجمهورية وأبنه الآخر ضابطاً في جهاز الأمن، يلقي ظلالاً على حقيقة موقفه المعارض. وهناك أيضاً في الساحة تحالف قوى الإجماع الوطني الذي يقوده نقيب اتحاد المحامين العرب الأسبق فاروق أبو عيسى، ويضم تجمعات يسارية مثل الحزب الشيوعي والبعث وحركة حق، ومعارضين آخرين أقرب فكرياً إلى الحكومة مثل المؤتمر الشعبي وزعيمه الترابي وحركة الإصلاح الآن.
 وهذا الاختلاف والتنافر هو الذي يجعل النظام قادراً على المضي في أجندته الخاصة، لعدم وجود تحدٍ سياسي جدي من قبل منافسيه، كما أن هذه التجمعات تعاني من متاعب العمل الجبهوي المعروفة. ففي انتخابات 2010 التي قررت المعارضة في البداية خوضها، لم يحدث تنسيق بينها ولو على مستوى الانتخابات الرئاسية، وكان أن قدّم كل حزب مرشحه، ثم انسحب بعد ذلك بدعاوى عدم نزاهة العملية الانتخابية.أعلن البشير أكثر من مرة قراره بعدم الترشح مرة أخرى، إلا أنه لا يبدو أمام حزبه من يمكن تقديمه مرشحاً لرئاسة الجمهورية، خاصة بعد مغادرة شخصيات من الوزن الثقيل أمثال نائب رئيس الجمهورية السابق علي عثمان محمد طه ومسؤول الحزب السابق الدكتور نافع علي نافع، الأمر الذي يجعل البشير في موقف الحاكم المطلق، وبصورة جلية لأول مرة، إذ نازعه من قبل الترابي في السنوات العشر الأولى من الحكم عندما كان عرّاب النظام، وفي فترة سابقة علي عثمان ونافع برمزيتهما في الحركة الإسلاموية، ثم الحركة الشعبية إبان الفترة الانتقالية وقبل انفصال الجنوب. أما هذه المرة، فإن الطاقم الحاكم يدين بولائه للبشير شخصياً أكثر مما للحركة الإسلامية وحزبها الحاكم.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...