السيرة «الزيتية» لبعض المعارضين السوريين

وما السيرة الذاتية إلا تعبير عن صدق القول وبوح الوجد ساعة تصطفي اللغة مفرداتها والذاكرة صورها، وتنبجس مياه الماضي من تشققات بازلت الحاضر وكتامته. تأتي كهمس شفيف تختلج له الشفاه وتتقوّى برحابة صدر المتلقي وتواصله. هكذا كانت سرديات محمد شكري (الخبز الحافي) وسليم بركات (السيرتان) وصموئيل شمعون (عراقي في باريس) وإدوارد سعيد (خارج المكان) وجبرا إبراهيم جبرا (البئر الأولى) وكينزي مراد (حديقة
2014-08-20

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
من الانترنت

وما السيرة الذاتية إلا تعبير عن صدق القول وبوح الوجد ساعة تصطفي اللغة مفرداتها والذاكرة صورها، وتنبجس مياه الماضي من تشققات بازلت الحاضر وكتامته. تأتي كهمس شفيف تختلج له الشفاه وتتقوّى برحابة صدر المتلقي وتواصله. هكذا كانت سرديات محمد شكري (الخبز الحافي) وسليم بركات (السيرتان) وصموئيل شمعون (عراقي في باريس) وإدوارد سعيد (خارج المكان) وجبرا إبراهيم جبرا (البئر الأولى) وكينزي مراد (حديقة بادالبور)... أما السير العمومية فما هي إلا التزام القول بالوقائع وتوثيق زمانها وتثبيت شهودها وشهاداتهم، والبحث في محجوبها وتمتين سردها بالاستعانة بسرديات المهمشين والمنبوذين.
قديمة محاولات التلاعب بالسير الذاتية والتاريخ العمومي، قِدم السلطات الاستبدادية وتمكنها من فرض حثالات رجالها على الشعوب المضطهدة، بعد تزيين سيرهم وتعطيرها بإنتاج سير ذاتية ملفقة (زيتية أو زئبقية)، يتحول من خلالها مجرمون وشذاذ آفاق وخونة إلى رجال وطنيين، مأخوذين بحمى الأخلاق والشرف والمروءة، مقمطين بأحزمة الوطنية والمطالب الشعبية وهمومهما.
جرت في أدبيات المعارضة أحاديث طويلة في سياق الصراع السياسي المكشوف الدائر في البلاد منذ فجر الثامن عشر من آذار/مارس 2011 عن مظلوميات عامة من باب رفع العتب، لتتعالى بالنيابة عنها مظلوميات فردية صعدت بقوة من وقف خلفها وعبرت عن قدرتهم الإعلامية والمالية، ودفعتها إلى مواقع عالية لجهة الاهتمامات العامة، من مثل مظلومية الصناعي ورجل الأعمال والسياسي الطارئ، الذي اكتسب المناقبية العمومية من خلال «جرأة» التحدث عن احتكارية شركتي تشغيل الخليوي، وهي («للمصادفة»!) من المجالات التنافسية بين أولاده والشخص الذي وقع عليه الاتفاق (ومن يقف خلفه كذلك). «جرأة» معروفة ومتقنة جيداً، برزت وتبرز دوماً في الإعلام والصحافة، حيث يمنح صحافيون امتيازيون، على تلاصق مع أجهزة المخابرات، ملفات تحمل بعمومها سمات كيديّة ضد خصوم من منافسين تجاريين أو صناعيين (وسياسيين)، ساهمت في زمن خلا من صحف اشتهرت بـ«فرادتها» (وكانت تديرها زمرة بالتوافق مع أجهزة المخابرات)، بعرض الكثير منها.
ناصَر هذا «الصناعي» في ما بعد ما بات يُعرف بربيع دمشق، وأخذ موقعاً في نشاطاته الظاهرة والمغفلة التي قادته إلى ائتلاف «إعلان دمشق». ما يغفل عن سيرته، هو كيفية صعوده إلى مجلس الشعب لدورتين انتخابيتين متتاليتين (الدورة الثانية لم يكملها بسبب اعتقاله على خلفية موضوع استثمار شبكة تشغيل الخلوي) في شروط سياسية - أمنية ترسم بشكل هندسي تابعي آليات ومقدمات هذا الترشح ومستتبعاته.
وفي الوقت الذي كان هذا الرجل يولم في السرادق «لحملته الانتخابية» مزوّداً المناصرين ببرامجه التي لم تبارح حدود مناسف اللحوم وأطباق البقلاوة، كان الآلاف من المعتقلين في سجون غير بعيدة عنه، يتابعون ـ بما يصلهم من صحف السلطة ـ نشاطاته ونشاطات سواه مما اصطلحت السلطة الاستبدادية عينها على تسميتهم بـ«المستقلين»، واعتبرت مع الجوقة الإعلامية الملازمة لها أن دفعهم للمشاركة في الانتخابات من مؤشرات توسيع القاعدة الشعبية والانفتاح السياسي. وقامت بإغفال زياراته الدورية للسفارات الغربية، والأميركية على وجه التخصيص، وحيثياتها وسبر نتائج الحوارات التي تتم فيها.
