سيلفا كير في الخرطوم: الرهانات

خلال فترة ثمانية أسابيع فقط، حتى نهاية الشهر الماضي، قام رئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير بخطوات عديدة جريئة لتعزيز سلطته في مواجهة منافسيه في الحكومة والجيش وحزب الحركة الشعبية. تهدف تلك الخطوات للتصدي لحالة التشرذم التي طالت تلك المؤسسات، ولكنها تهدف خصوصا لتقوية موقف كير في مواجهة الطامعين في خلافته، حتى يصبح مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة التي ستجري في العام 2015.ففي حزيران/يونيو
2013-09-11

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
| en
عادل السيوي ــ مصر

خلال فترة ثمانية أسابيع فقط، حتى نهاية الشهر الماضي، قام رئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير بخطوات عديدة جريئة لتعزيز سلطته في مواجهة منافسيه في الحكومة والجيش وحزب الحركة الشعبية. تهدف تلك الخطوات للتصدي لحالة التشرذم التي طالت تلك المؤسسات، ولكنها تهدف خصوصا لتقوية موقف كير في مواجهة الطامعين في خلافته، حتى يصبح مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة التي ستجري في العام 2015.
ففي حزيران/يونيو الماضي، بدأ كير أول مفاجآته بإعفاء كلا من دينق ألور، وزير شؤون مجلس الوزراء، وكوستى مانيبي، وزير المالية، من منصبيهما وإحالتهما الى التحقيق بتهمة الفساد لتورطهما في صفقة بقيمة 8 ملايين دولار لتوريد أجهزة للسلامة للمؤسسات الحكومية. وفي الشهر التالي، قام كير بحل الحكومة وإعفاء نائبه الدكتور رياك مشار، الذي عمل معه نائباً لحكومة الجنوب عقب توقيع اتفاقية السلام في العام 2005 ثم بعد استقلال البلاد في 2011، وأعلن عن تكوين حكومة أصغر من 18 وزيراً بدلاً من 29 كما في الحكومة السابقة. وصحب حلّ تلك الحكومة تعليق سلطات الأمين العام للحركة الشعبية، وقائد المفاوضات مع السودان، باقان أموم، رجل الحزب القوي وإحالته الى التحقيق على أساس انه يدعو الى العنف وينتقد قيادة كير للحركة. كما مُنع أموم من الحديث الى وسائل الإعلام والسفر حتى اكتمال التحقيق معه. وفي خطوة أخرى، قام كير بعزل حاكم «ولاية الوحدة» المثير للجدل، تعبان دينق، من منصبه الذي انتخب له. وتعتبر «الوحدة» من الولايات ذات الأهمية الاستراتيجية لأنها منتجة للنفط من ناحية، ولأنها تجاور السودان من الناحية الثانية. وسبق هذه التغييرات قيام كير مطلع العام بإحالة أكثر من مئة من الرتب الكبرى والوسيطة في الجيش الشعبي الى التقاعد، من بينهم وزراء كانوا لا يزالون يحتفظون برتبهم العسكرية منذ أيام الحرب الأهلية.

