الكورونا في تونس: فيروس مستجد وأمور قديمة..

كان "يجب" أن يأتي الوباء لكي يفهم الجميع مدى فداحة سياسات الدولة منذ بدأت تتحول تدريجياً، مع أواسط ثمانينات القرن الفائت، من "الرعاية" إلى شرطي مرور يؤمن ويسهّل الطريق أمام المستثمرين والمضاربين وكل من لديه القدرة على الشراء والسمسرة.
2020-04-06

شارك

"حكاية فارغة كيف إنفلونزا الخنازير هاك العام، شركات الدواء خوفتنا باش تربح المليارات"، "الصين بعيدة آلاف الكيلومترات"، "الكورونا لا تختلف كثيراً عن نزلة برد"، "هذا الفيروس لا يؤثر إلا على المسنين"، "سينتهي الأمر مع قدوم الربيع وارتفاع درجات الحرارة"، "الله يعاقب الصين لاضطهادها مسلمي الإيغور"، إنها "مؤامرة أمريكية على الصين"، "هي خدعة صينية لضرب الاقتصاد العالمي".. الخ. هذا بعض ما كان يروّج في الشارع التونسي وعلى "حيطان" فيسبوك إلى حدود آخر أيام شباط/ فبراير الماضي. بعدها بأقل من شهر سيجد أغلب التونسيين أنفسهم مجبرين على ملازمة بيوتهم إثر فرض الحجر الصحي شبه الشامل في النهار وحظر التجوال في الليل، خوفاً من وباء أوقف كل المشاريع والبرامج وفرض أولويات جديدة على الدولة، كما على المجتمع..

وفي مواجهة هذه الجائحة العالمية، تتعدد أساليب المقاومة والتوقّي في تونس، وتتبدى حقائق ويظهر ضعف البشر، وكذلك عزمهم وصبرهم. تكشف الأزمة عن مدى "جمال" بعض الأرواح وطرافتها، وبالطبع ترينا مدى قبح وتعفن أرواح أخرى..

دولة "الرعاية" عارية، والحكومة مجتهدة ومرتبكة ومنحازة.. في آن

يعرف أغلب التونسيين ما يعيشه قطاع الصحة العمومية من تدهور كبير منذ سنوات، سواء من حيث اهتراء البنى التحتية ونقص الموارد البشرية وشح التجهيزات الثقيلة والمتطورة، أو سوء توزيعها بين مختلف مناطق البلاد.

الكل يعرف أيضاً أن القطاع الصحي الخاص تغوّل في السنوات الأخيرة مستغلاً تخلي الدولة تدريجياً عن قطاع الصحة وتردي خدماتها. لكن كان "يجب" أن يأتي الوباء لكي يفهم الجميع مدى فداحة سياسات الدولة منذ بدأت تتحول تدريجياً، مع أواسط ثمانينات القرن الفائت، من "الرعاية" إلى شرطي مرور يؤمن ويسهّل الطريق أمام المستثمرين والمضاربين وكل من لديه القدرة على الشراء والسمسرة. ومع بداية انتشار عدوى الكورونا في البلاد، بدأت الأرقام الفصيحة تحكي عن الفضيحة: فقط 250-300 سرير إنعاش في المشافي العمومية (ومثلها تقريباً في المصحات الخاصة والعسكرية)، و11 مليون ساكن تقريبا. ويتوزع أكثر من 90 بالمئة من هذه الأسرة على أربع محافظات من جملة 24 محافظة. مخبرين لتحليل العينات الفيروسية يتركزان في العاصمة تونس. وبعد ضغوط من المهنيين والرأي العام، تمّ الإذن بفتح مخابر في ثلاث محافظات أخرى: منستير وصفاقس وسوسة، حيث تتركز كليات الطب والمستشفيات الجامعية.