وهي الحالة عينها التي أنتجت وسوقت طبيباً من ريف دمشق، عرف كناشط في الحالة الافتراضية المسماة «ربيع دمشق» الذي حدد تاريخه ما بعد حزيران 2000، افتراضية لكونها تأسست على رهان من طرف واحد حملّه هؤلاء «الربيعيون» أوهامهم المبنية على العهد الجديد، بمثاقيل رغباتهم الذاتية التي ترنحت عادة بين قطبي التشاؤم والتفاؤل. أعتقل هذا الطبيب مع مجموعة من الناشطين في أيلول/سبتمبر 2001 وأطلق سراحه في أيلول/سبتمبر 2004. سافر في خريف 2005 إلى واشنطن، ودعا من هناك إلى قصف دمشق بالطيران الأميركي، مقدماً نفسه كدليل عسكري، مستلهما سير أحمد الجلبي وكنعان مكية وسواهما، التي سبقت الاحتلال الأميركي للعراق ومهدت له إعلامياً، متوهماً معرفته بتوزع القوات العسكرية وتدرجات أهميتها في الجيش، بافتراض أن الأجهزة العسكرية والمخابراتية الأميركية التي يعمل لمصلحتها مئات الأقمار الصناعية وآلاف الجواسيس الميدانيين، تحتاج لإرشادات هذا الطبيب. اعتقل فور وصوله إلى مطار دمشق، وأفرج عنه في 2011.
لا يهم من دفع هذا «الناشط» للقيام بجولته الأميركية التي التقى خلالها رجالات في الخارجية الأميركية والمخابرات المركزية ووزارة الدفاع، ومَن صمت عن نتائجها وتباكى عليه بعد عودته واعتقاله على الفور في مطار دمشق، وسوّقه كـ«مناضل ديموقراطي»، واعتبر قضيته من أولويات القضايا الديموقراطية، ومدخلاً من مداخلها، وأن أي نقد له ولجولته يشكل «خدمة للسلطة الحاكمة».
ولا يهم كذلك من صمت عن تصريحاته في العام 2014 ومقالاته التي يسوق فيها للحوار مع العدو الصهيوني وإبرام معاهدة سلام... لأن الحالة التي كان أحد ممثليها تهاوت في الحضيض الوطني والسياسي والأخلاقي. حالة هذا الناشط وسواه من صغار الناشطين (بافتراض أن لهم كباراً)، أتت كنتيجة لمتغيرات الأوضاع في المنطقة العربية بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وتعززت بعد عدواني تموز 2006 الصهيوني على لبنان وغزة في مفصل 2008-2009، التي برز في سياقها النقيضان التاريخيان: المقاومات الشعبية/ العملاء السافرون أو الذين رشحوا أنفسهم للعمالة، وهم عملاء بجهوزية تامة لخدمة الأعداء الوطنيين.
قد كانت مشكلتهم ـ ولمّا تزل ـ أن المخابرات الأميركية ومراكز قرارها السياسية/ العسكرية لم تقتنع بهم، ربما لفشل نظرائهم وغياب مصداقيتهم في العراق ولبنان وفلسطين، ولأنها تمتلك رؤية أوسع لمصالحها من هذه الصغائر التي لا ينفك هؤلاء العملاء الجاهزون عن تقديمها لهم بسخاء قل نظيره.
(...) وهناك سوى هؤلاء مما لا يجوز تناول سيرهم اليوم، لظروف قاسية يمرون بها، وقد تتعلق بمصائرهم. ولكن الشدة التي قد تطرأ على بعضهم بسبب تقاطع في العلاقات وسوء تفاهمات، لا تمحو ما فعلوه ومعانيه، والحاجة لتفحصه.. في ما بعد.
من أبرز الصعوبات التي واجهت التجربة الثورية السورية وساهمت في تقويضها في آن، هو وقوعها المبكر بين قوتين تتسابقان على إنتاج الأضاليل والأكاذيب، بنذالة قلّ نظيرها... قوة مثّلها الإعلام السلطوي وكانت شبه مقاطَعة لسقوطها المتواصل في امتحانات المصداقية، وقوة جديدة أثارت ضرب من أمل افتراضي يساهم في سبر الحقائق والتدثر بها، فتبين أنها مرتبطة بنسق محكم من العلاقات المالية والمخابراتية والإعلامية.. وظفته للتنافس مع الأولى، وعجزت أن تكون بديلاً شعبياً ثورياً عنها.
في هذا الظلام، تُخفى عن عمد سير شبان وشابات، عبروا كسيوف من لهب في ليل يُمانع الصبح.. رُمي بهم في أعماق التراب أو فوقه لتنهشهم الضواري، أو خلف الأسوار العالية، لتنهشهم ضوارٍ من نمط آدمي.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..