إطلالات العمة فاطمة

رغم أن لا أحد ينتظرها هناك أو يرافقها كما في سنوات خلت، ما انفكت تأتي الحديقة، التي صار أكثر من نصفها مسوراً بأسلاك شائكة وممنوعاً على الزوار، ومكاناً لانتشار الجنود بألبستهم المموّهة وأسلحتهم الحربية. تفتح سحاب حقيبتها أمام الحاجز، يجسّها العسكري الشاب من الخارج ثم يدسّ يده في داخلها، ويتمتم لرئيسه: كأنها لا تحوي سوى المناديل الورقية المطوية وكأس خزفي... يغلقها ويدفعها نحوها، تقبض عليها
2014-03-05

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
نهاد الترك ـ سوريا

رغم أن لا أحد ينتظرها هناك أو يرافقها كما في سنوات خلت، ما انفكت تأتي الحديقة، التي صار أكثر من نصفها مسوراً بأسلاك شائكة وممنوعاً على الزوار، ومكاناً لانتشار الجنود بألبستهم المموّهة وأسلحتهم الحربية. تفتح سحاب حقيبتها أمام الحاجز، يجسّها العسكري الشاب من الخارج ثم يدسّ يده في داخلها، ويتمتم لرئيسه: كأنها لا تحوي سوى المناديل الورقية المطوية وكأس خزفي... يغلقها ويدفعها نحوها، تقبض عليها بأصابعها النحيلة، تنزل الدرجات المائلة، وتتابع بخطوات متمهّلة نحو مقعدها الذي ما زال محافظاً على لونه الأخضر الغامق. تتريّث قبل الجلوس، لتخرج منديلاً قماشياً، وتمسح خشبه المتوازي، كما كانت تمسح منذ زمن مائدة الطعام في بيتها، بعد انفضاض أولادها الشبعانين إلى كتبهم المدرسية. تجلس محاطة بشجيرتين من فصيلة المرجانيات. تضع في حجرها حقيبتها السوداء، التي بدأت تتآكل أطرافها مظهرة بطانتها البيضاء. ترفع رأسها ببطء، إلى أعالي أشجار الصنوبر، لترى ما يُرى في هذي الصباحات المتعاقبة: انثلام الأفق الضئيل بخفقات أجنحة الغربان، والعجز عن رتقه الحنون بأجنحة عصافير الدوري.
تنتظر، وتتلفت من حين لآخر بعينيها الرماديتين إلى آخر الممرّ لتتأكد من هوية القادمين بخطوات متمهلة، رغم يقينها أنه لن يأتي أحد ليشاركها المقعد والكلام، وكأن هؤلاء العابرين لا يريدون الجلوس، يكتفون بالسير المنتظم الذي يقودهم إلى آخر الممرات، ثم يعودون من الطريق ذاته، نافثين دخان سجائرهم في الهواء الراكد، متمتمين بكلام غير مفهوم وكأنهم يحدثون أنفسهم.تسحب قدمها من حذائها بحركة لاإرادية، لتحك برؤوس أصابعها الملمومة بجوارب من النايلون الشفاف، ساقها الأخرى المطويّة بخفر إلى تحت المقعد، في استعادة لحركة قديمة، حين كانت تجثو طويلاً على حافة المقعد الخشبي، في كنيسة «آسيا الحكيم» في حي الصليبة الكبرى، حينما كان المسلمون يأتون الكنائس والمزارات، والمسيحيون ينامون في الجوامع ويوزعون أرغفة الخبز أمام أضرحة أولياء الله.
تجثو لتهدج في أدعية وصلوات لا تنتهي إلا بانطفاء الشموع وتبدد دخان البخور، ودعوة خدم الكنيسة إلى ضرورة الخروج قبل إغلاق الأبواب. كانت تحني رأسها وتسبل جفنيها، وتتمتم بطلبات المغفرة عن ذنوب لم ترتكبها والصفح عن هنات لم تعبر بها، وتدعو لأولادها أن يزدادوا عافية، وأن يصلوا إلى ما كان يسمّى أعلى المراتب، وأن يمسكوا التراب لينقلب من فوره بين أصابعهم ذهباً. ربما لأنها وسيلتها الممكنة للتحرر من عالم الشقاء الذي عجزت عن تفسيره، بالانفتاح على عالم احتمالي، يكون دثاراً دافئاً لصقيع أوجاعها المستمرة، ولإعادة نقل أحمال أمنياتها وأحلامها التي لم تتحقق كما تمنّت، ووضعها على أكتاف أولادها.
يحتاج جلوسها الطويل في الحديقة إلى مرآة صغيرة، كانت قد اعتادت وضعها مع قلم أحمر شفاه «وولز» وزجاجة عطر «نينا ريتشي» وحزمة من المناديل الورقية المعطرة، لترى تمام البياض في شعرها الذي بدأ يفقد كثافته أيضاً، إرتجافات شفتيها المتواصل، التغضنات العميقة في جبهتها، الهالات الغامقة حول عينيها. وما لن تراه أبداً، انكماش قلبها كسفرجلة جافة، وانسدال الستائر الشمعية على أبوابه ونوافذه، والعبور المتأني للدم في أوردته وشرايينه.
تتوزع أمامها أحواض المياه الساكنة، التي طالما ابتهجت لمنظرها الليلي، وهي تلتهب بالأضواء الملونة والنوافير الصاعدة، ترشق بدفقات رذاذها المنعش الوجوه الملتهبة في أوائل أمسيات شهر آب. هي جافة الآن، يُظهر البورسلان الأبيض والسماوي عمقها الشحيح، ويعبرها أولاد النازحين من الأحياء الشرقية كما يعبرون الشارع.
