كيف صار المغرب ملاذ المهاجرين الروس

نشر الزوجان سوخوف كتابين مرجعيين، الأول بعنوان "تاريخ الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين"، والثاني "الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين – معجم بيوغرافي"، حيث قضيا في العمل سبع سنين في المغرب، أتبعاها بسبع أخرى في موسكو، قبل أن ينشرا نتائج بحوثهما.
2020-04-24

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
كنيسة القيامة المقدسة (الروسية الارثودوكسية) في مدينة الرباط.

الهجرة الروسية إلى المغرب من المواضيع التي لم تكن مطروقة بشكل مستقل من قبل، فقد كان البحث في الهجرة يتوقف عند حدود بنزرت التونسية، التي شكل مرفأها الملجأ الأخير لأسطول الإمبراطورية الروسية. شغل موضوع المغرب الدكتور نيقولاي فاديموفيتش سوخوف، المرشح في العلوم التاريخية، الباحث الأول في مركز الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، الذي قضى نحو خمسة عشر عاماً في جمع الوثائق الرسمية والمذكرات الشخصية والقصاصات، وزيارة الأرشيفات المختلفة وسجلات الكنائس والمدافن، وإجراء المقابلات، ومقارنة النتائج، وكانت مساعدته العلمية، زوجته الباحثة يلينا سوخوفا. وبنتيجة هذا العمل الطويل، الذي انطلق سنة 2005، نشر الزوجان سوخوف كتابين مرجعيين، الأول بعنوان "تاريخ الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين"، بقلم نيقولاي، والثاني "الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين – معجم بيوغرافي"، بقلميهما معاً، حيث قضيا في العمل سبع سنين في المغرب، أتبعاها بسبع أخرى في موسكو، قبل أن ينشرا نتائج بحوثهما. وكان يفترض، لولا الأزمة العالمية التي نمرّ بها، أن يتزامن النشر مع الاحتفالات التي كان من المنوي تنظيمها، في العام الحالي، في روسيا الاتحادية والمهاجر الروسية، أو ما يعرف بـ"العالم الروسي"، لمناسبة مرور مئة عام على انطلاق الموجة الأولى من الهجرة الروسية مع اندلاع الحرب الأهلية الروسية (1918 - 1921)، إثر الثورة البلشفية.

تتبّع المعجم البيوغرافي مصائر أكثر من ألف مهاجر روسي، أثروا وتأثروا في المجتمع المغربي، كثيرون منهم كان أثرهم قد اختفى، لاسيما وأن أسماء بعض العائلات تغيرت مع الزمن. أما البحث فأتى اجتماعياً، وعلى طول الفترة الزمنية المستعرضَة، وركز على تطور العلاقات المتبادلة بين الروس والمغاربة، وعلى خلفية المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسة، التي حدثت في كل من المملكة المغربية والاتحاد السوفياتي السابق، "تركزت مجموعة من العوامل الدولية والمحلية في التأثير على العلاقات الإنسانية بين روسيا والمغرب، وهي لا تزال تؤثر فيها إلى اليوم. وعلى الرغم من كون الجالية الروسية كانت تشكل دائماً جزءاً صغيراً من سكان المملكة المغربية، إلا أن مساهمتها في إنشاءات اقتصادية للبلاد كانت مهمة للغاية. وأحد الجوانب المهمّة في العلاقات يكمن في التفاعل الثقافي بين روسيا والمغرب، وخاصة عبر اللغة والثقافة الروسيتين".

لماذا المغرب؟

هجر أكثر من مليون روسي بلادهم فراراً من فظائع الحرب الأهلية، التي أزهقت أرواح نحو ثلاثة عشر مليون نسمة، ولم تنته عملياً حتى عام 1923، أي بما سمي ب"المناوشات"، والتي كانت عبارة عن أعمال انتقام ضد المدنيين. عندما استتب الأمر للجيش الأحمر بقيادة تروتسكي، وجرى إخماد آخر معاقل مقاومة البيض في القرم، كان مئات آلاف اللاجئين يهيمون على وجوههم في أوروبا (لمن استطاعوا النفاذ إليها براً)، والشرق الأدنى (تركيا، سوريا، لبنان) للوافدين بحراً. وقد تأخر لاجئو الحرب الأهلية في الوصول إلى المغرب من سنتين إلى بضع سنوات، خاصة المتعلمين منهم، متسلحين بمعرفتهم باللغة الفرنسية وبشهادات وخبرات علمية خاصة في مجالات الهندسة المدنية والطبوغرافيا والمساحة. فوفدوا بمعظمهم عبر فرنسا نحو الجنوب، بالإضافة إلى أشخاص لم يحالفهم الحظ في العمل تحت الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، فانتقلوا إلى المغرب.

