نهج ابراهيم

كان يخرج إلى شرفة المنزل الذي يحل فيه كضيف، في الطابق الثاني من العمارة التي تقابل الباب الرئيسي لثانوية المأمون، ليحيي الطلاب الخارجين إلى بيوتهم، وكانوا يرفعون رؤوسهم ليروا وطناَ في هيئة رجل منتصب القامة، نحيل، تلتمع في عينيه بوارق من آمال عفيفة. لم يعرف أن قبره، سيكون على الطرف الآخر من نهاية هذا الشارع، الذي يفصل بوابة الثانوية عن بوابة العمارة التي يسكن في أحد بيوتها، أي في الانعطافة
2015-06-20

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
طوابع سورية

كان يخرج إلى شرفة المنزل الذي يحل فيه كضيف، في الطابق الثاني من العمارة التي تقابل الباب الرئيسي لثانوية المأمون، ليحيي الطلاب الخارجين إلى بيوتهم، وكانوا يرفعون رؤوسهم ليروا وطناَ في هيئة رجل منتصب القامة، نحيل، تلتمع في عينيه بوارق من آمال عفيفة. لم يعرف أن قبره، سيكون على الطرف الآخر من نهاية هذا الشارع، الذي يفصل بوابة الثانوية عن بوابة العمارة التي يسكن في أحد بيوتها، أي في الانعطافة المؤدية إلى الحديقة الرابضة على كتف منحدر، يأخذ سيول المطر إلى وهدة حي "الفيض"، في مقبرة حملت بمجازفة وطنية اسمه، إذ ليس من اللائق تسمية مقبرة على اسم زعيم وطني.

 ولم يعرف كذلك أن أجيالاً من الوطنيين ستحج كل عام إلى قبره في ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي، لتلفظ اسمه وتتحزم بالأناشيد الوطنية العالية. آخر لقاء وطني في هذه المقبرة جرى في السابع عشر من نيسان/ابريل 2011، لتحية ذكرى الجلاء، وللتأكيد على الوقوف مع انتفاضة أهل حوران في تحولها إلى انتفاضة شعبية ثورية، والإعلان عن حزمة من المطالب تأخذ الشعب الى استرداد حريته المفقودة. يومها هدد المجتمعون، المتوافدين من أحياء المدينة وجامعتها، بمذبحة استعدت لها جموع من القتلة المأجورين، حملتهم حافلات بسمات حكومية بينة، وتوزعوا حول أطراف سور المقبرة وأمام بوابتها المعدنية.

 سنقع في مجازفة كبيرة حينما نرد سيرة انتفاضة وطنية شعبية ـ مسلحة إلى أحد أبطالها ورموزها، في نزوع للتماهي بين سيرته وسيرتها. الثورات والانتفاضات محكومة بشروط تاريخية وعلاقات قوة محلية وإقليمية ودولية، وتعبر عن تمثيل سياسي - طبقي محدد يعجز بذل الثوار المفرد وتضحياتهم عن كسر هذه الحزمة الصلبة، أو التعديل في موازينها.

 لكنه كان فعلاً مفرداً حين جمع إبراهيم هنانو أثاث بيته وآلاته الزراعية وأحرقها، ليعلن من بين ألسنة نيرانها، لحظة بداية الثورة. وحين ضحى بجميع أمواله وأراضيه، واختار البراري الموحشة مكاناً آمناً لحياته وتنقلاته، لتكون سبباً مباشراً لإصابته فيما بعد بعصيات السل، بعد ليالي الجوع والبرد التي أمضاها متخفياً بالجبال والكهوف. لم يفعل مثله أي من المنتمين إلى "طبقة الأعيان" التي تأطرت مصالحها من أواسط القرن التاسع عشر، بعد قوانين التنظيمات العثمانية وما تبعها من قوانين إصلاحية ساهمت في إرساء القواعد الحقوقية لطبقة ملاكي الأراضي. وهي لطالما عرفت حدود كفاحها السياسي، ولم تخرج عنه إلا في لحظات تاريخية محددة (الثورة السورية 1925 ـ 1927 مثلا)، لتعود مسرعة إلى الانضواء تحت سقفه، ولم تكن غاية كفاحها سوى الاحتفاظ بامتيازاتها السابقة على مرحلة الانتداب الفرنسي، وتحسين شروط تبعيتها له، ومشاركته في التمثيل الحكومي، وانتظار جلائه لتحل محله.

