الحجر الصحي: صرخات من خلف الأبواب الموصدة

لم يكن التواصل مع النساء المعنفات بالأمر الهين، خاصة وأن ظروف الحجر الطبي جعلت منهن حبيساتِ البيوت مع معنفيهن، فكان التواصل غالباً متقطعاً وخلسة، تارة تبعثن تسجيلات وتحذفنها، وتارة تنتظرن مغادرة أزواجهن للبيت من أجل اقتناء المؤونة الغذائية.. تستصعب أولئك النساء "الفضفضة" أو الإفصاح عمّا يخالجهن في هذه البيئة غير الآمنة لهن.
2020-05-13

ريتا غريب

باحثة في السوسيولوجيا من المغرب


شارك
ماحي بينبين - المغرب

"الآن تستطيع ضرب زوجتك براحة، فأبواب المحاكم موصدة". على اختلاف اللهجات واللغات تتردد هذه الجملة التي يعتبرها البعض دعابة بغرض التندر، وهي كمزحة سامة اندست بشكل آمن على مواقع التواصل الاجتماعي، لتكشف لنا حقيقتنا الصادمة، بحسب مضامين التعليقات المرصودة هنا، والتي تُطبّع وتتفّه وتشرّع العنف الذي تتعرض له الآلاف من النساء المغربيات، حبيسات بيوتهن خلال فترة الحجر الصحي مع معنفيهن.. تطبيع وصل إلى حد الدعوات الصريحة إلى الاعتداءات بعد أن تجاوز مرحلة التبرير بحجة "الضغط النفسي" الذي يتعرض له الرجال، خاصة مع إجراءات تمديد الحجر بالمغرب إلى 20 أيار/ مايو الجاري.

وإذا كان الحجر الصحي "شراً لا بد منه" لمحاصرة الوباء وتفادي إزهاق مزيد من الأرواح، فإن هذا الإجراء أدى إلى استفحال ظاهرة تعرّض النساء للعنف، حيث وجدن أنفسهن تحت رحمة الجدران، وسطوة من يفترض أن يتقاسموا معهن أعباء الأزمة. وهو ما تؤكده نتائج البحث الوطني الثاني حول العنف ضد النساء ببلدنا، والذي صدر قبل سنة من اليوم ليصفعنا بحقيقة مرعبة: 54.4 في المئة من النساء المغربيات تعرضن للعنف الأسري داخل بيوتهن، 55.8 في المئة من هذه النسبة وقعت في المجال الحضري، فيما بلغت نسبة النساء المعنفات في المجال القروي 51.6 في المئة.

أصوات من رحم المعاناة

"يحدث ما يحدث دائماً، لحمي قساح (تصلب من العنف)" كان هذا الجواب الصادم لسليمة، سيدة أربعينية تزوجت قبل سنتين فقط، حالتها المادية وحالة زوجها الذي تعرفت عليه عن طريق إحدى قريباتها، جيدة. تصف لنا سليمة وبحسرة كبيرة كيف أقدمت على الزواج بعد تمنّع طويل: "تأخرت في الزواج، وبإلحاح من عائلتي التي كانت تضغط علي، اضطررت إلى القبول برجل غريب، قريبُ ابنة عمتي، أي أنه زواج تقليدي محض، وأنا الشابة الجامعية الواعية، تمّ الأمر بعد أن التقينا مرتين فقط، وكانت تبدو عليه علامات المودة والاحترام لكينونة المرأة في اللقائين. كان شَرطي الوحيد هو أن أستمر في عملي، ووافق بسهولة"، تقول سليمة، مضيفة: "بعد زواجنا بأقل من أسبوعين، وجدت نفسي ضحية لعنف نفسي ولفظي وجسدي فوق الاحتمال، طبعاً سقط قناع التخلق".