كانت الهجرة الروسية إلى المغرب كثيفة طوال القرن العشرين، وتألفت من مجموعات تمثل قطاعات مختلفة من المجتمع الروسي. يتحدث الكاتب عن أولئك "اللاجئين الذين غادروا روسيا في الفترة التي تلت عام 1917، عن قصص هؤلاء الناس، وانتصاراتهم وهزائمهم في مواجهة الحياة على أرض أجنبية، والطريقة التي دمجوا فيها، في وعيهم الشخصي والاجتماعي، قيمهم الثقافية مع السكان المحليين، وكيف انعكس ذلك على مصائر أولادهم وأحفادهم. موضوع هذا البحث يمثل ببساطة ملئاً لفراغ معرفي ضروري عن مواطنينا في القارة الإفريقية". وما لا يقل أهمية عن ذلك، المصير التاريخي والمدني لمجموعة أخرى من الروس المهاجرين، الذين وفدوا من بلدان إفريقيا والشرق الأوسط إلى المغرب في القرن العشرين، الذين يسمون بـ"الروس الأفارقة". وهم ينتمون إلى:

• الجناح العسكري في الحركة البيضاء الروسية، أو ما عرف بفلول الجيش الأبيض، أو بالبيض بشكل عام، الذين قاتلوا الجيش الأحمر على أراضي الإمبراطورية الروسية إثر الثورة البلشفية، ثم فروا مع عائلاتهم بعد هزيمتهم، وحافظوا بأشكال مختلفة على أطرهم العسكرية، لمدة عقدين من الزمن في المنافي، مشكّلين نواة الهجرة الروسية. ثم شارك عدد منهم مجدداً في الأعمال العسكرية إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقبل هجوم جيوش هتلر على الاتحاد السوفياتي، فخدموا في ما عرف بـ "جيش التحرير الروسي" ("حركة تحرير شعوب روسيا") تحت ألوية النازية، ولم يقتصر عديد هذا الجيش على الروس بل استقطب المناوئين للبلاشفة من قوميات سوفياتية مختلفة. وبعد هزيمة النازية كان مصيرهم الهرب إلى مواطن استقرار الموجة الأولى.

• الفيلق الروسي الذي نشط خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تغير اسمه بين 1941 و1944 أكثر من مرة، (من 2 أيلول/ سبتمبر 1941 "الفيلق الروسي المنفصل"، من 2 تشرين الأول/ أكتوبر 1941 "فيلق الأمن الروسي"، من 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1941 "مجموعة الأمن الروسية"، من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1942 "فيلق الأمن الروسي في عداد قوات الدفاع النازية – الفيرماخت"، من 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1944 "الفيلق الروسي في صربيا"، من 31 كانون الأول/ ديسمبر 1944 "الفيلق الروسي"، وقد استخدم في كتابة اسمه رسمياً الإملاء الروسي القديم) – وهو عبارة عن وحدة عسكرية تشكلت من المهاجرين الروس، الذين قاتلوا ضد ثوار تيتو الشيوعيين في يوغوسلافيا في فترة الحرب العالمية الثانية. خدم في هذا الفيلق 17090 شخصاً، وتحول نحو أحد عشر ألفًا وخمسمئة منهم إلى مهاجرين.