كانت أحواضاً من سنوات قريبة، يتحلق الزوار حولها، ويستأذنها أولادها للركض في محيطها، في سباقات لا تنتهي، إلا باستراحات لاهثة لتجرع الماء، وتجفيف العرق، وتناول لفائف الخبز المحشوة بشرائح الجبن ومربى المشمش. وحين تتنبّه بعد أن ترفع رأسها عن لوحة «الكانفا» أو عن أسياخ صوف «الأنغورا»، إلى تحديقات الرجال الخشنين وإشاراتهم المريبة، بالأصابع والشفاه والحواجب، تتذكر أنها ليست وحيدة، فترفع كفها إلى حدود وجهها وتحركها كأنها تُبعد سرب ذباب، وتنادي على أولادها بأسمائهم، وهم حينها جندها المخلصون، فيهرعون من أطراف أحواض المياه وخلف الأجمات، ليطوقوها كسوار من فولاذ، ويتمسحوا بها كتمثال. وكانوا لا يعلمون أنهم وحدهم حماة هذه «الأم الجميلة»، المتروكة وحيدة في أرباض مدينة ما فتئت تتوسع، مبقية خلفها ماضياً شقياً، عاجز عن التذكر والنسيان في آن.
وفي تضميد جراح الأولاد، القادمين بتثاقل ودموع، من سحاجات الإسفلت الخشن، والسقطات من فوق أغصان أشجار الصنوبر التي تسلخ أصابعهم وركبهم وتتركها جروحاً نازفة، وبذاك الزحف اللاهث على العشب والتراب الجاف، ليقلدوا ما يرونه في الأفلام التي صنعت بعجالة عن «الفدائيين الفلسطينيين»... ممزقين بناطيلهم المصنوعة من أقمشة «التريفيرا» و«التركال» سريعة التلف، تتهيأ فرصتها للتعرف على أجسادهم التي بدأت تنمو، ولتقميطها بحزمة من الدعاءات الحنونة، ومسحة قطنة مبللة بـ«الدواء الأحمر» وقليل من «البوردة» لتلتئم. بعدها لم تعد تلتئم، لا للنقص في الأدوية والأدعية، بل لكونها صارت أعمق من قدرتهم على الشفاء.
بعدها بسنوات، أخذت بجاذبية «فاتن حمامة». تسريحة شعرها القصيرة، كلامها المتأني والصارم، ابتسامتها السمحة، قدرتها على كتم مشاعرها، والحجْر عليها في صندوق حديد. وبدأت تمشي بمحاذاة أولادها المتحلقين حولها، والذين صاروا بطولها، مطيلة كعب حذائها بضع سنتيمترات، مغدقة على شعرها تجارب الجماليات النسوية المتقشفة، برفعه قليلاً وتثبيته بالـ«فيكساتور»، بارتداء القمصان من ذوات النصف كم، والتنانير التي تُسامت الركبتين، ووضع أحمر الشفاه بألوانه النارية، وخيط من الكحل الأسود، ليزيد من بهاء عينيها وبزوغهما المضيء. يختارون طاولة طرفية في مقهى الحديقة يسورون كرسيها، ليحدثوها عن دراستهم الجامعية والكتب المفضلة، والزميلات اللاتي يجذبهن الشبان الطالعون من الأفلام السينمائية، والفرق الغنائية. وتنصت بمزاج رائق وترتشف فنجان قهوتها على مهل «كبروا أخيراً، وصارت لهم همومهم». لكنهم تسرّبوا من يديها المضمومتين إلى صدرها، ولاذوا بديار الأرض الواسعة، كما تسرب أبوهم قبلهم ليغوص في حقول القمح والقطن، وتعاقب المواسم والخسارات... والأوهام، ليختنق في البرية بسعال كبريائه، وخجله من مواجهة انكساره أمام أسرته وأقاربه، فيحمله الفلاحون مع بزوغ الفجر فوق بطانية صوفية، ويهرعون إليهم في المدينة، ليبكوه معاً، ويدفنوه قرب أبويه.
تبقى شرفة بيتكِ أجمل من الحديقة التي باتت زيارتها تتعبك، تقول قريبتها الأقل كهولة، وهي تشير إلى الشرفة العريضة النظيفة، المزينة بأصص الزهور وشتلات الورود وشجيرات الفل، والديوانة الحديدية المطلية بالأبيض والمركونة بمحاذاة الجدار، والطاولة المغطى سطحها بأطلس كالح، طرزت حوافه المنسدلة بزهيرات ونجوم. تنظر في وجه محدثتها من دون أن تنطق، تملأ فنجاني القهوة على مهل، ترد بعدها بصوت خفيض، كأنها تحدث نفسها: أين ذهب دعائي، ودعاء سواي، ها إننا نمسك الذهب، فينقلب في أيادينا تراباً! وأين تكون أعلى المراتب، هنا أم فوق وترفع كلتا يديها إلى السماء، أم هناك وتشير إلى الأفق البعيد، حيث مضى أولادها تباعاً، ولم يعودوا.
رغم أن لا أحد ينتظرها في الحديقة، التي بات أكثر من نصفها مسوراً بأسلاك شائكة وممنوعاً على الزوار، تحمل حقيبتها وتمضي، علها تسمع نداء أولادها الراكضين نحوها من خلف الأكمات: «يا ماما انجرحت إيدي»، واضعين أكفهم الممدودة أمامها كمتسوّلين.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..