 ولد إبراهيم هنانو عام 1869 في بلدة "كفر تخاريم" التابعة لقضاء حارم غرب حلب، وكان ابناً لوجيه ريفي غني. أنهى دراسته الثانوية في حلب، وغادر بعدها إلى اسطنبول لتحصيل المزيد من العلم. قضى هناك سبع سنوات، نال خلالها شهادتين، الأولى في الإدارة العامة والأخرى في القانون. عُين بعد ذلك موظفاً في ضواحي اسطنبول وتزوج من إحدى بناتها. عاد بعدها إلى حلب ليخدم لأعوام قليلة في العديد من الدوائر الحكومية، ثم قرر الانصراف إلى إدارة أملاكه.

 انضم إلى جيش فيصل العربي أثناء انطلاقة الثورة العربية، الذي دخل حلب مع الحلفاء 1918، وأعتنق القضية القومية من خلال انضوائه في جمعية "العربية الفتاة" القومية السرية، وانتُخب في صيف 1919 ممثلاً لبلدة "حارم" في المؤتمر السوري في دمشق.

 لم يرق هذا المؤتمر لـ "هنانو". فهو كان رجلاً عملياً، نادراً ما تكلف الكلام، فوجد في قاعة المؤتمر العابقة بالدخان مكاناً يمجد السياسيون القوميون فيه الثورة العربية، ويلقون الخطب الرنانة عن الفرنسيين وعن بعضهم البعض، من دون أن يفعلوا شيئاً سوى القليل. وأدرك أن الوسيلة الوحيدة للدفاع عن سوريا واستقلالها لن تكون إلا بتعبئة القوى الشعبية، فغادر المؤتمر بعد جلسته الأولى.

 أخذ بعدها يجند الشباب في "عصبة الدفاع الوطني" التي أسسها في حلب. وبدعم من العديد من التجار البارزين والقادة الدينيين وأعضاء المهن الحرة، تمكن من جمع ألفي ليرة ذهبية، و1700 بندقية لـ 680 مجنداً، تلقوا التدريب على أيدي "هنانو" ومساعديه. وإلى جانب "عصبة الدفاع الوطني" برز تنظيم سياسي ساهم في نشر فكرة الوحدة الوطنية السورية، عرف باسم "النادي العربي في حلب"، وحمل هذان التنظيمان مزيجاً معقداً من الجهوية الحلبية والمشاعر الدينية والقومية العربية. وبتأثير منه ومن غيره من مؤسسي "النادي العربي" كعبد الرحمن الكيالي ومسعود الكواكبي، أصحاب العقيدة المماثلة، اكتسبت نخبة حلب الإسلامية، بالتدريج، هوية وطنية سورية بملامح عروبية.

 كان العديدون من داعمي ثورة هنانو، كجميل إبراهيم باشا أتباعاً حقيقيين لمصطفى كمال في سنتي 1920-1921، وعززت عناصر أخرى الأسس المادية للثورة على الانتداب، كالضائقة الاقتصادية -الاجتماعية، مشاعر العداء للفرنسيين، ازدياد البطالة بتصاعد متسارع، بفعل ركود التجارة الناتج عن اضطراب التنقل بين مدينة حلب وامتدادها الطبيعي في الأناضول وكيليكية والموصل، وتدفق اللاجئين الأرمن إلى المدينة ومنافستهم أهلها على فرص العمل المحدودة، والارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية الذي تسبب بمجاعات حقيقية... ترافق ذلك مع فرض الأحكام العرفية وتقييد حرية الكلام والاجتماع والسفر.. كل هذا دفع المدينة لإمداد هنانو وخياره بالرجال والأموال والسلاح، فجند زعماء الأحياء المقاتلين في صفوف الثوار وتدفقت التبرعات من ملاك الأراضي ومن التجار.

