غزَّة... شواهد رمضانية في زمن كورونا

كيف يعيش الغزيون رمضان، بين السعي للتمسك بالتقاليد المعتادة وبالتراحم، وبين القهر المتعدد الذي يختزنه الواقع.
2020-05-04

عبد الله أبو كميل

صحافي من غزة


شارك
وليد حطاب، "طباخ الغلابة"، يطهو شوربة الجريشة ويوزعها مجانا على الاسر الفقيرة في غزة.

جاء العزيز على غير ما اعتيد عنه في أول أيامه. رُفع صوت الآذان دون صلاة التراويح، واشتكت القباب من قلة الزائرين، وما عادت المآذن مزينة كما كل رمضان. تلك جائحة كورونا التي وضعت خط سير لسكان غزَّة، كما للعالم كله، فأفرَغت المساجد من المصلين، وفرَقت المجتمعين، وألغت عادات رمضانية كان لا بد منها، وأبقت العمال في سِيَر المحتاجين. حتى الأسواق ما عادت تكسوها زحمة المعتادين، وابتسامة الباعة المتجولين.

في معقل القطاع، وسط أكبر أسواقها، تجد الصائمين يتهاملون بخطوات سيرهم المتثاقلة، غير مبالين بما هو معروض من جمال الكثرة للبضائع الموسمية. حتى الزينة التي عمت واجهات المحال ما عادت تلهيهم، ضاربين أكفهم على أجيابهم المفَندة من النقود إلا القليل منها، باحثين بأعينهم عن تلك السلع الأساسية التي تَخلَص سد حاجياتهم. فترى المارة يقتصرون خطواتهم دون ازدحام، وبغير كثير السؤال. فما جاؤوا له معلوم بين تلك المحمولة على مقدمات المحال التجارية في أزقة الأسواق. أحد التجار قال لنا أنَّه كان يتوقع أن تكون نسبة المبيعات لهذا العام أكبر من الذي يلمسه الآن من حالة الركود غير المسبوقة من ذي قبل... حتى في زمن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزَّة منذ ما يزيد عن 13 سنة.

لكن، وفي استثناء للحالة العامة، حاول بعض سكان القطاع أن يصنعوا البهجة، كاسرين حالة الجمود التي تلوح في أفق الأجواء، من خلال ممارستهم لبعض الطقوس الرمضانية داخل منازلهم المزينة بالأضواء، كما العائلات التي اجتمعت داخل الأحياء الضيقة لتؤدي نافلة التراويح، وآخرون اقتصروا الصلاة بين أسرهم، فيما تبقى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مُغلقة للمساجد حتى إشعار آخر، ضمن خطوات الوقاية من تفشي فيروس كورونا.

كورونا وموائد الإفطار

لم تكن بعض الأسر الغزيّة تتوقع أن يكون انتشار وباء كورونا سبباً في تفرقتها، وغياب بعض أفرادها من على موائد الإفطار. لكن حدث ذلك. فلم تتمكن السيدة سميرة الدغمة، وطفلتها نور من الاجتماع مع عائلتها بعدما أصبحت محتجزة في الحجر الصحي الذي لن تغادره قبل 21 يوماً، لأنها عادت من مصر. فلجنة الطوارئ في غزَّة تعمل على احتجاز الوافدين من الدول الخارجية، كخطوة احترازية لعدم تفشي العدوى بكورونا بين السكان.

وعلى الرغم من تزيينها لغرفة الحجر الصحي ومحاولتها اصطناع الأجواء الرمضانية، إلا أنها لم تستشعر ذلك الجمال. تتواصل سميرة مع ابنتها ولاء، الكبرى، عبر تطبيقات السوشيال ميديا، لتعريفها على كيفية تحضير الأطباق الرمضانية لإخوتها. وتعتزم ولاء إرسال بعض ما تصنعه من الطعام لوالدتها في محاولة منها لمشاركتها الأجواء التي تعودوا عليها، متمنية أن ينتهي ذلك البعد قبل مجيء العيد. وتعترف الفتاة أنها تحاول أن تسد مكان والدتها في تحضير الطعام لأسرتها لكن، "طعام أمي له نكهة أخرى، لم نألف غيابها من قبل. أتواصل معها في أغلب الوقت، نتشارك المائدة عبر الفيديو".

تعمد "طباخ الغلابة" أن يكون حي الشجاعية هو المستهدف الأساسي لمشروع توزيع الشوربة المجانية، لأن نسب الفقر فيه ارتفعت مع كثافته السكانية، كما أن أثار الحرب الأخيرة لاتزال باقية بوضوح فيه. ويشير لنا مركز الإحصاء الفلسطيني أن الفقر في غزة بلغت نسبته قرابة 80 في المئة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد النزلاء المحتجزين داخل المراكز الصحية للوافدين من الدول الخارجية يصل إلى قرابة ألفي مواطن، لن يتمكنوا من الخروج قبل أن يمضوا "21 - 28 يوماً"، في ظل التدابير المتخذة من قبل وزارة الصحة الفلسطينية.

أسواق غزة في رمضان

وكان من المعتاد في كل رمضان أن يقيم بعض الغزيّين موائد إفطار عامة، من خلال ذبح الذبائح تقرباً لله في إطعام المحتاجين. لكنهم هذا العام لن يفعلوا، طالما بقيت الإجراءات الحازمة في عدم السماح بتجمع المواطنين ضمن تدابير خطة الطوارئ المفروضة في قطاع غزَّة.