لكن، وعلى الرغم من هذا الوضع المزري، تبذل الدولة عبر مؤسساتها السياسية والإدارية والصحية، مجهودات محترمة - باعتبار الإمكانيات المتاحة - لتخفيف انتشار العدوى وتوفير الرعاية للمصابين المؤكدين أو المحتملين. أعلن عن أول إصابة بمرض كوفيد-19 يوم 2 آذار/ مارس، وبعد شهر من ذلك الإعلان بلغ عدد المصابين 452 حالة مؤكدة، أما الوفيات فعددها 14. وقد بلغ عدد الاختبارات التي أجريت 5130، وعدد حالات الحجر الصحي الوقائي 16245 أكملت الفترة، و2673 ما زالوا في الحجر (أرقام 2 نيسان/ أبريل).

بادرت السلطات التونسية، منذ تفشي المرض في الجارة الأوروبية إيطاليا أواخر شهر شباط/ فبراير، إلى تركيز كاميرات مراقبة حرارية في المطارات الرئيسية، وتوزيع قصاصات على الوافدين على البلاد، من المقيمين فيها والسياح، حتى تكوّن قاعدة بيانات لأشخاص مشتبه في إصابتهم.

هناك فقط 250-300 سرير إنعاش في المشافي العمومية (ومثلها تقريباً في المصحات الخاصة والعسكرية)، ل11 مليون ساكن تقريباً. ويتوزع أكثر من 90 بالمئة من هذه الأسرة على أربع محافظات من جملة 24 محافظة. مَخبرين لتحليل العينات الفيروسية يتركزان في العاصمة تونس.

ومع تفاقم الأمر في إيطاليا وأوروبا بصفة عامة، بدأت الاستراتيجيات تتطور وتصبح أكثر تشدداً، فالدولة أكثر من يعلم أنه في حال تزامنت إصابة آلاف المواطنين بالكورونا فسيعجز النظام الصحي عن مداواتهم. كان الخيار واضحاً: تسطيح منحنى الإصابات أكثر ما يمكن والاستباق. من جهة لا يجب أن يتجاوز عدد الحالات الخطيرة عدد أسرّة الإنعاش المتوفرة، ومن جهة أخرى أن تتقدم بخطوة أو خطوتين على الفيروس: عندما تكون البلاد في المرحلة الثانية من انتشار الوباء، تُتخذ تدابير وإجراءات المرحلة الثالثة وحتى الرابعة.

قررت الحكومة إغلاق كل المؤسسات التعليمية منذ يوم 11 آذار/ مارس، ثم فرضت على المقاهي والمطاعم والأماكن العمومية المشابهة إغلاق أبوابها، وبعدها المساجد. وأعلن رئيس الجمهورية حظر التجوال ليلاً، ابتداء من يوم 17 آذار/ مارس، وإغلاق المطارات والموانئ (باستثناء رحلات إجلاء التونسيين العالقين في الخارج)، وصولاً إلى فرض الحجر الصحي العام في 22 آذار/ مارس لمدة أسبوعين (ومُدّدا بأسبوعين إضافيين) باستثناء بعض الإدارات والمرافق العمومية والمؤسسات الخاصة التي اعتبر نشاطها حيوياً (مع تقليص ساعات العمل).

وبما أن انتشار الوباء له تأثيرات مادية واجتماعية، فلقد أقرت الحكومة أيضاً جملة من التدابير لتخفيف وطأة تعطل الدورة الاقتصادية. إجراءات شملت الطبقات الأفقر وتلك الأكثر ثراء، وتجاهلت الطبقات الوسطى التي تتبخر كل عام أكثر (باستثناء إمهال الموظفين من 3 إلى 6 أشهر لتسديد أقساط قروضهم البنكية). فمثلاً تم تخصيص منح محدودة القيمة للعائلات الفقيرة، وللعمال اليوميين الذين أحيلوا على البطالة التقنية الإجبارية، وحزمة تدابير لدعم المؤسسات الخاصة: إعادة جدولة للديون، تخفيض لقيمة فوائد القروض البنكية، توفير سيولة نقدية لمنحهم قروضاً جديدة، إعفاءات وقتية من دفع الضرائب والمساهمات في صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي، الخ. ويمكن القول أن أغلب الإجراءات تصب في مصلحة أرباب العمل وتفترض أنهم الفئة الأكثر تضرراً من الأزمة، فالدولة تعفيهم من المساهمة في تكلفة مواجهة الوباء و"تشتري" لهم "السلم الاجتماعي".

