لبنان في مواجهة كوفيد-19: كارثة إضافية؟

تُعرّي أزمة كوفيد-19 النظام اللبناني فعلياً، إذ تكشف تسيّب وفساد طريقة الإدارة السياسية والاقتصادية التي سادت بالأخص منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990)، وأوجه القصور المؤسساتية، وخاصة "قانون الإهمال" فيما يتعلق بالبنى التحتية العمومية، بدءاً بخدمات الرعاية الصحة المتوفرة، وإمكانية التمتع بها.
2020-04-13

لولوة الرشيد

باحثة واكاديمية مستقلة، مختصة بشؤون المشرق العربي


شارك
هاني زعرب - فلسطين

يسجل لبنان في الوقت الراهن عدداً محدوداً نسبياً من الإصابات بمرض كوفيد-19. ومع ذلك، فلقد فرضت السلطات تدابير وقائية صارمة على خلفية من الجدل، ومن الشكوك في التكتم على العدد الحقيقي للحالات المصابة. في المقابل، لم تستطع هذه السلطات تفادي الانزلاق نحو إدارة طائفية للأزمة (أحزاب سياسية ومرجعيات دينية)، وبشكل أعم، "تسييس" انتشار فيروس كورونا المستجد، إذ تبلورت الاحتقانات بين الطوائف، والمزايدات الدينية حول البحث عن "المريض رقم صفر". سارعت وسائل إعلام سعودية وفروعها / أبواقها في الساحة اللبنانية بالتنديد بفيروس "إيراني" زاعمة أن مواطنة لبنانية شيعية كانت قد أدخلته إلى البلاد إثر عودتها، يوم 21 شباط/ فبراير، من رحلة إلى مدينة قم المقدسة في إيران. فرّد المعسكر المناصر لإيران بأن قسّاً يسوعياً عائداً من الفاتيكان، كانت قد ثبتت إصابته بالفيروس، هو المتسبب في نشوء بؤرة وبائية في محيط إرسالية يسوعية شرق بيروت.

إلى حدود منتصف شهر نيسان/ أبريل تم إحصاء 600 إصابة بالفيروس، وعشرين حالة وفاة. وتم التركيز على حجّة مطمئنة لتفسير هذا الانتشار الضعيف للفيروس: نسبة الذين تفوق أعمارهم 64 عاماً لا تتعدى 7 في المئة من سكان لبنان حسب إحصائيات سنة 2018. والحال أن هذه الفئة العمرية هي التي تسجل الأغلبية الساحقة من حالات العدوى والوفيات التي أحصيت في العالم إلى حد اليوم. لكن هذا لا يمنع أن المخاطر عالية إذا ما أخذنا في الحسبان القدرات المحدودة للنظام الصحي، والقرب من بؤر العدوى الرئيسية مثل إيران والبلدان الأوروبية التي عادة ما يكون تدفق الأشخاص والسلع بينها وبين لبنان كثيفاً.

أزمة داخل الأزمة

يشكل وباء كوفيد-19 أزمة داخل الأزمة اللبنانية، إذ تضاف الأزمة الصحية إلى المأزق السياسي والأزمة الاقتصادية. وكانت "حكومة التكنوقراط" التي يقودها رئيس الوزراء حسان دياب قد خلفت حكومة سعد الحريري الذي حُشر في الزاوية، وأجبر على الاستقالة بضغط من "الحراك" الشعبي الاحتجاجي الواسع الذي اندلع في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. غير أن الحكومة لا تمتلك لا السلطة الكافية، ولا الإمكانيات اللازمة لمواجهة هذا الوضع الطارئ. وكمثال فإن قناة تلفزية خاصة ("أم. تي. في") كانت قد سبقت الحكومة في إعلان التعبئة العامة في كامل أرجاء البلاد ودعوة السكان إلى ملازمة بيوتهم.

إعلان حالة الطوارئ كان سيمنح السلطة المطلقة لقائد الجيش، الجنرال جوزيف عون، الذي لا يحوز على رضا "حزب الله" وحليفه الرئيس ميشال عون نظراً لتعاطفه مع "الحراك" وكذلك لقربه من الولايات المتحدة الأمريكية التي توفر سنوياً دعماً تقنياً ومالياً للقوات المسلحة اللبنانية.