استهداف ثلاثة مراكز قوى

أدّت هذه التغييرات الى تحجيم مراكز القوى الرئيسية الممثلة لما يعرف بمجموعة «أولاد قرنق» بقيادة أموم، والمجموعة المنتمية الى إقليم أبيي المتنازع عليه مع السودان بقيادة الور، وجنرالات الجيش. وهي جاءت تعبيراً عن صراعات قديمة، برزت جلية في مؤتمر الحركة الشعبية الذي عُقد في العام 2008، وكادت وقتها أن تنقسم، إذ عزم كل من مشار وأموم على منافسة كير على زعامة الحركة، والفائز بها يعني تلقائياً أنه سيكون مرشح الحزب للانتخابات التي كانت ستجري بعد عامين، وبعدها الاستفتاء على حق تقرير المصير. فيكون الشخص الفائز هو الذي قاد بلاده الى الاستقلال.
أصدقاء الحركة، وعلى رأسهم الأميركي روجر ونتر الذي عمل سابقاً في هيئة المعونة الأميركية، تدخلوا مقترحين على قيادة الحركة أن تضع نصب أعينها استحقاق الاستفتاء، والتكاتف حوله حتى انجاز استقلال بلادهم. واقترح وينتر أن تظل الأمور على ما هي عليه، بأن يبقى كير رئيساً للحركة والحكومة، ومشار نائباً له وأموم سكرتيراً عاما للحزب. وهو ما حدث فعلاً، ولكن ذلك جمّد الصراعات ولم يلغها.
وفي نيسان/ابريل الماضي، قام كير بتجميد عمل لجنة خاصة بالمصالحة الوطنية كان يترأسها مشار، معتبراً أنّ نشاطها يصب لمصلحة طموحات مشار السياسية ومنافسته على الزعامة. وأدى تدهور الأوضاع السياسية الداخلية، وتفشي العنف، خاصة في ولاية جونقلي المضطربة بسبب الصراع القبلي وبعض التدخلات السياسية، الى نزوح نحو 100 ألف شخص ومقتل الآلاف، الأمر الذي دفع بأصدقاء البلاد من الغربيين (وهم الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، كندا، هولندا والنرويج) الى إصدار بيان مشترك، هو الأول من نوعه، يعبرون فيه عن قلقهم من تنامي العنف وانسداد الأفق السياسي. بل وصل الأمر الى أن عَقَدَ بعض مسؤولي «مجلس الأمن القومي» في الولايات المتحدة جلسة قبل شهرين، استضافوا فيها بعض وسائل الإعلام للفت نظر العالم الى ما يجري في جونقلي.
واتضحت أبعاد الانسداد السياسي عندما تم الاعلان عن تأجيل عقد المؤتمر العام للحركة الشعبية الذي كان مقرراً انعقاده في أيار/ مايو المنصرم، وعدم تحديد موعد جديد له. واعتبر ذلك مؤشرا إلى انتظار حدوث شيء من الاستقرار، وإلى اطمئنان كير الى سيطرته على مقاليد الأمور. وكان قد اقترح بالفعل على مشار ومناصريه أن يؤسسوا حزباً جديداً إذا أرادوا، لكن هؤلاء فضلوا (اذا أمكنهم) العمل من داخل حزب الحركة الشعبية الذي لا يزال يتمتع باحترام كونه الحزب الذي حقق استقلال البلاد.
الخطوات التي قام بها كير تعتبر تغييراً شاملاً للخارطة السياسية، وهو ما نجح فيه حتى الآن باستناده الى وضعيته كمسؤول أول في كل من الدولة والحزب والجيش، وهي الوضعية التي ورثها عن زعيم الحركة الراحل، الدكتور جون قرنق. هذا بالاضافة الى ان كير ينحدر من قبيلة الدينكا، أكبر القبائل حجماً في جنوب السودان، ومن أكبرها في القارة الأفريقية. لكن الى جانب هذا كله، فقد استفاد كير من الدستور الانتقالي لجنوب السودان الذي وافقت عليه كل قيادات الحركة وأجيز في البرلمان، وهو يعطي الرئيس سلطات استثنائية تتضمن حتى حق إقالة الولاة المنتخبين، وحل البرلمان، وفصل الوزراء. بل وتردد بصورة واسعة أن كير هدّد النواب بأن يجيزوا اختيار نائبه الجديد جيمس واني أيقا، والا قام بحل البرلمان، الذي تبقت له فترة عامين، تاركاً أعضاءه لـ«يهيموا في الطرقات» كما نقل عنه.
التهديد بحل البرلمان جاء في ما يبدو كرد فعل على قيام الأخير بالاعتراض على مرشح كير لوزارة العدل في الحكومة الجديدة، تيلار دينق، وسد الطريق أمام تعيينه، مما اعتبر ضربة نجحت فيها المجموعات المناوئة لكير.

توسيع القاعدة السياسية

على أنّ كير لم يكتفِ بإبعاد خصومه ومنافسيه فحسب، وإنما سعى الى تعزيز قاعدته السياسية باجتذاب قوى جديدة، وهو ما اتّضح من التعيينات التي قام بها سواء في الحكومة المصغّرة أم بتعيين نائبه الجديد أيقا الذي كان رئيساً للبرلمان، ويتمثل ثقله في انه من القبائل الاستوائية الصغيرة، ووُلد قرب مدينة جوبا عاصمة الدولة. كما أنه يُعتبر من القيادات التاريخية للحركة، وهو من أوائل الطلاب الجنوبيين الذي درسوا في القاهرة عقب اتفاقية السلام الأولى في العام 1972، التي أبرمها الرئيس الأسبق جعفر النميري مع متمردي الجنوب وقتها، إذ حصل أيقا على شهادة في الاقتصاد من جامعة القاهرة.
من ناحية اخرى، فإنّ الحكومة الجديدة شهدت دخول أول مسلم فيها، هو عبد الله دينق نيال، وزيراً للبيئة، وكان من القيادات البارزة في حزب المؤتمر الشعبي الذي يترأسه الدكتور حسن الترابي قبل انفصال جنوب السودان، بل وكان الرجل مرشح الحزب لانتخابات رئاسة الجمهورية في العام 2010. وتعيين نيال اعتُبر رسالة لاستقطاب دعم مسلمي الجنوب الذين يُعتقد أنهم يمثلون ربع السكان على الأقل، ولم يكن لهم وجود رسمي يذكر في المستويات الدستورية. كما ضمت الحكومة أيضاً وزيراً للصحة، الدكتور رياك قاي، الذي كان أحد نواب الرئيس عمر البشير في المؤتمر الوطني، رئيساً لدائرة الجنوب قبل الانفصال، ويعتبر من أكبر منتقدي الحركة الشعبية.