انحياز الحكومة للأثرياء ليس الإخفاق الوحيد. فعلى الرغم من كل مجهوداتها في تسخير إمكانيات الدولة لمكافحة الوباء وخطاباتها "المطمئنة"، فهناك حقائق على الأرض تبعث على القلق وحتى الخوف. مثلاً لم توفر الدولة وسائل وتدابير الوقاية اللازمة للعاملين في قطاع الصحة، حتى الأدوات والمواد الأساسية كالكمامات الطبية ومواد التعقيم لم تكن موجودة بالقدر الكافي، وإن بدأت الأمور حالياً في الانفراج نسبياً بعد ضغط من المهنيين والرأي العام. كما أن الاستراتيجيات الوطنية التي وضعت لمكافحة الوباء كانت نظرية ومتفائلة أكثر من اللازم إذا ما نظرنا إلى واقع القطاع الطبي للبلاد. ويتحدث المهنيون عن ضبابية بعض الإجراءات وعدم توحيدها على مستوى وطني، ويتخوفون من احتمال أن يكون عدد الإصابات المؤكدة أكبر بكثير من المعلن بسبب النسق البطيء في إجراء الاختبارات. ويؤخذ على الحكومة وأجهزة الدولة تأخرها في إغلاق المطارات والموانئ أمام الرحلات غير الضرورية، وكذلك تراخيها في فرض الحجر الصحي على العائدين من الخارج.

وبعيداً عن قطاع الصحة، هناك مشاكل كبيرة في ضمان وصول المواد الغذائية الأساسية بصفة منتظمة وعادلة إلى مختلف مناطق البلاد. حتى المنح والإجراءات التي رصدت للطبقات الفقيرة قد تتسبب في كارثة. فمن أجل الانتفاع من هذه المنحة يجب أن يتقدم طالبها بطلب إلى عمدة المنطقة، وإن كان من بين المشمولين بها، فيجب عليه الذهاب إلى مركز البريد حتى يحصل عليها. النتيجة: آلاف مؤلفة من البشر تقف في صفوف متلاصقة ومتزاحمة أمام مقرات العُمَد والبريد، بلا إجراءات وقاية طيلة ساعات وساعات. وهذا قد ينسف كل ما سبق من جهود لتسطيح منحنى العدوى.

بعض الإخفاقات يمكن أن يبررها "سوء حظ" الحكومة. فلقد تمت المصادقة على تركيبتها يوم 27 شباط/ فبراير بعد أشهر من المناورات. أي أنها وجدت نفسها مباشرة في قلب المعمعة مع إرث ثقيل من المديونية والتضخم واهتراء القطاع العام. كما أن النظام السياسي في تونس يعطل أحياناً السلطة التنفيذية فهو يوزع السلطة بشكل غير متساوٍ بين المؤسسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، الحكومة، والبرلمان.

رأس المال بلا كمامات ولا قفازات..

"تحبونا نتبرعو، قصّوهم من الضرائب"، إذا أردتم أن نقدم تبرعات فيجب أن تخصموها من الضرائب. هكذا تحدث سمير ماجول رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، أكبر وأقدم منظمة أرباب عمل في تونس، في التليفزيون على الهواء مباشرة بلا حياء.. ولا رياء.

الله "يرحم" أيام الديكتاتورية عندما كان أرباب العمل يتسابقون لنيل رضا النظام والحكومة، ويدفعون مليارات حتى يكونوا من أصحاب الحظوة لدى المسؤولين. أما الآن، وبعد أن حررتهم انتفاضات ودماء الفقراء من سطوة "النظام القديم" لتجعلهم المتحكمين في "النظام الجديد" والمنتفعين منه، فقد صاروا يبتزون الدولة والمجتمع.