في مرحلة أولى، أغلقت السلطات المدارس والحضانات والجامعات (2 آذار/ مارس) وبعدها الأماكن العمومية: مطاعم، حانات، دور عبادة، الخ (11 آذار/ مارس). ثم فرضت الحجر الصحي على السكان، ومنعت وصول الرحلات الجوية القادمة من 11 بلدا، من بينها الصين وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وإيران والعراق ومصر (15 آذار/ مارس). وتوّج هذا الإجراء بإغلاق الحدود البرية ومطار رفيق الحريري الدولي في بيروت (18 آذار/ مارس) قبل إقرار حظر تجوال ليلي (21 آذار/ مارس) وفرض نظام تناوب للسير وفق أرقام لوحات تسجيل العربات (6 نيسان/ أبريل).

الوقائع

تراهن استراتيجية الحكومة اللبنانية، قبل كل شيء، على التوقي بهدف إبطاء تفشي العدوى وتفادي بلوغ الوباء ذروته. لا يوجد أي بديل آخر بالنظر إلى محدودية قدرات قطاع الصحة العمومية فيما يتعلق بإجراء الاختبارات للكشف الفيروسي والتعهد بالمرضى من جهة، وسياق الهشاشة الاقتصادية البالغة التي يعيشها الناس من جهة أخرى.

- النظام الصحي في لبنان ليس فقط مجزأ، بل هو أيضاً متحررٌ بشكل كبير من ضوابط ولوائح السلطات الصحية. ويفسَّر هذا الأمر بهيمنة قطاع خاص قوي ومتنفذ على النظام. فلبنان الذي فرض نفسه كقطب للسياحة العلاجية في الشرق الأوسط يتميز بقطاع طبي خاص مرتفع التكلفة، وتجاري، وقطاع عمومي مُفقَر ومنهك يعاني من وصمة عدم الكفاءة في عيون الناس. يوجد في البلاد 128 مستشفى خاص، مقابل 32 مؤسسة عمومية. ومع ذلك حلّ لبنان في المرتبة 33 من بين 195 دولة وردت في ترتيب مؤشر التمتع بالرعايةالصحية وجودتها، متقدماً على إسرائيل وتايوان، وملاصقاً للولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية وكذلك عدة بلدان أوروبية (بريطانيا، البرتغال، إستونيا).

- يخصص لبنان 8 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي لقطاع الصحة، لكن الدولة لا تساهم إلا بحدود الثلث، فيما تغطي شركات التأمين الخاصة والصناديق التي تمولها المساهمات الفردية (ومن بينها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) ثلثاً آخر، ويدفع المرضى أنفسهم الثلث المتبقي.

فرض لبنان نفسه كقطب للسياحة العلاجية في الشرق الأوسط، وهو يتميز بقطاع طبي خاص مرتفع التكلفة، وتجاري، وقطاع عمومي مُفقَر ومنهك يعاني من وصمة عدم الكفاءة في عيون الناس. يوجد في البلاد 128 مستشفى خاص، مقابل 32 مؤسسة عمومية.

- تقلصت مساهمة الدولة بمقدار 7 في المئة بسبب إجراءات التقشف في موازنة سنة 2020. علاوة على ذلك، تدين الدولة بمبالغ ضخمة للقطاع الاستشفائي الخاص تحت عنوان متأخرات مستحقات علاج الموظفين، خاصة من منتسبي القوات المسلحة. وعلى الرغم من دفعات السداد التي صرفتها الحكومة مؤخراً، فإن هذه المتأخرات تهدد عدة مستشفيات خاصة بالإفلاس، خاصة تلك الأصغر حجماً.

- لا يوجد في لبنان مختبر مركزي عمومي، ولا منظومة عمومية حقيقية للمراقبة الوبائية أو لجمع المعطيات الصحية ومعالجتها، مما يزيد في صعوبات إحصاء وكشف الحالات المصابة بعدوى كوفيد-19. في أواخر شهر آذار/ مارس عممت وزارة الصحة منشوراً يطلب من الأطباء والمستشفيات ومختبرات التحاليل الطبية في القطاع الخاص إبلاغها بحالات العدوى المرصودة عبر البريد الإلكتروني أو تطبيقة "واتساب"، وهو أمر اعتبر بمثابة اعتراف بالعجز. وفي أغلب الأحيان، تستند الأرقام المتداولة إلى وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تبث فيديوهات حول حالات العدوى الجديدة، وتفسح المجال واسعاً لمن نصّبوا أنفسهم خبراء.

