محطة بغداد في حلب

بدأ المهندسون الألمان بتشييد محطة بغداد عام 1910، وهي ثاني محطة قطار في مدينة حلب بعد محطة الشام الواقعة في حي الجميلية، أمام المبنى الحديث لمديرية المالية، قبل إزالتها في 1950. واستكملوا أعمال البناء، بتشييد جسر معدني في منطقة الصيرفي، ملاصقاً لمعمل العوارض الإسمنتية التابع للسكك الحديدية، كما شيدوا جسراً اسمنتياً في منطقة الشيخ طه، وأنشأوا على جهته الغربية مجموعة من الملاجئ الحربية.
2015-11-05

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
من دفتر:
مدن سوريا
محطة بغداد في حلب

بدأ المهندسون الألمان بتشييد محطة بغداد عام 1910، وهي ثاني محطة قطار في مدينة حلب بعد محطة الشام الواقعة في حي الجميلية، أمام المبنى الحديث لمديرية المالية، قبل إزالتها في 1950. واستكملوا أعمال البناء، بتشييد جسر معدني في منطقة الصيرفي، ملاصقاً لمعمل العوارض الإسمنتية التابع للسكك الحديدية، كما شيدوا جسراً اسمنتياً في منطقة الشيخ طه، وأنشأوا على جهته الغربية مجموعة من الملاجئ الحربية.
بوشر في عام 1912 بتسيير القطارات انطلاقا من "محطة بغداد" وصولاً إلى بلدة "جرابلس" على نهر الفرات. أبرم المفوض السامي الفرنسي عام 1922، عقداً مع شركة بوزنتي حلب - نصيبين وامتدادها، لإدارة القسم الموجود على الأراضي السورية من خط حديد بغداد، واستمرت هذه الاتفاقية لغاية عام 1933، عندما أبرم المفوض السامي اتفاقية أخرى، تقوم بموجبها شركة شام – حماه وامتدادها، باستثمار هذه الخطوط لمدة خمسة عشر عاماً، وتمَ وصل خطوط السكة الحديدية ما بين محطة بغداد ومحطة الشام.
قامت الحكومة السورية بعدما انتهت الاتفاقية في عام 1948، بإدارة الخطوط الحديدية بكوادرها الوطنية. وفي عهد الرئيس حسني الزعيم، أممت الخطوط الشمالية التي تشمل شبكة الخطوط الحديدية الواصلة بين ميدان اكبس - حلب – المسلمية - جوبان بك – نصيبين - تل كوجك، وأحدثت مؤسسة "سكك حديد سوريا"، بموجب المرسوم التشريعي رقم 10 بتاريخ 9/4/1949.
أبرمت عام 1955 اتفاقية بين حكومة الجمهورية السورية، وشركة سكة حديد شام - حماه وامتدادها، تنازلت بموجبه الشركة عن امتيازاتها في سوريا، لقاء مبلغ ثلاثة ملايين ليرة سورية، وصدر القانون رقم 127 تاريخ 20/11/1955، ينظم هذه الاتفاقية.
دمجت الحكومة السورية الخطوط الحديدية التي تعمل على أراضيها، والتي تعود للشركة العثمانية للخط الحديدي شام - حماه وامتدادها، مع الشركة الإمبراطورية العثمانية لخط بغداد ليكونا مؤسسة واحدة تتمتع باستقلال مالي وإداري، حملت اسم "المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السورية"، ومقرها حلب.
أوقفت المؤسسة حركة نقل المسافرين في أواخر عام 2011 بعد عملية تفجير الخطوط الحديدية قرب حمص، وتوقفت بعدها ببضعة أشهر أغلب الطرقات الدولية، للعجز عن حمايتها وحماية حركة النقل عليها، واستعيض عنها بطرقات زراعية قسم غير قليل منها ترابي.
***
للوصول إلى مبنى محطة بغداد يتوجب المرور على حواجز عسكرية... لم تعد الغاية السفر، وإنما إنجاز معاملات إخراج قيد السجل المدني، وبطاقة الهوية الشخصية، التي نقلت إداراتها من منطقة السبع بحرات، بينما نقلت مديرية المواصلات إدارتها إلى مكان يمتد إلى شمالها، أي في موقع صيانة العربات وإعادة تأهيلها، وتجري فيها عمليات فحص جهوزية السيارات، ونقل الملكية وتسديد الرسوم الضريبية.
يغدو المشهد عبثياً، إن أغمض المرء عينيه ولم يفتحهما إلا في حرم المحطة. سيجد أمامه أطباق رب البندورة الموزعة على مقاعد المسافرين، وشرائح الفليفلة الحمراء المنثورة على أقمشة على مصاطب الحماية من عجلات القطارات، والغسيل المرتخي بثقل مائه متدلياً من نوافذ عربات النقل، وأولاد يلعبون كرة القدم على الرصيف العريض، حيث كان يقف المسافرون منتظرين الصعود إلى عربتهم، وخِيم بيضاء تحمل شعار هيئة الإغاثة ومنظمة الأمم المتحدة. يعيش في حرم هذه المحطة ما يزيد عن خمسمئة وعشرين عائلة، معظمهم من عائلات العاملين في مؤسسة الخطوط الحديدية، بعضهم يسكن عربات النقل، وأغلبهم في أكشاك مخصصة لمراقبي حركة القطارات وعمال الصيانة والحراسة. أكشاك لا تزيد مساحة أكبرها على أربعة أمتار، تتكدس فيها عائلة أقلها من أربعة أفراد وأكثرها من تسعة وعشرة أفراد.