طباخ الغلابة

كانت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الظهر. نسمات الهواء الممزوجة برائحة الطهي تتفلت من بين البيوت، قادتنا إلى أحد الأزقة في حي الشجاعية، حيث ضجيج الناس بدى واضحاً على غير المألوف، ليس كما صمت الأسواق. قليل من الوقت ويبدأ الأطفال الحاملين أوانٍ صغيرة الالتفاف حول الطاهي، كما الشباب الذين جاؤوا بإشعار مسبق من خلال رائحة الموقد، توقاً منهم للحصول على الوجبة المجانية المشتعلة على قِدر كبيرة الحجم.

وليد الحطاب، "طباخ الغلابة"، أخذ على عاتقه طهي شوربة الجريشة ("العدس") وتوزيعها على الأسر الفقيرة طوال شهر رمضان من كل عام، تلك العوائل التي لم تتمكن من تدبير حاجيات إفطارها، فاستطاع بمبادرته المتواضعة أن يُدخل السرور إلى قلوب الكثير من الغزيّين الذين باتوا يشتكون من الفقر الحقيقي.

ويستفيد من هذه الوجبات ما يزيد عن مئتي شخص يومياً. وكان الحطاب متعمداً أن يكون حي الشجاعية هو المستهدف الأساسي لهذا المشروع، لأن نسب الفقر فيه ارتفعت مع كثافته السكانية، كما أن أثار الحرب الأخيرة لاتزال باقية بوضوح فيه. ويشير لنا مركز الإحصاء الفلسطيني أن الفقر في غزة بلغت نسبته قرابة 80 في المئة. وبالمقارنة بين القطاع والضفة الغربية، فإن الأولى تفوق الأخرى بأربعة أضعاف في الفاقة.

سجلت البطالة في القطاع نسبة 70 في المئة بين صفوف العمال والخريجين، وكان الحصار الإسرائيلي سبباً رئيسياً، لتوقف غالبية القطاعات المحلية الخاصة، فحدث تراجع في فرص العمل، قبل أن يأتي كورونا،فيزيد من أعباء العمال الذين سُرّحوا من أماكن عملهم بسبب إغلاقها وتراجع الواردات لدى أصحاب الشركات.

وسط ذلك المشهد،استوقفَنا شاب ثلاثيني ليقول لنا أنه جاء ليساعد صاحب المبادرة، مقابل أن يحصل على مزيد من الطعام لأسرته. علمنا أن منزل العائلة هدم في الحرب الإسرائيلية الأخيرة عام 2014، هو لم يجد فرصة للعمل في مجال المحاسبة بعدما تخرج من الجامعة، معيلاً لتسعة أفراد من الإناث وطفلين. ونشير هنا إلى أن البطالة في القطاع سجلت نسبة 70 في المئة بين صفوف العمال والخريجين، وكان الحصار الإسرائيلي سبباً رئيسياً في هذه النسبة، من خلال توقف غالبية القطاعات المحلية الخاصة، ليحدث تراجع في فرص العمل، قبل أن يأتي كورونا، فيزيد من أعباء العمال الذين سُرّحوا من أماكن عملهم بسبب إغلاقها وتراجع الواردات لدى أصحاب الشركات.

يا ورد غزَّة مين يشتريك

كان من المعتاد لدى سكان غزَّة اقتناء الورود، خاصة بأوائل شهر رمضان، مستخدمينها في زيارة مقابر موتاهم، كما في الأفراح وشتى المناسبات. لكن تجمد كل شيء هذا العام، وتوقف انشغال أصحاب المزارع في جني المحاصيل الورديّة، ليكتفوا بقصّها وترحيلها خارج المزروعات، بعدما انتظروا فصل الربيع والصيف بفارغ الصبر.

كان يوجد في جنوب غزَّة قبل الحرب الإسرائيليّة عام 2012 خمسمئة مزرعة للورود، كانت تُصدر إنتاجها للدول الأوروبية والعربية، فما عاد موجود منها سوى واحدة تُقدر مساحتها بحوالي 10 دونمات، تتنوع فيها مسميات الأزهار: الجوري، الزنبق، اللونضا، الخرسيوت، القرنفل، وليمونيوم (العويذران). أُغلقت بسبب فيروس كورونا، الذي أوقف الحركة الدراسية والمناسبات الشعبية، فبات محصولها لا يجد طلباً في السوق المحلي، وأصبحت مأكلاً للحيوانات ومكبّاً للنفايات. وهكذا كان على صاحب المزرعة (واسمه "حجازي") أن يتحمل خسارة الموسم التي يقدرها لنا بقرابة 42 ألف دولار أميركي، ويحاول أن يتلاعب بالوقت لصالحه من خلال خبرته في مجال الزراعة، فيعمل على تقزيم أشتال الزهور على أمل أن تزهر بعد عدة أسابيع، فتجد ضالتها في الأسواق المحلية بعد أن تُفكّ حالة الطوارئ.

كان يوجد في جنوب غزَّة قبل الحرب الإسرائيليّة عام 2012 خمسمئة مزرعة للورود، كانت تُصدر إنتاجها للدول الأوروبية والعربية، فما عاد موجود منها سوى واحدة تُقدر مساحتها بحوالي 10 دونمات.

ونشير إلى أن القطاع الزراعي بشكل عام في غزَّة شهد تراجعاً ملحوظاً في ظل جائحة كورونا، ويتخوف المزارعون من الزراعة الموسمية الجديدة، التي سيكون مصيرها كما سابقتها، دون أن تجد أسعاراً حقيقية تعوض خسائرهم.

مقالات من غزة