- التداخلات السياسية في إدارة قطاع الصحة قوية، خاصة فيما يتعلق بسير المستشفيات العمومية. وتفاقمت هذه النزعة بسبب التنافس بين الطوائف التي تسعى كل واحدة منها للحصول على أكبر نصيب من اعتمادات الموازنة لمستشفيات مناطقها. تم اختيار وزير الصحة الحالي، حمد حسن، من قبل "حزب الله"، مما يعرّضه بصفة مستمرة لانتقادات خصوم الحزب، حتى وإن اعتبرت شريحة هامة من الرأي العام أن إدارته للأزمة الصحية مرضية.

- يبلغ عدد أسرّة الاستشفاء المتوفرة في كامل أرجاء البلاد 15 ألف سرير، منها 12 ألفاً يوفرها القطاع الخاص. وتم اختيار المستشفى الجامعي الحكومي "رفيق الحريري" في بيروت ليكون المركز الرئيسي للفحص، وإجراء الاختبارات، والتعهد بالمصابين بفيروس كوفيد-19. وإذا ما كان هذا المستشفى قد استطاع تأمين مئة سرير لهؤلاء المرضى، فإنه يعتمد على منظمة الصحة العالمية لتأمين مستلزمات أخذ العينات، كما أن مخزونه من الأدوية والعتاد الطبي ذاب في الأشهر التي سبقت ظهور الوباء. وفي ظل غياب الإمكانيات اللوجستية، قام المستشفى أيضاً بإيكال مهمة نقل المرضى المشتبه في إصابتهم بالعدوى إلى الصليب الأحمر اللبناني. من جهتها، زودت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) مراكز الرعاية الصحية الأساسية بأدوات طبية للتعقيم والوقاية.

لا يوجد في لبنان مختبر مركزي عمومي، ولا منظومة حقيقية للمراقبة الوبائية أو لجمع المعطيات الصحية، مما يزيد في صعوبات إحصاء وكشف الحالات المصابة بعدوى كوفيد-19. والتدخلات السياسية في إدارة قطاع الصحة قوية، خاصة بما يتعلق بالمستشفيات العمومية. وتسعى كل واحدة من "الطوائف" للحصول على أكبر نصيب من اعتمادات الموازنة لمستشفيات مناطقها.

- المستشفيات الجامعية الخاصة الأربع الكبيرة (وهي كلها في بيروت) هي التي يعول عليها، بالأخص، للعب دور محوري في حالة بلوغ الوباء ذروته: المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت، أوتيلديو دو فرانس، المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية/ مستشفى رزق، ومستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس. وتمكنت هذه المؤسسات، التي تتمتع بإمكانيات مادية أكبر، من تخصيص 350 سريراً لمرضى كوفيد-19، وهي تساهم في تدريب الطواقم الطبية العاملة في القطاع العام.

- يمتلك لبنان عدداً قليلاً من أجهزة التنفس الاصطناعي، 900 جهاز تقريباً، تّم تخصيص 10 في المئة منها فقط للمرضى المصابين بفيروس كوفيد-19. وجلّ التجهيزات الطبية المخصصة للحماية مستوردة نظراً لغياب أيّة طاقة إنتاجية محلية. ومع الأزمة الاقتصادية يصبح الاستيراد أمراً صعباً جداً. يذوب المخزون بسبب تجفيف احتياطي العملات الصعبة والقيود البنكية: كان لبنان يستورد معدات وقاية فردية بما قيمته 15 مليون دولار كل ستة أشهر، لكن هذا الرقم تناقص ليصبح في حدود 4 ملايين دولار أواخر سنة 2019 نظراً للأزمة الاقتصادية. ونتيجة لهذا، تزدهر السوق السوداء، وترتفع الأسعار بشكل رهيب.

- التمتّع بالرعاية الصحية محدود. فقرابة نصف سكان البلاد لا تتوفر لهم أيّة تغطية طبية كانت، عمومية أو خاصة.