على الرغم من الجهود المميزة للحكومة، إلا أن أغلب الإجراءات تصب في مصلحة أرباب العمل وتفترض أنهم الفئة الاكثر تضرراً من الأزمة، فالدولة تعفيهم من المساهمة في تكلفة مواجهة الوباء و"تشتري" لهم "السلم الاجتماعي".

حتى المنح والإجراءات التي رصدت للطبقات الفقيرة قد تتسبب في كارثة. فمن أجل الانتفاع من هذه المنحة يجب تقديم طلب إلى عمدة المنطقة، والمشمولين بها عليهم الذهاب إلى مركز البريد للحصول عليها. والنتيجة صفوف متراصة من مئات الناس امام تلك المراكز.

حتى قبل أن يُعلَن الحظر الصحي الشامل، وعندما كان الناس يتخوفون من أن ينتشر الوباء في البلاد، بدأ أصحاب الأعمال و"خدمهم" من "خبراء" اقتصاديين وإعلاميين في الحديث عن الخسائر المحتملة للمؤسسات (وهي أساساً "نقص في الأرباح"ليس إلاّ) وعن عدم قدرتهم على دفع أجور العمال والموظفين، مهددين الناس بالبطالة والإفلاس، وضاغطين على الحكومة حتى تضع برنامج إنقاذ للمؤسسات. ولقد أثمرت ضغوطهم.

وعندما أحدثت الدولة صندوقاً لجمع تبرعات لتمويل جهود قطاع الصحة في مكافحة الوباء، تلكأ أصحاب المؤسسات الكبرى، وبعد ضغط وإحراج كبيرين من الرأي العام، بادروا بالتبرع بمبالغ مخجلة - مقارنة بالأرباح التي يجنونها وبحجم معاملاتهم. ولما نظمت إذاعات وقنوات تلفزية عمومية وخاصة، سباقاً تبرعياً ("تيليتون")، يوم 20 آذار/ مارس الموافق لعيد الاستقلال، لم يبذل أصحاب الثروات الكبيرة جهداً صغيراً لإخفاء مدى استخفافهم بما يحدث حولهم. يتصلون بالهاتف ليعلنون عن التبرع بمبالغ، ويستغلون مرورهم للقيام بالدعاية لمؤسساتهم والثناء على مالكيها، ثم يستغلون الفرصة حتى يطلبوا من الدولة التدخل لإنقاذ "الاقتصاد" (أرباحهم) ويضغطون على هذا الوزير أو ذاك لاستثناء هذا القطاع أو ذاك من مقتضيات إيقاف العمل والحجر الصحي العام.

ولقد قامت مئات المؤسسات بمواصلة العمل رغم أنها لم تصنف كقطاعات أساسية كما وضّحها مرسوم القرار الحكومي، بل وقام بعضها بتهديد العمال بالطرد أو الخصم من الأجور. وهذا الابتزاز ليس بالغريب أو الجديد، فكلما عاشت البلاد ظروفاً صعبة، كما حدث بُعيد انتفاضة 2011 أو بعد سلسلة الهجمات الإرهابية والاغتيالات السياسية التي ضربت البلاد في فترة 2012-2015، طالب هؤلاء بمخططات إنقاذ ورسملة لمؤسساتهم وإعفاءات ضريبية وتحفيزات أخرى حتى لا ينهار الاقتصاد (أرباحهم) ويحال مئات الآلاف على البطالة.

الدولة، التي أصبحت رهينة فعلية لدى أقلية متنفذة، رضخت لأغلب الضغوط. حتى كلام رئيس الحكومة شديد اللهجة حول ضرورة التبرع الطوعي حتى لا تجبر الدولة على "اتخاذ إجراءات أحادية الجانب" لا يعدو أن يكون سوى "حفظ لماء الوجه" ومسكنات للغاضبين من هرولة الدولة لإنقاذ رأس المال بمال دافعي الضرائب، وأغلبهم من الطبقات الوسطى وما دونها.