وعن سبب عدم لجوئها إلى الطلاق، تقول سليمة التي اختارت أن تحادثنا كتابة: "ارتعبت، لم أكن قادرة حتى على الإفصاح لعائلتي بحقيقة هذا الزواج، أنا الابنة البكر القوية والمجازة في القانون، كيف لي أن أخبرهم أن ابنتهم الصلبة كسرها هذا الرجل؟ استصعبت الأمر، وانتهى بي الوضع لأتجنب زيارة أهلي مخافة أن يلاحظوا كدمات على وجهي أو ذراعي". تقول سليمة مردفة: "بعد مدة طلبت الطلاق، وكنت مستعدة لتحمل تبعات قراري، لكن كان حملي بوليدي سبباً كي يضغط عليَّ الأهل الذين أخبرتهم فيما بعد، فرجحوا أن ينصلح الحال وفعلاً صبرت. وهو وعدني بأن يتغير، لكن وبعد وضعي لمولودي عادت حليمة لعادتها القديمة وعاد للضرب والركل والتعنيف، ثم هذه المرة التهديد، عندما خططت مرة أخرى لطلب الطلاق، جاء فيروس كورونا ليمنعني بعد فرض الحجر الطبي، فوجدت نفسي 24 ساعة مع هذا الوحش الذي يعمل من البيت. مضى شهر ثم جرى تمديد الحجر لشهرين، وفعلاً لحمي قساح بالضرب، تعودت، وهذا أسوأ ما في الأمر أني تعودت".

وتؤكد شهادات النساء المعنفات، اللواتي حادثناهن، على الارتباط الوثيق بين التبعات الاقتصادية للأزمة التي يشهدها المغرب وبين ازدياد حدة العنف وتعاظمه. فسليمة ليست الوحيدة. عفاف شابة عشرينية كانت تتحدث إلينا خلسة من الحمام لتروي قصتها الطويلة، ثم تعود لتحذف الرسائل مخافة أن يطّلع عليها زوجها الذي كان يعمل في أحد فنادق المدينة، قبل أن يجد نفسه موقوفاً عن العمل بعد تضرر هذا القطاع، بالتالي أصبح ملزماً بالبقاء في البيت طيلة اليوم في إطار الحجر الطبي، فيما يتقاضى تعويضات التوقف المؤقت عن العمل بسبب "كورونا" من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

54.4 في المئة من النساء المغربيات تعرضن للعنف الأسري داخل بيوتهن، 55.8 في المئة من هذه النسبة وقعت في المجال الحضري، فيما بلغت نسبة النساء المعنفات في المجال القروي 51.6 في المئة.

تقول عفاف، أنها ارتبطت بشريك حياتها عن حب. فبعد حصولها على الإجازة في الإعلام، خيّرها زوجها بين العمل في واحدة من الإذاعات الخاصة التي كانت قد قبلت بها، أو إمضاء ما تبقى من حياتها معه، فكان الخيار بالنسبة للشابة الحالمة هو الزواج والتخلي عن حلم مهني لازمها منذ طفولتها: "السنة الأولى من الزواج كانت جيدة، لكن بدأت الأزمة المادية تؤثر على استقرارنا، وبالتالي طلبت من زوجي أن أعمل، وفعلاً اشتغلت في إحدى القنوات التلفزية الجديدة، كنت سعيدة جداً بعودتي إلى الميدان دون أن أخسر زوجي، لكن غيرته فاقت الحدود وبدأ الضرب، وجهي كانت تطبعه الكدمات التي كنت أحاول إخفاءها بالماكياج أمام الكاميرا، لكن نظرة زميلاتي إلي بشفقة دفعتني إلى تقديم استقالتي، وبالتالي أن أعيش الجحيم نفسه لكن هذه المرة بصيغة يومية". تقول عفاف أن زوجها من الرجال المدخنين والعصبيين، وهو ما يدفعه بحسبها "ليصب جام غضبه عليها على أبسط ملاحظة أو نقاش، أو فقط بدعوى أنه صائم، وذلك بصفة شبه يومية".

التواصل مع النساء المعنفات لم يكن بالأمر الهين، خاصة وأن ظروف الحجر الطبي جعلت منهن حبيساتِ البيوت مع معنفيهن، فكان التواصل غالباً متقطعاً وخلسة، تارة تبعثن تسجيلات وتحذفنها، وتارة تنتظرن مغادرة أزواجهن للبيت من أجل اقتناء المؤونة الغذائية.. تستصعب أولئك النساء "الفضفضة" أو الإفصاح عمّا يخالجهن في هذه البيئة غير الآمنة لهن، والنساء اللواتي قبلن فتح قلوبهن، بصعوبة كبيرة، تدركن جيداً أن تقييدات حالة الطوارئ والحجر الصحي، فضلاً عن ضبابية المستقبل، يولّد لدى الجميع ضغطاً نفسياً، لكنه أيضاً ينشئ بيئة خصبة لتفاقم العنف ضد النساء، وتعريض استقرارهن النفسي وحياتهن للخطر. وهذا يستدعي التدخل السريع للسلطات، وإيجاد حلول حقيقية للوضع لمنع تنامي ظاهرة تعنيف النساء خلال هذه الفترة الحساسة والحرجة.