 لم تحدث قط ثورة متواصلة داخل المدينة في ظل وجود معظم القيادة الوطنية لحلب في المنفى أو في السجن، وفي ظل وجود خمسة آلاف جندي فرنسي، أغلبهم من السنغال ومدغشقر، متمركزين في المدينة، وخمسة عشر ألف جندي في محيطها. وعوضاً عن ذلك، علق السكان المسلمون في أحياء المدينة الفقيرة، إحباطاتهم على مشجب من هم أقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم، أي مشجب الأقلية المسيحية التي شكلت 35 في المئة من سكان المدينة، والتي اعتبرت تقليدياً متماهية مع المصالح الأوروبية، وغالباً على غير وجه حق، حيث ازدادت حوادث العنف ضد المسيحيين، ومُنعوا من الدخول لبعض الأحياء والأسواق.

 لم تكن ثورة هنانو "ثورة مدينية"، فقد انطلقت في خريف 1919 في الريف المحيط بحلب، أي قبل عشرة شهور من احتلال الفرنسيين المدينة. وعندما احتلت فرنسا حلب في تموز/يوليو 1920،أدى تفوقها العسكري إلى تهدئة القسم الأكبر من الهياج والغضب في المدينة، ودفع بمعظم الزعماء المحليين إلى المناطق الأكثر أماناً في الريف المتمرد. قدّم سكان المدينة بصورة سرية العون المادي لأنصار هنانو، الذين كانوا يشنون العمليات في الأقضية الواقعة في الريف الغربي من المدينة، وأبقوا على شكل المقاومة السلمي بحكم الظروف العسكرية المسيطرة. وبقي الاعتماد الأساسي على المساعدات التي قدمها بسخاء القوميون الأتراك. فالحركة القومية التركية بقيادة مصطفى كمال، التي كانت تقاتل في ذلك الوقت جيش المشرق الفرنسي الراغب بالسيطرة على كيليكية والأناضول، قدمت السلاح والرجال والأموال بكميات وافرة إلى قوات هنانو.

 كما قدم القوميون الأتراك الدعم إلى شبكة واسعة من التنظيمات واللجان السياسية في سوريا الشمالية، من أجل نشر الدعاية المؤيدة للأتراك والمعادية للفرنسيين، وهي اعتمدت في شطر منها على التضامن الديني مع الأتراك، الذي كان قوياً على نحو واضح في سوريا الشمالية.

 ترافقت دعاية القوميين الأتراك، بدعاية بلشفية، على شكل منشورات دعت الشعب السوري إلى إطاحة المستعمرين الإمبرياليين الفرنسيين. أثارت هذه الدعاية مخاوف عميقة عند الفرنسيين والبريطانيين في آن، كما استنفرت الفئات المؤيدة للهاشميين في عمان وبغداد ودمشق، وأرسلت تحذيرات شديدة إلى سكان سوريا الشمالية، من مخططات تركية - بلشفية تستهدف منطقتهم.
تلقت "ثورة هنانو" قسطاً من الدعم من الأمير عبد الله في شرق الأردن، عبر الوسيط، "رمضان باشا شلاش"، خريج المدرسة العسكرية لزعماء القبائل البدوية في اسطنبول، والمنحدر من قبيلة "البو سرايا". استثارت هذه المساعدات الفرنسيين، لخشيتهم أن تكون تعبيراً عن مؤامرة بريطانية لإخراجهم من البلاد. انتشرت "ثورة هنانو" بسرعة، بعد احتلال حلب، وتوسعت قواته من 800 رجل في أوائل صيف 1920 لتصل إلى 5000 في أواخر صيف 1920، وضمت متطوعين ومجندين من أبناء المدينة والريف والبدو.. نشأت في الفترة ذاتها مجموعات من العصابات، للقيام بأعمال النهب والسلب، تسبب بها ضعف أجهزة الدولة، وفوضى المرحلة الانتقالية بين الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، وانهيار الوضع الاقتصادي، وكانت أكبر من قدرة "هنانو" في السيطرة عليها، أو الحد منها.

 تمكنت قوات هنانو سيئة التجهيز (لم يكن لديها سوى مدفعين، و12 رشاشاً بالإضافة إلى الأسلحة الخفيفة والذخائر التي يقدمها الأتراك) من استغلال طبيعة الأرض الوعرة وغير المألوفة للفرنسيين، واتبعت تكتيكاً ناجحاً باستخدامها الهجمات الليلية معتمدة على نظام إضاءة اعتقد الفرنسيون أن البريطانيين قدموه للثوار. وبحلول تشرين الثاني/نوفمبر 1920، سيطرت قوات هنانو على الأقضية والبلدات الممتدة من حارم إلى جسر الشغور. تزامن ذلك مع انهيار الهدنة الفرنسية - التركية وهو ما أدى إلى قطع المساعدات التركية عن الثوار منذ أيار /مايو 1920. اشتعلت الثورة مجدداً في الأقضية الممتدة بين انطاكية واللاذقية، قادها الضباط الكماليون وقواتهم، ومتطوعون من الأتراك.