• أسرى الحرب السوفيات في المعسكرات النازية من الضباط الاختصاصيين واللوجستيين وأصحاب الخبرات في الآلات الحربية وتقنيات الدعم من الرتباء والجنود، الذين انتهى بهم الأمر خلال الحرب العالمية الثانية في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، للإفادة منهم في الأعمال العسكرية النازية والفاشية في مواجهة الحلفاء. وبعد هزيمة النازية استقروا هناك مؤقتاً، على الرغم من حملات الملاحقة العقابية التي نظمتها أجهزة الاستخبارات السوفياتية باعتبارهم "أعداء الشعب السوفياتي"، وكذلك أجهزة الحلفاء، الذين كانوا قد وقعوا اتفاقية مع الزعيم السوفياتي يوسف ستالين سبقت الانتصار في 1945، لاسترداد جميع المواطنين السوفيات الذين وصلوا إلى أراضيهم إبان فترة الحرب العالمية الثانية. وقد ساهم الحلفاء إلى حد بعيد في قمع الأسرى السابقين، وتسليم كثيرين منهم إلى السلطات السوفياتية، إلى أن بدأت فترة الحرب الباردة. لكن العائدين إلى "أرض الوطن" لم ينظر في كونهم كانوا أسرى حرب مجبرين على العمل لدى النازيين. على سبيل المثال، تشير وثائق 1945 – 1946 السوفياتية إلى أنّ عمليات إعدام جماعية نُظمت للمواطنين السوفيات الذين حملتهم السفن البريطانية إلى ميناء أوديسا. وقد أدت الأخبار الواردة إلى الروس في المهاجر المختلفة، ومنها المغرب، عن المصير الذي يلقاه العائدون إلى الاتحاد السوفياتي إلى سبل مختلفة في التخفي، ومنها تغيير الأسماء وأسماء العائلات وإلتماس الحماية من المجتمعات المحلية، أوتغيير أماكن الإقامة بشكل مستمر.

• مجموعات المدنيين السوفيات الهاربين من الغزو الألماني لأراضي الاتحاد السوفياتي، الذين تمكنوا من الفرار عبر البحر الأسود خلال فترة اجتياح جنوب أوكرانيا، القرم، وجنوب روسيا.

• مجموعات من المواطنين السوفيات، الذين تركوا بلادهم طواعية مرافقين انسحاب وحدات "فيرماخت" (قوات الدفاع النازية) من الأراضي التي كانت تحتلها، والتي كانت قد أعلنت أراض مستقلة عن الاتحاد السوفياتي. أطلق على هؤلاء اسم "أوسترابايتر". وقد حصلوا في نهاية الحرب العالمية الثانية على وضع "الأشخاص النازحين قسراً"، على الرغم من خروجهم بإرادتهم. بعد انتهاء الحرب حاول الاتحاد السوفياتي توقيع اتفاقيات مع دول عدة لاستردادهم.

موجات الهجرة

يربط الباحثان الفترة الزمنية المدروسة للهجرة الروسية إلى المغرب عموماً بالتسلسل الزمني لبدء توافد الروس إلى هذه البلاد خلال القرن العشرين. تنقسم الهجرة من روسيا والاتحاد السوفياتي إلى ثلاث موجات رئيسة، يطلق عليها عادة الهجرات الأولى، والثانية، والثالثة، وتكمن وراء هذه الموجات الثلاث أسباب سياسية.الموجتان الأوليان من الهجرة كانتا قسريتين، نتجتا عن فترات الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية والحرب العالمية الثانية. أما الموجة الثالثة فهي هجرة طوعية، حدثت في فترة الحرب الباردة. بطبيعة الحال، هذا تقسيم متفاوت في تطابقه مع الواقع، فتدفقات الهجرة كانت تضعف حيناً ثم تزداد حدة أحياناً، إلا أنّها لم تتوقف أبداً.

كانت الهجرة الروسية إلى المغرب كثيفة طوال القرن العشرين، وتألفت من مجموعات تمثل قطاعات مختلفة من المجتمع الروسي.

هجر أكثر من مليون روسي بلادهم فراراً من فظائع الحرب الأهلية، التي أزهقت أرواح نحو ثلاثة عشر مليون نسمة، ولم تنته عملياً حتى عام 1923.