على عكس سليمة وعفاف، فقصة سناء التي تعمل في تنظيف البيوت مختلفة. الشابة الثلاثينية قررت التبليغ عن معنفها لدى السلطات المختصة فور إقدامه على طردها من بيت الزوجية في عز حالة الطوارئ. تقول سناء التي ارتبطت قبل خمس سنوات بزوجها الإسكافي، وعاشت معه ومع عائلته المكونة من خمسة أفراد تحت سقف واحد، أنها لطالما تحملت عصبيته وانهياله عليها بالضرب على مرأى من أهله وجيرانه جراء إدمانه على المخدرات، وذلك حتى قبل الحجر الطبي، فضلاً عن الاغتصاب الزوجي. تحكي الشابة بمرارة قاهرة: "كنت أدعي الصبر وأتحمل تبعات قراري، لأجل ابنتي البالغة من العمر 3 سنوات ونصف، خاصة أنه لا دخل قار لي، كما أني غير مصرح بي في الضمان الاجتماعي، فأنا أعمل في كذا بيت في الوقت نفسه. لكن بعد فيروس كورونا، ساء الوضع أكثر، توقف عملي وعملي زوجي أيضاً، كما أنه لم تصلنا أيّة معونة من الدولة إلى حدود اليوم"، تقولها وقد تحشرج صوتها بالدموع. وتضيف: "هذا الفيروس تسبب لنا بأزمة مالية خانقة في البيت، واضطرني إلى الاستعانة بكل ما كنت أدخره لاقتناء مسكن لنا. زوجي أخد مدخراتي مني خلسة، أو لأكون أكثر وضوحاً، سرق تعب سنوات من عملي في تنظيف البيوت والمراحيض، ليشتري به ذلك السم الذي يتعاطاه. وعندما واجهته ضربني وشتمني ثم طردني أنا وابنتي وبقينا في الشارع لساعات قبل أن تستقبلني جارتي". تقول سناء أنها سمعت من جارتها عن رقم للتبليغ عن النساء المعنفات، وهو ما فعلته.

العنف النفسي في المقدمة خلال الحجر الصحي

والمقصود بـ"رقم التبليغ"، منصة الاستماع التي خصصتها فيدرالية رابطة حقوق النساء من أجل دعم وتوجيه النساء والفتيات في الحجر الصحي ضحايا العنف الأسري، وتحقيق الاستماع عن بعد عبر مراكز شبكة "رابطة إنجاد".

تقييدات حالة الطوارئ والحجر الصحي، فضلاً عن ضبابية المستقبل، يولّد لدى الجميع ضغطاً نفسياً، لكنه أيضاً ينشئ بيئة خصبة لتفاقم العنف ضد النساء، وتعريض استقرارهن النفسي وحياتهن للخطر. وهذا يستدعي التدخل السريع للسلطات، وإيجاد حلول حقيقية للوضع لمنع تنامي ظاهرة تعنيف النساء خلال هذه الفترة الحساسة والحرجة.

وحتى مستهل الأسبوع الأول من أيار/ مايو، تمكنت فيدرالية رابطة حقوق النساء من تسجيل 541 فعل عنفٍ تمت ممارسته منذ إعلان حالة الطوارئ الصحية، مشيرة إلى أن "هذه الأرقام لا تعكس الوضع الحقيقي لظاهرة العنف الذي تعيشه النساء بسبب ظروف الحجر". وقالت الفيدرالية أنها استقبلت خلال الفترة الممتدة بين 16 آذار/ مارس الماضي و24 نيسان/ أبريل الماضي، عبر مختلف الخطوط الهاتفية التي وضعتها بخدمة النساء، 240 اتصالاً هاتفياً للتصريح بالعنف من قبل 230 امرأة عبر مختلف جهات التراب بالمملكة. وبحسب الفيدرالية، فقد شكل العنف النفسي أعلى نسبة (48.2 في المئة)، يليه العنف الاقتصادي (33 في المئة)، ثم العنف الجسدي الذي تجاوز نسبة 12 في المئة، ناهيك عن بعض حالات العنف الجنسي. كما هناك "حالات الطرد من بيت الزوجية، كفعل تم تسجيله واستدعى بإلحاح التدخل لتوفير خدمة الإيواء للنساء". ووفق المعطيات التي قدمتها الفيدرالية، فإن "العنف الزوجي، بما فيه عنف الطليق بكل أشكاله، طغى على أنواع العنف الممارس ضد النساء خلال فترة الحجر الصحي، حيث شكل نسبة 91.7 في المائة، يليه العنف الأسري بنسبة 4.4 في المئة، وهو الذي يتضمن أفعال العنف الممارس على النساء من قبل أفراد الأسرة".