لا يحتاج الأمر للكثير من الاستفسارات لتبين وقائع المعيشة اليومية وسير الحياة. يكفي المرور بين أماكن السكن وطلب الاستئذان لدخول بعضها.. غرف مفردة عاجزة عن إخفاء ما بداخلها، تظهر كبطون حيوانات ذبيحة ممددة على مسطحات أرضية. عبوات المياه الغازية المملوءة بالماء أو الفارغة، أطباق الطعام مغسولة ومصفوفة فوق بعضها، حصائر بلاستيكية ممدودة على الأرض أو مركونة في الزاوية، أباريق الشاي وكؤوسه رابضة على أطباق معدنية مهترئة الحواف.. أقدام حافية، "شحاطات" البلاستيك بمقاسات مختلفة وملونة بألوان لم تعد صالحة إلا للشحاطات.. ألبسة على النوافذ تقوم مقام الستائر، روائح الأجساد المتسخة، القلق الراسخ في العيون التي تتحرى مصيرها في الأيام الآتية، اليباس المنقبض كحفنات ملح على الشفاه...الكلام المكرور العاجز عن مقاربة الحال الذي هم فيه، بعدما أمسوا خارجه وخارج الإضمارات التي يختزنها.
تحدث رب الأسرة النازحة من حي الميسر، والتي تعيش في قاطرة لا تصلها الكهرباء ولا المياه، وهو غير قادر على الاشتراك بكهرباء المولدات الخاصة.. نحن لم ننزح من بداية الأحداث، لكن أجور الطريق وطوله باتت تستنزف دخلي وعافيتي. "الشتاء قارس والصيف لاهب، في الشتاء يتسلل إلينا الهواء البارد، من الفتحات والشقوق في العربة، وفي الصيف يحرقنا حديدها... "كنا نعيش في حوش عربي كناية عن بيت مستقل عقارياً عن جواره. أبلغنا جيراننا أن الحوش تدمر بالكامل. في البداية لم نصدق الخبر.. حتى رأينا صورته.. لم يعد ينفع معه ترميم ولا صيانة، يحتاج جرافة تحمل أنقاضه وترميها بعيداً. تنسى المرأة الحال الذي آل إليه بيتهم، وتصر على "بدنا نرجع ع بيتنا"، هنا بتنا نخجل من أنفسنا.. بلا حمام ولا مطبخ.. تبدو هذه أشياء صغيرة، لكنها امتحان يومي للقدرة على إعادة إحياء باقات الخجل التي تذبل، محاصرة بالريبة العميقة مما يسمى باستعارة هزيلة: مستقبل.
- على مقربة منكم هناك مطبخ اغاثي، وأكله محترم.. ألا تذهبون إليه لإحضار الوجبات.
- نخجل من الذهاب إليه، الإعانة التي نحصل عليها، لا تكفي حاجة أسرتنا، بدنا نأكل من طبخنا.. بدنا نحس نفَسنا بالطبخة.
وهي كلمات لا تقصد الإعلاء من شأن العيش المفرد، لكنها محاولة للتدثر من ومضات الإهانة، وعدم الرغبة بانكشاف الحال على الآخرين.
الأسرة النازحة أتت من بدايات آب/اغسطس 2012، أي أثناء عملية "الفرقان"، الاسم الذي أطلقته الكتائب المقاتلة على عملية اقتحام المدينة التي تمت في أواسط تموز/يوليو 2012. لم يكن بيتنا ملكاً لنا، سكناه بموجب عقد رهنية، دفعنا مئتا ألف ليرة، خسرنا الرهنية وسرق أثاث البيت كله.. بدأنا هنا من الصفر، كما هو حال كل العائلات النازحة. تتسرب المياه إلى داخل الغرف التي نسكن فيها. يبدو رب الأسرة أكثر تكيفاً مع الحال الجديد، يزرع البندورة والباذنجان والفليفلة والملوخية. ويحاول استباق أمطار الشتاء بتوفير أقمشة لسد الثقوب على السطح وبين إطارات النوافذ، ويجمع أغصان الأشجار وبقايا الخشب التالف وقطع البلاستيك من أجل التدفئة..
وكأن الأسرة النازحة من بلدة "كفر حمرة"، قد اعتادت المكان، وفرضت نزعتها التوسعية عليه، بتعليق أقفاص العصافير والكناري والبلابل على جدران الجوار، ولعب أولادها الصغار بين العربات. الرجل متزوج من امرأة ثانية بعد وفاة زوجته الأولى، التي أنجبت له ثمانية أولاد منهم من هاجر ومنهم من يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، وأنجبت له زوجته الثانية ثمانية أولاد معظمهم تحت سن العاشرة. يبدوان قدريين، مقتنعين بما حصل معهما ومع أولادهما.. لا تفارقهما أكواب الشاي ولا السجائر المشتعلة، قالت وهي تنفث دخان سيجارتها:
- والله جماعة اليوسفي، ما عم بيقصروا معنا.
- من هدول جماعة اليوسفي؟!
- جماعة اليوسفين .. حاولت تصويب العبارة وبسطت ذراعيها على امتدادهما لتؤكد على كبر الجماعة وعلو شأنها.
- قصدك جماعة اليونيسيف.
- أي.. أي اليونيسيف..
كانت العبارة تستوجب الضحك، لكن لا المكان ولا حالة المرأة وأسرتها حيث تتكسر الكلمات تحت أسنانها كنثار زجاج، تدفع لمثل هذا الضحك الشائن. لم يتبق سوى التفاتة نحو البوابة الرئيسية لمغادرة هذا المكان والدخول في الأوجاع على الضفة الأخرى من المدينة المنهكة.

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..