في ما يتعلق بالمغرب، يمكننا القول إن الموجتين الأوليين من الهجرة تتوافقان مع التصنيف المحدد، مع أنهما تأخرتا من حيث التوقيت المفترض من ثلاث إلى خمس سنوات. أما الموجة الثالثة فتختلف اختلافاً كبيراً عن التقسيم، وهي ليست إثنية أو سياسية، بل قائمة على النوع الاجتماعي (الجندر)، وقد تشكلت من الزيجات المختلطة بين آلاف الشبان المغاربة الذين أنهوا دراستهم الجامعية في جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي، والشابات الروسيات والسوفياتيات.

المهاجرون الروس ومصائرهم

أثرت عوامل خارجية باستمرار على تطور الجالية الروسية في المغرب، مثل الأزمات الاقتصادية ونضال المغاربة ضد الاستعمار ومحاولاتهم لنيل الاستقلال من الهيمنة الفرنسية، وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثيقة مع الاتحاد السوفياتي، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وسياستي السلطتين المغربية والروسية تجاه بعضهما البعض في المرحلة الأخيرة. أما من حيث عوامل التطور الداخلي للجالية، فينصب الاهتمام على تكوين الاجتماعي والمهني أولا، والديناميات الديموغرافية، وطرق تكيف الأفراد في المجتمع المضيف، وعمليات هيكلة المؤسسات، ومشاركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فيها. كان المغرب أحد المراكز الرئيسة للهجرة الروسية في شمال إفريقيا، فكان لا بد للباحثَين من أن يدرسا عمليات التكيف الاجتماعي لأفراد هذه الجالية المتكونة في المجتمع المغربي بكل تنوعه طوال القرن العشرين. وحاولا عبر ذلك فهم دور وحيّز الهجرة الروسية على المغرب في التفاعل بين ثقافتي البلدين والشعبين. فبعد دراسة الأماكن التي وصل منها المهاجرون وهي "بوابات المغرب الشمالية"، و"الفيلق الأجنبي"، أي العسكريين الذين يخدمون في التشكيلات الروسية المناهضة للسوفيات، درسا خصائص مجتمع المهاجرين والمجتمع الكنسي والجمعيات الأهلية وقرى المهاجرين ومعيشتهم، ثم التفاعل مع المجتمع المضيف والعلاقات الإنسانية مع المغاربة.

إن ما كان يحتاج إلى وضعه تحت المجهر، هي مواقف المهاجرين الروس في المغرب إبان فترة الحرب العالمية الثانية، ووصول موجة ثانية من الهجرة إليهم، ما استدعى مسارات مختلفة في التأقلم لدى مهاجري هذه الموجة، خاصة بين المعادين والموالين للسوفيات، وانقسام المجتمع المهاجر. على صفحات الكتاب الأول، "جرت محاولة توثيق عملية تشكّل الجالية الروسية في المغرب في دينامياتها التاريخية ومكوناتها الرئيسة، واستعرضت مشكلات التكيّف واندماج المهاجرين الروس والسوفيات في المجتمع، وتمظهرات أنشطتهم وهياكلها التنظيمية، ودورها في تطوير العلاقات الإنسانية بين البلدين بما يتوافق مع التصنيفات الحديثة. وقد أفضت الدراسة إلى التحقيق في مشكلات التأقلم الاجتماعي لدى الجالية الروسية في المجتمع المضيف بكل تنوعه على مدار قرن من الزمن، وحددت أماكن الهجرة الروسية على الخريطة المغربية ودورها في التفاعل بين ثقافتي البلدين والشعبين".

مدينة الدار البيضاء في سنوات 1950.

يبدأ الخط الزمني الذي غطته الدراسة بشكل مركز مع وصول العسكريين البيض إلى المغرب العربي وينتهي مع وصول النساء السوفياتيات المتزوجات من طلاب مغاربة أواسط ستينيات القرن العشرين. فالدراسة وإن كانت تتناول بشكل جزئي كيفية تقبل ممثلي الموجتين الأوليين للزيجات الروسية المغربية المختلطة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، إلا أنها تتتبع أحوال مهاجري الموجتين الأوليين ومصائرهم، سواء أكان المغرب محطة من محطات الشتات الروسي الكبير للبعض أو بات الوطن البديل لغالبيتهم، فذابوا في المجتمع المغربي. وهنا تتألق الباحثة يلينا سوخوفا في العمل التوثيقي، مستحقة أن يسبق اسمها اسم زوجها على غلاف المعجم البيوغرافي للهجرة الروسية. فكتاب نيقولاي سوخوف يضيء على الخطوط العريضة لمسارات الهجرة ويحددها ويتناول آثار التأقلم والاندماج المجتمعي للمهاجرين، أما المعجم كدراسة مستقلة، فتتألف عينتها من نحو ألف روسية وروسي من بين عشرات آلاف المهاجرين الروس إلى المغرب.