تقييد الحركة والفروقات الاجتماعية تولِّد العنف

من جانبه، يقول الدكتور عادل الغزالي، أستاذ علم النفس في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن العنف الأسري يجب أن يوضع في سياق الحجر ليمكن فهم دوافع المعنف، ومسببات ممارسة هذا العنف بشكل متفاقم خلال هذه الفترة الوبائية. الغزالي لفت إلى أن العنف يمارس دائماً وفق مسببات معروفة، لكن وفي ظل الظروف الوبائية الجديدة "أضيفت بعض العوامل والمتغيرات المرتبطة بوضعيتين، الأولى خاصة بالوباء وما يثيره في نفس الإنسان من رعب وقلق وهواجس، وهي وضعية ضبابية غير واضحة المعالم، فنحن لا نعرف مصيرنا، خاصة وأن الكثيرين فقدوا عملهم أو تقلص أجرهم، وبالتالي هي وضعية غير اعتيادية، والثانية مرتبطة بالحجر نفسه.

حتى مستهل الأسبوع الأول من أيار/ مايو، تمكنت فيدرالية رابطة حقوق النساء من تسجيل 541 فعل عنفٍ تمت ممارسته منذ إعلان حالة الطوارئ الصحية، مشيرة إلى أن "هذه الأرقام لا تعكس الوضع الحقيقي لظاهرة العنف الذي تعيشه النساء بسبب ظروف الحجر".

شكّل العنف النفسي أعلى نسبة (48.2 في المئة)، يليه العنف الاقتصادي (33 في المئة)، ثم العنف الجسدي الذي تجاوز نسبة 12 في المئة، ناهيك عن بعض حالات العنف الجنسي، كما هناك "حالات الطرد من بيت الزوجية".

ويعتبر الغزالي "وضعية الحجر الطبي مشابهة لوضعية نزلاء السجون، لأن الحرية في السجن محكومة أو مقيدة، وتقول الدراسات أن سلوك السجناء دائماً ما يتسم بالعنف، وبالتالي فهل هذا العنف مرتبط بداخل الأشخاص أم بسياق السجن؟ الجواب في دراسة قام بها عالم النفس الاجتماعي زينباردو في سجن ستانفورد، قال فيها أن غياب الحرية والسجن هما السببان في هذا السلوك العنيف وليس طبع السجناء"..

وزارة المرأة والتضامن

من جانبها تعتبر وزيرة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، أن تتبع وزارتها لعمل مراكز الاستماع يشير إلى انتشار العنف تجاه النساء في هذه الظروف الحرجة، وهو ما يشكل مصدر قلق مزدوج، مشيرة أنه و"لتجنب كافة مظاهر العنف والحيلولة دون تفاقمها في الحجر الصحي، أطلقت الوزارة حملة تحسيسية رقمية من أجل بث رسائل تساعد على التغلب على الإكراهات النفسية خلال مدة الحجر الصحي، مع التذكير بأن العنف تجاه النساء والفتيات مُجرّم وليس له مبرر في مختلف السياقات، بل على العكس فإن اللجوء إليه في هذه الظروف قد يكون مدعاة لتشديد العقوبات". وتعتبر الوزيرة أن أكبر عقبة في محاربة العنف ضد النساء كانت في إحجام 93.4 في المئة من النساء المعنفات عن تقديم أية شكاية بالمعنِّف لاعتبارات سوسيو-اقتصادية. وأطلقت الوزارة كذلك مبادرة دعم وتطوير الخدمات الموجهة عن بعد لفائدة النساء ضحايا العنف، والتي يمكن أن تقوم بها الجمعيات وشبكات مراكز الاستماع الشريكة للوزارة من أجل مواكبة النساء في وضعية صعبة، وتطوير الخدمات عن بعد، ومواكبة النساء ضحايا العنف في جميع أنحاء التراب الوطني (الاستماع، الدعم النفسي، التنسيق مع مصالح حماية الضحايا، الإرشاد نحو الخدمات...).

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...