والأمر لا يتوقف على الابتزاز، بل يتعداه لممارسات أكثر إجراماً وانعداماً للحياء والإحساس. فمنذ بداية الأزمة واستنفار البلاد لمواجهتها، سال لعاب بعض مصنعي الأدوية والمواد الطبية وشبه الطبية طمعاً في الظفر بنصيب من أرباح موسم الوباء والموت. ولم يتردد بعضهم في الضغط على وزارة الصحة، عبر وسائل الإعلام، للتحلي بالمرونة والتخلي عن الإجراءات الاعتيادية في التزود بحاجياتها، ومنح الصفقات العمومية بالتفاوض المباشر (المراكنة كما تسمى في المعجم القانوني - الإداري التونسي) عوضاً عن طلب العروض السرية. طبعاً الحجج "نبيلة"، وهي التسريع في توفير حاجيات المستشفيات وإنقاذ حياة الناس.

"تحبونا نتبرعو، قصّوهم من الضرائب"، إذا أردتم أن نقدم تبرعات فيجب أن تخصموها من الضرائب. هكذا تحدث رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، أكبر وأقدم منظمة أرباب عمل في تونس، في التليفزيون على الهواء مباشرة بلا حياء.. ولا رياء.

شركات أخرى تعمل في القطاع نفسه، رفضت أن تخصص كل إنتاجها أو بعضه للسوق المحلي وآثرت العمل على طلبيات الزبائن الأجانب. وهناك ممارسات أكثر قذارة، فمثلاً أوقف رجال الجمارك شحنة كبيرة من القفازات والأقنعة والألبسة الطبية منتهية الصلاحية استوردتها شركة تونسية وكانت تنوي بيعها في السوق المحلية.

وهذا غيض من فيض، في بلد صغير ومحدود الإمكانيات والسوق، فما بالك بما يحدث في دول أكبر وأغنى.

"عندك سميد وفارينة"؟

هذا، وبلا منازع أكثر سؤال يطرحه التونسيون في هذه الأيام على البقالين والباعة في محلات البيع الصغيرة والكبيرة، وعلى المسؤولين، وحتى على بعضهم بعضاً. وحلَّ هذا السؤال في المرتبة الأولى بعد أن كانت لسؤال آخر "هل لديك أقنعة طبية وسوائل معقمة؟" والذي تراجع الناس عن طرحه تدريجياً، بعد أن أحبطتهم الردود السلبية، وتضاعف الأسعار بشكل جنوني.

قد يتخلى الإنسان في آخر الأمر عن الوقاية الصحية لكنه لن يتخلى عن الأكل. لذا ومنذ أن تم الإعلان عن الحجر الصحي، وحتى قبله بأيام، بدأ التونسيون في تخزين المواد الغذائية الأساسية وأهمها السميد و"الفارينة" (وهو الطحين، ويستحسن أن لا تستعملوا الكلمة الفصيحة في تونس لأن لها مدلولات أخرى في اللهجة المحكية) والكسكسي والمعجنات والسكر والحليب والزيوت ومعجون الطماطم المركز.

بطبيعة الحال تسبب هذا الإقبال الجماعي والمتزامن على سلع بعينها، في نقص بعضها، واختفاء بعضها الآخر كما حصل مع السميد والفارينة، وهما مادتان ضروريتان لصنع الخبز وعدة أنواع من الأكلات والحلويات التونسية. ولا يرجع هذا الاختفاء للهفة الناس فقط، بل كذلك لجشع بعض المضاربين في الأزمات والأوبئة، فلقد قامت قوات الأمن بمداهمة عدة متاجر ومخازن تتكدس فيها أطنان من المادتين بهدف احتكارها والسيطرة على السوق والتحكم في الأسعار. تثير هذه الممارسات سخط الناس، وحتى السلطات، التي ما انفكت تقول أنه لدينا ما يكفينا من كل المواد، لكنها عجزت عن ضمان توزيعها بشكل طبيعي وعادل، وحمايتها من المحتكرين. ولزجر المجرمين شددت الإجراءات ضد كل من ثبت تورطه في الاحتكار والبيع المشروط: عقوبات تتراوح بين سحب رخصة النشاط والعقوبات المالية والسجن. حتى أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد دعا خلال اجتماع مجلس الأمن القومي إلى سن قانون يعتبر المحتكرين مجرمي حرب ويعاقبهم على هذا الأساس، كما لمّح أيضاً إلى تورط نائب في البرلمان في فضيحة احتكار السلع الغذائية.