- استطاعت وزارة الصحة أن تفرض على أكبر أربع مستشفيات جامعية خاصة تعرفة موحدة لاختبارات الكشف عن الإصابة بفيروس كوفيد-19 (كانت مختبرات التحاليل الطبية الخاصة تعتمد تعرفة أعلى بعدة أضعاف)، لكن شركات التأمين ما زالت إلى حد الآن تتنصل من صرف تعويضات للمرضى، متعللة بكون الجائحة حالة قوة قاهرة لا يشملها التأمين. وسط هذه المفاوضات العسيرة التي تشمل أيضاً النقابة القوية لأصحاب المستشفيات الخاصة، تظهر الوزارة كمجرد وسيط، عاجزة عن فرض أنظمة ولوائح أزمة على مهنيي الصحة.

- صرف البنك الدولي مساعدات مالية طارئة بقيمة 40 مليون دولار في شكل قرض لوزارة الصحة. تخصص هذه الاعتمادات لشراء المعدات الطبية من أجل المستشفيات الحكومية التي تمت تعبئتها في مواجهة كوفيد-19. في الواقع، ليست هذه المساعدات إلا إعادة تخصيص لجزء من قرض قيمته 120 مليون دولار أُقر في إطار "مشروع تعزيز النظام الصحي". كما طلب لبنان مساعدة صندوق النقد الدولي الذي كان قد دخل معه في مفاوضات من أجل تمويل الخطة التي وضعها لإنقاذ الاقتصاد وإصلاح الدولة.

يبلغ عدد أسرّة الاستشفاء المتوفرة في كامل أرجاء البلاد 15 ألف سرير، منها 12 ألفاً يوفرها القطاع الخاص. يخصص لبنان 8 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي لقطاع الصحة، تساهم فيها الدولة بحدود الثلث، فيما تغطي شركات التأمين الخاصة، والصناديق التي تمولها المساهمات الفردية ثلثاً آخر، ويدفع المرضى أنفسهم الثلث المتبقي.

- وبسبب الخشية من عدم توفر معونة خارجية مستعجلة، أنشأت وزارة الصحة صندوقاً خاصاً بمكافحة فيروس كورونا. لكن هذا الصندوق الذي تتأتى مداخيله من تبرعات اللبنانيين، المهاجرين بالأخص، والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية أو الدول الأجنبية، لم يُحصّل إلا مبالغَ متواضعة.

استعار الزبائنية والطائفية السياسية

تُعرّي أزمة كوفيد-19 النظام اللبناني فعلياً، إذ تكشف تسيّب وفساد طريقة الإدارة السياسية والاقتصادية التي سادت منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990) خصوصاً، وأوجه القصور المؤسساتية، وخاصة "قانون الإهمال" فيما يتعلق بالبنى التحتية العمومية، بدءاً بخدمات الرعاية الصحة المتوفرة، وإمكانية التمتع بها. وعلى الرغم من كونها قد تشكلت من وزراء تكنوقراط، فإن الحكومة الحالية تبقى حبيسة التوازنات الحزبية والطائفية نفسها، ورهينة لدى الأوليغارشية السياسية - الاقتصادية التي تسندها وتدعمها. كما أن هامش المناورة لديها تآكل أكثر بسبب أزمة متعددة الأبعاد، يعيشها البلد منذ خريف 2019، كشفها "الحراك" عندما طالب بإعادة صياغة شاملة للنظام الطائفي الذي أوصل الدولة إلى الإفلاس.

في الواقع، بلغ الدين السيادي 179 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في بداية سنة 2020، مما دفع إلى التوقف عن دفع جميع سندات "اليوروبوند" المستحقة، وهذه سابقة في تاريخ البلاد. تجفيف احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية أدى بدوره إلى تهاوٍ حاد لقيمة الليرة اللبنانية في السوق الموازي ونهاية - بحكم الأمر الواقع - ربطها بالدولار وفق سعر صرف ثابت منذ 1997. وزاد بلوغ معدل التضخم بنسبة مكونة من رقمين (قدرت ب25 في المئة لسنة 2020) وكذلك الانكماش الهائل، في اختناق اقتصاد ضعيف الإنتاجية ضخّمه قطاع الخدمات، البنكي بشكل أخص، ومبني كلياً على الواردات. حتى البنوك اللبنانية التي كانت تسجل أرباحاً فلكية منذ أواسط سنوات 1990 تشارف اليوم على الإفلاس، إذ تبلغ قيمة ما تحوزه من سندات الدين السيادي سبع مرات ونصف قيمة مواردها المالية الخاصة، هذا بالإضافة إلى قروض القطاع الخاص المشبوهة، خاصة في مجال البناء والعقارات.