 أدى التدمير المتكرر لسكك الحديد وخطوط التلغراف التي تصل حلب بالإسكندرون وبيروت إلى إضعاف النفوذ الفرنسي، واحتمالية تعريض منطقة سوريا الشمالية الغربية إلى سيطرة الثوار. بدأ الجنرال الفرنسي، دي لاموت، في حلب بوضع خطط للتعزيزات، وتمكن من جمع طابورين عسكريين، أحدهما في بلدة حمام - شمال بلدة حارم - والثاني في إدلب.. وبعد هجمات وهجمات مضادة، سقطت مواقع الثوار بين حارم وجسر الشغور في أيدي طابور حمام. حققت هذه الحملات العسكرية نكسة حماسة لثورة هنانو. التجأت قواته بعدها إلى جبل الزاوية الوعر جنوب ادلب، حيث أعاد مع قيادته تنظيمها في عدة مجموعات صغيرة.

 وما إن وصلت تركيا وفرنسا إلى اتفاق بشان كيليكية، حتى بدأت المساعدات التركية بالتوقف تدريجياً. اعتمد هنانو بعدها يائساً على قطاع الطرق المحليين في انتزاع الأموال والمؤن من سكان جبل الزاوية والأقضية المجاورة. وتواصلت عملياته حتى ربيع 1921 حين أكملت القوات الفرنسية حصارها وفككت قياداته. التجأ بعد ذلك إلى شرق الأردن، مع الوطنيين السوريين المنفيين.

 اعتقلته الاستخبارات البريطانية، أثناء محاولته الانتقال إلى القدس، وسلمته إلى السلطات الفرنسية. قضى هنانو ستة شهور في سجن حلب، وفي آذار 1922 فاز في المواجهة مع المحكمة العسكرية. ففي دفاع درامي في قاعة المحكمة، احتج محاميه الحلبي المسيحي، فتح الله صقال، بأن موكله كان بطلاً وطنياً ولم يكن مجرماً. وعندما تناول هنانو الكلام، شجب جميع أوجه الاحتلال الفرنسي، غير القانوني لسوريا، وأدَّعى أن العمليات العسكرية كانت جميعها في أيدي حكومة مصطفى كمال في أنقرة.

 وبعد محاكمة استغرقت ثلاثة أيام، برأت المحكمة هنانو من تهم تنظيم عصابات الثوار، ومن أعمال قطع الطرق والقتل وتدمير السكك الحديدية والأشغال العامة.

 فشلت "ثورة هنانو" بسبب توقيع اتفاق فرانكلين - بوييون، الذي تسبب في وقف المساعدات العسكرية التركية، وذلك على الرغم من سعيه منذ بداية الثورة لتحقيق شكل من الاستقلال النسبي عن الأتراك، عن طريق الجبايات الضرائبية والإسناد المالي من المتعاطفين من طبقة أعيان المدن والتجار.. عمل الأتراك من خلال التفاوض على تأمين انسحاب الحاميات الفرنسية من كيليكية ومن أقضية عينتاب ومرعش وروم القلعة وأورفه، التي كانت جزءاً من ولاية حلب في المرحلة العثمانية، والتي أعيد تنظيمها وتأهيلها لإسناد القوات الفرنسية في المعارك مع الثوار.
انتخب إبراهيم هنانو رئيساً للجنة الجمعية لوضع الدستور السوري، المنبثقة عن البرلمان المنتخب في 1928 والتي انتخبت من داخلها المحاميان فوزي الغزي وفايز الخوري، وتم تكليفهما صياغة الدستور.

كتب هذا النص المتواضع، قبل أن تقوم قوات من جبهة النصرة بتحطيم تمثال المناضل الوطني الكبير الرابض في إحدى ساحات مدينة إدلب، وإهانة تاريخه وشخصيته بالكلام، بالتزامن مع دوسهم على حطامه.


وسوم: العدد 140

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..