الايديولوجيا والمصالح

وفي انتقاد التشكيلة الحكومية الجديدة، قال بعض مناصري باقان أموم، إنّ اتفاقية السلام قامت على فكرة دولة واحدة ونظامين، أي بتبني خيار الشريعة في الشمال والعلمانية في الجنوب، بينما الحكومة الجديدة تشير الى وجود نظام واحد في دولتين، وذلك في اشارة الى ان الوضع في جنوب السودان أصبح مماثلاً لوصيفه في السودان، من حيث السيطرة السياسية والأمنية والتنفيذية لمجموعة من الحزب الحاكم على مقدرات الأمور.
الخرطوم لم تخفِ ارتياحها لهذه التغييرات، خاصة لجهة تغييب أموم والور وتعبان دينق عن دائرة الفعل التنفيذي، وهو ما تأمل أن ينعكس ايجابياً على الوضع الأمني وقطع المساعدات عن متمردي «الجبهة الثورية» المناوئة للخرطوم، وإحداث نقلة في علاقات البلدين ووضعها على أساس المصلحة المشتركة ومنافع التبادل التجاري والاقتصادي، حيث يمكن للسودان تصدير سلع تقليدية مثل الذرة والبصل والملح وغيرها تعود عليها بملياري دولار في العام، وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام تبادل ثقافي واجتماعي يغطي على وضع الانفصال السياسي بين البلدين.
وقد حدث إثر ذلك كله أمران: الاول هو زيارة كير للخرطوم يوم الخميس الماضي، بعد التغييرات التي أجراها في المشهد السياسي في بلاده، بينما كانت تسود رهانات كثيرة على تأجيلها. والثاني الاعلان أثناء الزيارة عن اتفاق كير والبشير على تمديد تدفق صادرات النفط من جنوب السودان، بينما كان الموعد النهائي المضروب لإغلاق الأنبوب هو يوم السادس من أيلول/سبتمبر. وهذا يعطي اشارة إلى رغبة الخرطوم في دعم كير أمام معارضيه وتوفــير الموارد المالية اللازمة لذلك. وفي الشهر الماضي تسلمت جوبا مبلغ 630 مليون دولار من بيع النفط، وهو أكبر مبلغ تحصل عليه منذ مطلع العام الماضي عندما أوقفــــت انتــاج نفـــط الجنــوب بداية، ورفـــض الخرطوم في ما بعد مروره عبر أراضيـــها ما لم تحســـم الجوانب الأمنيـــة في علاقــة البلدين.

قضية أبيي

على ان هناك غمامة لا تزال تظلل امكانيات تحسن العلاقات بين البلدين، وتتمثل في الاستفتاء الذي اقترح الاتحاد الأفريقي أن يجري في الشهر المقبل لتحديد وضعية منطقة أبيي، وهل تتبع لجنوب السودان أم تبقى في السودان. السودان لم يقبل أصلاً بمقترح الاتحاد الأفريقي، ويبدو مصرّاً على أن أي خطوة بشأن أبيي ينبغي أن تتم بموافقة الطرفين، وهو ما لم يحدث بعد.
قضية أبيي، رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها، أصبحت لها الأولوية في تحديد علاقة جوبا بالخرطوم وذلك بسبب نفوذ أبنائها داخل قيادة الحركة أمثال دينق الور. لكن بعد إبعاد الور عن منصبه وإخضاعه للتحقيق وتقوية سلطات كير في مواجهة خصومه السياسيين، فإن السؤال يصبح الى أي مدى يستطيع كير تحجيم قضية أبيي ووضعها كمشكلة خلافية بين بلدين، دون أن تصبح المؤشر على علاقاتهما في بقية المجالات. على أن كير سيكون مواجهاً باتهامات أنّ خطواته الأخيرة جعلت جنوب السودان أقل إصراراً على التمسك بقضية أبيي.

وإذا كان هدف كير الرئيس هو تعزيز سلطته، فإنّ أقصر الطرق الى ذلك هو ضمان تدفّق النفط الذي يمكن أن يعود عليه بموارد مالية تعينه في خطواته السياسية وتوفر بعض الامكانيات أمام حكومته الجديدة، حتى يشعر المواطن ان تغييراً قد حدث. وهو ما يتطلب طمأنة الخرطوم بشأن همومها الأمنية، وأن جوبا لا تساند متمردي السودان المنضوين تحت لواء الجبهة الثورية، ومعظمهم له صلات سابقة بالحركة الشعبية. ولهذا، تبدو كلاً من جوبا والخرطوم في حاجة للأخرى، وهو ما قد يفتح الباب أمام تحقيق تنازلات متبادلة.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...