وباتت هذه البنوك تعالج مشكلة شح السيولة بتحميل آثارها، بطريقة تعسفية، للمودعين عبر فرض قيود صارمة على سحب الأموال بالدولار والتحويلات إلى الخارج. ومنح وباء كورونا، كما حصل مع حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر، حجة أخرى لهذه البنوك حتى تغلق أبوابها، وتُأخر أكثر ما يمكن اللحظة التي يجب فيها أن يتم تقاسم الخسائر الهائلة بين المساهمين والمودعين.

التمتع بالرعاية الصحية محدود. فقرابة نصف سكان البلاد لا تتوفر لهم أيّة تغطية طبية كانت، عمومية أو خاصة. وكان لبنان يستورد معدات صحية بما قيمته 15 مليون دولار كل ستة أشهر، لكن هذا الرقم تناقص ليصبح في حدود 4 ملايين دولار أواخر سنة 2019 نظراً للأزمة الاقتصادية. ونتيجة لهذا، تزدهر السوق السوداء وترتفع الأسعار بشكل رهيب.

من جهتها، لا تمتلك الحكومة أيّة خطة اقتصادية لتجنب الكارثة الاجتماعية، وتدارك عواقب التوقف شبه الكامل للنشاط. في الحقيقة لا يسمح الانخفاض الحاد لإيرادات الدولة (والتي تم فعلاً تقديره بنسبة 40 بالمئة لسنة 2020) بإقرار أيّة سياسة إعانة للعاطلين عن العمل والفئات السكانية الأضعف، باستثناء التوزيع المخصوص لمساعدات مالية متواضعة وحصص غذائية. وبالنسبة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، فتترك الحكومة الأمر للمنظمات الدولية (منظمة الصحة العالمية، الأونروا، اليونيسف، الخ). أما القطاعات المنكوبة مثل التجارة والفنادق والمطاعم التي ضربتها الأزمة بشكل مباشر وقاس، فلا يمكنها التعويل إلا على مواردها الذاتية. كما يهدد وقف الإنتاج وتقلص الواردات المؤسسات الصغرى بالإفلاس المتسلسل.

وفي مثل هذا السياق، لا يمكن للوباء إلا أن يصب في مصلحة النظام السياسي الطائفي الذي يضيّق خناقه على المجتمع اللبناني. فلقد تسبب من جهة في وقف حركة الاحتجاجات، إذ استغلت الحكومة الحجر الصحي لتفكيك الخيام التي نصبها المتظاهرون في وسط بيروت، وكذلك طرابلس كبرى مدن شمال لبنان. ومن جهة أخرى مكّن عجز مؤسسات الدولة الزعامات الطائفية، وأجهزتها الحزبية، من ترميم وتلميع صورتها عبر فرض نفسها، من جديد، كبديل وحيد. وبالفعل أظهر هؤلاء سرعتهم الفائقة في تعبئة مواردهم اللوجيستية، وتوجيه تدفقات الأعمال الخيرية نحو مكافحة الوباء، وقدموا مساعدة معتبرة للمجتمع. وكل هذا ينعش الطبيعة الزبائنية للنظام اللبناني، ويجعلها أكثر حيوية من ذي قبل.

وكان حزب الله، الذي يمتلك إمكانيات ضخمة وخبرة كبيرة في تأطير المجتمع، أول من أعلن عن تدابير استعجالية، وذلك على لسان أمينه العام حسن نصر الله. ففي مرحلة مبكرة، قامت "الهيئة الصحية الإسلامية"، وهي هيكل حزبي يشرف على مستشفيات ومستوصفات، بالإضافة إلى فريق طبي وشبه طبي يتكون من 24500 شخص من بينهم 1500 طبيب و3000 ممرض (أرقام قدمها الحزب)، بإنشاء مركز اتصال وتجهيز خيمات طبية، وكذلك توزيع كتيبات إرشاد حول وباء كوفيد-19. وتمّ فحص المسافرين القادمين من إيران (كوادر الحزب، رجال أعمال، سياح الخ) ووضعهم في الحجر الصحي في أماكن أُعدّت للغرض، وهي في أغلب الأحيان فنادق استأجرها الحزب. كما تم عزل عدة قرى، يشتبه بانتشار الوباء فيها، عن بقية البلاد. واستكملت هذه التدابير بحملات تعقيم للشوارع، والفضاءات العامة في الضاحية الجنوبية للعاصمة وجنوب البلاد وسهل البقاع (وهي مناطق نفوذه، وتسكنها غالبية من الشيعة).