"البنزرتيون الروس"

صيف عام 1921، رسى أول سرب تابع للأسطول الإمبراطوري الروسي في ميناء بنزرت التونسي، حاملاً على متنه ستة آلاف شخص، نصفهم من الفلاحين والعمال والقوزاق، وفق تقرير الصليب الأحمر الروسي، أما النصف الآخر فهم ضباط البحرية وأفراد أسرهم، إلا جانب المهندسين والأطباء والمحامين والكهنة والموظفين الحكوميين والطلاب. قبل انتهاء العام 1921، انتقل إلى المغرب نحو 250 شخصاً من البحارة المتعلمين وعاملي البناء والميكانيكيين والكهربائيين والسائقين...، بموجب عروض عمل قدمها مسؤول الإدارة الفرنسية في المغرب (113 عرض عمل). كانت الإدارة الفرنسية في تونس تحفز الروس الوافدين على الرحيل إلى بلدان أخرى لصعوبة العثور على عمل لهم في تونس، وكانت تضطر إلى دعم اللاجئين على نفقتها، فيما كان الميناء يستقبل أعداداً متزايدة منهم. وهكذا انتقل العديد من "البنزرتيين الروس" إلى فرنسا بين عامي 1922 و1923، وإلى الجزائر بين عامي 1922 و1926 ومنها إلى فرنسا بين عامي 1935 و1940. إلا أنهم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية في اوروبا والوضع المتدهور في الجزائر، اضطروا للبحث عن فرص حياة جديدة في المغرب، ملتحقين بمن سبقهم إلى هناك، فقد وفر الوضع الاقتصادي والسياسي في المغرب في ذلك الوقت ظروفاً مادية أفضل للعيش مما كانت عليه الحال في فرنسا نفسها أو في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا.

قطع من الأسطول الروسي القيصري في ميناء مدينة بنزرت التونسية.

في الوقت عينه، كان عشرات آلاف المحاربين الروس قد انضموا إلى تشكيلات الفيلق الأجنبي بنسختيه الفرنسية والإسبانية، وكانوا يخوضون معارك الحروب الاستعمارية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. كثيرون منهم قضوا في خدمة المستعمِرين. تشهد على الجانب المغربي من هذه القصة عبارة الأسقف الأرثوذكسي ميتروفان زنوسكو بوروفسكي: "عام 1920، بعد ترك شبه جزيرة القرم، شارك نحو خمسة عشر ألف جندي روسي، تحت لواء فيلق فرنسا الأجنبي، تاركين وراءهم العديد من القبور الروسية في مقابر المغرب العسكرية، في الصحراء الكبرى وجبال الأطلس، أما الباقين على قيد الحياة فقد استقروا في المغرب بعد فترة الخدمة، وباتوا جزءًا من المجتمع الأرثوذكسي، بل جزءاً من المجتمع المغربي، كتجار صغار وحرفيين وعمال، انضموا إلى المهندسين والأطباء وأصحاب المهن الحرة الأخرى.

لسوء الحظ، ليس من الممكن بعد تحديد حجم الجالية الروسية في المغرب في مراحل مختلفة من تاريخها. فما كتبه الأسقف الروسي في الرباط غينادي غيروف عن أنه "في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين كان يعيش في الرباط خمسة آلاف روسي فقط، وكان هناك أكثر من ثلاثين ألفًا في جميع أنحاء البلاد"، ويرجح الكاتبان أن هذا الرأي قد لا يتوافق مع الواقع، ولا يمكن في تلك الفترة تحديد حجم الجالية الروسية بالأرقام، فما يصدق على الرباط لا يصدق على جميع نواحي المغرب. فبسبب الجمع بين العوامل الجغرافية والسياسية والاقتصادية، استغرق تكوين الجالية الروسية في المغرب فترة طويلة نسبيا (من 1922 إلى 1940) مقارنة مع البلدان الأوروبية.