وانتشرت في الأيام الأخيرة صور وفيديوهات عن معارك حول أكياس السميد والفارينة في الأحياء الشعبية. يعجز الكثيرون عن توفير الحد الأدنى من خبزهم وضمان البقاء لا "حسن البقاء".

محظوظ من يستطيع العودة إلى بيته ببضعة كيلوغرامات من السميد والفارينة، فذلك لا يشعره فقط بالأمان، بل يزيد من تقدير عائلته له.. كأنه رجل كهف عائد من الصيد.

ولنا في فيسبوك حياة..

التونسيون نشيطون جداً على فيسبوك في الأيام العادية، فما بالك بزمن الكورونا والحجر الصحي العام. ففي ظل الخوف من العدوى والإغلاق شبه الكامل للفضاء العام، صار فيسبوك هو الفضاء العام البديل.

لا يمكن الجزم إن كانت هذه الأزمة أقل وطأة بفضل منصات التواصل الاجتماعي أو أشد بسببها، فهي من جهة تعوض غياب الحياة الاجتماعية "الحقيقية" ولكنها من جهة أخرى فضاءٌ رحب وخصب للتخويف والإشاعات والأخبار المغلوطة، ولكمّ هائل من المعلومات والأرقام والتحليلات مما قد يزيد من حالة الفزع والقلق. على كل، كورونا هو الملك في فيسبوك الآن، ويندر أن يعترضك منشور لا يتعلق بالفيروس سواء تخوفاً، أو تذمراً من الحجر أو مزاحاً أو تساؤلاً أو إخباراً، الخ.

 لزجر المجرمين شددت الإجراءات ضد كل من ثبت تورطه في الاحتكار والبيع المشروط: عقوبات تتراوح بين سحب رخصة النشاط والعقوبات المالية والسجن.

هناك من ينزّل صور أكلات وحلويات تفنّنَ في طهيها وتزيينها، وآخرون يشاركون مقطوعاتهم وأغانيهم المفضلة، ويقترحون عناوين كتب وأفلام ومنصات للتعلم عن بعد وتمارين رياضية وأموراً مشابهة لتمضية أيام الحجر الطويلة بأقل ما يمكن من التبلد الذهني والجسدي.

هناك من يهول من وقع الجائحة، وآخرون ينتقصون من شأن مخاطرها وآثارها. البعض مختصون في الأخبار والأرقام المحزنة، وآخرون يفضلون نقاط الضوء والأخبار المفرحة وإن كان بعضها غير دقيق أو كاذب.

عدد "الخبراء" تزايد بشكل كبير، فحتى من كانت ثقافته العلمية ضعيفة أو منعدمة وجد نفسه أمام سيل من المصطلحات والبيانات والغرافيك والمقالات تتحدث عن الفيروسات وجهاز المناعة والأمراض، حتى ظنوا أنفسهم مختصين في علوم الأوبئة وصاروا "يفتون" ويحللون بكل أريحية كأنما الأمر يتعلق بمقابلة كرة قدم.

وكما هو الحال في المجتمع "الحقيقي"، تختلف اهتمامات وهواجس الناس في الفضاء الافتراضي. فهناك الطالب الذي لا يعرف مصير السنة الدراسية، والعاطل عن العمل الذي وجد نفسه فجأة وسط زحمة من "الزملاء" المؤقتين، وهناك المتأففون المتأزمون من إغلاق المقاهي والحانات والمطاعم وأماكن السهر. تزدهر المشاكسات والنكات حول ازدياد أوزان الناس بسبب قلة الحركة، وتشكي النساء من بقاء الرجال في البيت (فيقال "لا يعجبهم شيء") بشكل مستمر مما يعني طلبات ودلالاً وتدخلاً فيما لا يعنيهم أكثر من العادة، ولا تغيب النكات "الذكورية" حول الرجال الذين أثرت ملازمة البيوت في "هرموناتهم" ومزاجهم وعاداتهم. وفي حين يشتكي العزاب والصبايا من البعد عن الحبيب/ة، لا يتوقف المتزوجون عن التذمر من الكائنات اللطيفة التي تحررت من المدارس وقلبت البيوت"عاليها واطيها". وعلى الرغم من كل الاختلافات، فهناك إجماع على ثلاثة أمور: الشهية المفتوحة، والمزاح، وكميات "الجافيل" (الكلور) المهولة التي تعبق رائحتها في البيوت هذه الأيام.