وسارت القوى السياسية الأخرى، مثل "حركة أمل" الشيعية و"التيار الوطني الحر" (حزب الرئيس ميشال عون) و"القوات اللبنانية" التي يقودها سمير جعجع، على خطى حزب الله، معتمدة على منظماتها (دفاع مدني، منظمات غير حكومية، منظمات خيرية، كشافة، الخ) أو عبر البلديات التي تسيطر عليها. كلّ هذه القوى نظمت حملات تعقيم، ووزعت مطهرات الأيدي الكحولية ومواد غذائية على ضعاف الحال أو المحجورين صحياً، كما وفرت عتاداً طبياً للمستشفيات الموجودة في معقل كل واحدة منها.

في هذا الوضع لا يمكن للوباء إلا أن يصب في مصلحة النظام السياسي الطائفي الذي يضيّق خناقه على المجتمع اللبناني. فلقد تسبب من جهة بوقف حركة الاحتجاجات، ومن جهة أخرى مكّن عجز مؤسسات الدولة الزعامات الطائفية، وأجهزتها الحزبية، من ترميم وتلميع صورتها عبر فرض نفسها، من جديد، كبديل وحيد. وهذا ينعش الطبيعة الزبائنية للنظام اللبناني.

وبلا شك، نتج عن كل هذا تقسيم لمجال البلاد يذكرنا بسنوات الحرب الأهلية. فخوفاً من العدوى انغلقت المناطق أمام الآخر الطائفي الذي صار يعتبر "أجنبياً" فضلاً عن كونه تهديداً. وهكذا منحت مجموعات شبه حكومية نفسها صلاحيات قوات حفظ النظام، فأقامت حواجز، وراقبت السكان (فحص درجة حرارة الجسم) في مداخل ومخارج مناطقهم المعزولة. وبالتالي سيكون من الصعب على الحكومة أن تتدخل في هذه المناطق، عند اكتشاف بؤر وبائية، بدون موافقة قيادات الأحزاب السياسية. حتى المرجعيات الدينية، خاصة الدرزية والمارونية، عززت مكانتها وحضورها.

خارج هذه الدوائر والقنوات، يتحرك المجتمع المدني بقوة، ويعيد تنشيط أشكال تضامن بديلة. تجمع المنظمات غير الحكومية والجالية اللبنانية في العالم، بالأخص المقيمة في الولايات المتحدة، والتي تتحرك عبر منظماتها الخاصة (سيل، بيت البركة، بنك الغذاء اللبناني...) الأموالُ، وتوزع المساعدات على الأشخاص الأكثر فقراً.

الجهود الحزبية والطائفية أو المدنية، وإن كانت جديرة بالثناء، فهي لن تكون كافية لامتصاص صدمة كوفيد-19 ما لم تتم إعادة هيكلة الدين العام والاقتصاد وتغيير طريقة الإدارة السياسية. لا يمكن للعائلات التي تعول على الاقتصاد غير المهيكل والعمل اليومي لتحصيل قوتها، أن تتحمل حجراً صحياً طويل الأمد. البطالة والفقر السابقان لانتشار الفيروس يتفاقمان الآن بشكل كبير. وبحسب المصادر المعتمدة، نجد أن 40 إلى 50 في المئة من سكان لبنان هم تحت خط الفقر. وهذا الأمر يمثل للحكومة اللبنانية قنبلة موقوتة حقيقية، قد تجعل من فيروس كورونا مجرد ظاهرة عارضة وثانوية في رحلة عبور الكوارث التي تنتظرها.

*ترجمه من الفرنسية: محمد رامي عبد المولى

مقالات من لبنان