توزع المهاجرين

بحلول منتصف الخمسينيات، بات من الممكن التحدث عن النمط الحالي لإعادة توطين ما لا يزيد عن ثلاثين ألفًا من الروس الوافدين من أوروبا ما بعد الحرب. وأتى التوزيع على الشكل التالي: أغادير 1.7 في المئة، أزرو (في الجبال بالقرب من فاس) 0.6 في المئة، بورنازيل 40.5 في المئة، مازاغان (الجديدة) 1.2 في المئة، مراكش 7.5 في المئة، الدار البيضاء23.1 في المئة، ضواحي الدار البيضاء الأخرى 1.7 في المئة، القنيطرة (بورت ليوت) 1.7 في المئة، أوجدا 2.3 في المئة. عاش الباقي حيث كان هناك عمل - في أماكن لا يمكن إيجادها بسهولة على خريطة المغرب الحديث. وكانت التركيبة الاجتماعية للموجة الثانية من الهجرة غير متجانسة. كان هناك العديد من ممثلي التعليم العالي، ومن المهن الهندسية والإبداعية. في الوقت نفسه، كان هناك العديد من الأشخاص الحاصلين على تعليم ثانوي، بدون مؤهلات، وقد حصلوا على عمل بأجر منخفض. كان وضع مهاجري هذه الموجة أواخر أربعينيات القرن العشرين معقداً بسبب بعض العوامل الإضافية التي تتعلق بعلاقاتهم بألمانيا النازية، أو حصولهم على صفة "لاجئين قسراً"، أو وصمهم بخيانة الحلفاء. ويفسر ذلك إلى حد كبير الاختلافات الملحوظة في المصير المدني والمهني للمهاجرين في المغرب.

كما أثرت الحالة النفسية الداخلية لجزء من المهاجرين - أسرى الحرب السابقين - على قدرتهم على التكيف. عاش المهاجرون ببساطة، حاولوا أولاً الحفاظ على أنفسهم. أعادوا إنشاء كنيستهم الخاصة، حديقتهم العامة، ومدرستهم الروسية الخاصة، وكل ما ساعد في الحفاظ على التوازن النفسي. لم يدخلوا في اتصال وثيق مع الفرنسيين والعرب، وحبسوا أنفسهم في وسطهم.

تجدر الإشارة إلى أن هناك حاجزاً ملحوظاً بين ممثلي الموجتين، فمهاجري الموجة الأولى الذين استقروا في الرباط وأغادير وطنجة وكازابلانكا كانوا قد غدوا مغاربة – فرنسيين بالفعل، يشعرون بأنهم على قدم المساواة مع الفرنسيين، يتحدثون ويتعاملون بالفرنسية حصراً، وحركتهم الاقتصادية والمالية مرتبطة بالمغرب، أما المهاجرون الذين وصلوا إلى المغرب بعد الحرب العالمية الثانية فلم يشعروا بذلك، بل نظروا إلى الفرنسيين (وإلى أفراد الموجة الأولى ضمناً) على أنهم "سادة" هذا البلد. وتشكلت ردة الفعل الجماعية لديهم كما عبروا عنها بالرغبة في الحفاظ على هويتهم الثقافية "الروسية" ، لحماية أنفسهم وأطفالهم من تأثير الثقافة الفرنسية، ما أخّر كثيراً اندماجهم في المجتمع المغربي، وسهّل ترك أبنائهم المغرب باتجاه الغرب.

كتابا الباحثين يلينا ونيقولاي سوخوف

لا يخفي الباحثان سوخوف أن القضايا المتعلقة بتاريخ الروس في المغرب تتطلب مزيداً من الدراسة. وقد تجمعت لديهما مجموعة كبيرة من الوثائق الأرشيفية غير المجهزة التي تسلط الضوء على جوانب مختلفة من وجود المجتمع الروسي في القرن العشرين. وأن كتابيهما يشكلان نقطة انطلاق علمية نحو مقاربة أكثر عمقاً لجانب كان مخفياً من حياة المهاجرين الروس في المغرب العربي، فاستمرار البحث له أهمية علمية كبيرة.

للكاتب نفسه