تتعدد المبادرات الخيرية والمواطنية: مجموعات تفضح احتكار السلع، و/أو تدعو لحملات التبرعات وتنظمها وتقوم بتوزيعها. ومجموعات تهتم بالتوعية الصحية والإرشاد الطبي، وأخرى تعنى بفئات ومواضيع نُسيت في خضم الحرب على كوفيد-19: الأشخاص بدون مأوى، أصحاب الأمراض المزمنة، الطلبة الأجانب العالقين في تونس، النساء المعنفات، المسنين غير القادرين على الخروج...

فيسبوك يلعب أيضاً دوراً آخر مهم، اذ جعل منه البعض "قاعة عرض" للترفيه والثقافة والفنون. فالعديد من المبدعين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عروض وجمهور، فقاموا بتقديم عروض غناء ورقص وعزف عن بعد عبر تكنولوجيات البث الحي. وهناك أيضاً رواة وقاصّون وأكاديميون اختاروا التقنية نفسها للتوجه للناس. حتى أن إحدى الراقصات، وفي إطار سعيها لحث التونسيين على ملازمة بيوتهم وعدتهم بأن ترقص لهم كل ليلة مباشرة، وجلبت "عروضها" اهتمام عشرات آلاف المتابعين، وزاحمت خطابات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.

الجانب الإنساني التضامني يحضر بقوة في فيسبوك حيث تتعدد المبادرات الخيرية والمواطنية. فنجد مجموعات وصفحات تفضح احتكار السلع، و/أو تدعو لحملات التبرعات وتنظمها وتنسقها وتقوم بتوزيعها على المعوزين والعاجزين. وهناك مجموعات وصفحات تهتم بالتوعية الصحية والإرشاد الطبي، وأخرى تعنى بفئات ومواضيع نُسيت في خضم الحرب على كوفيد-19: الأشخاص بدون مأوى، أصحاب الأمراض المزمنة الذين لا يجدون أدويتهم، الطلبة الأجانب ممن علقوا في تونس بلا أموال كافية ولا سند عائلي - اجتماعي، النساء المعنفات، المسنين غير القادرين على الخروج لشراء حاجياتهم أو استخلاص الجاري من رواتبهم، الخ.

وهذا غيض من فيض تضامن الناس في الشدائد، ينسينا قليلاً جشع وأنانية فئات أخرى.

ختاماً..

الكل في تونس خائف، الأغلبية من المرض والموت والبطالة والفقر والجوع. في حين تنشغل أقلية بمناصبها ونفوذها السياسي أو بأرباح شركاتها واحتمالات انهيار منظومة تضمن هيمنتها..
البعض يغالب خوفه بالمزاح واللعب والرياضة والفن والثقافة، والصلاة، والتضرع، وآخرون بتحريض الحكومة على قتل مواطنيها بإرسالهم إلى العمل بدون حماية أو حبسهم في المنازل بلا قوت..

مقالات ذات صلة

تختبر تونس ومعها سائر دول العالم محنة كبيرة جديدة لا يعرف أحد كم ستدوم، وكم ستكون كلفتها البشرية والمادية. البعض يتفاءل بمستقبل أفضل ورجّة عميقة للعالم، وآخرون يعلمون علم اليقين أن لا شيء يتغير فعليا طالما بقيت الطبقات والقوى المهيمنة في مواقعها..

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...