عين على السفينة ... وعين على الأمواج العاتيات

تنتشل مي عبد القادر الحافظ في روايتها "عينك على السفينة" تجربتها من ظلمة الأقبية ومجاهل سراديب أفرع المخابرات، تصنفها وتصففها على الورق، كأنها عروس تفرد جهازها وهداياها، وهي بعض من جروحها وآلامها العميقة، لتتهيأ للقاء المرتجى بالحرية، مكتفية بسرد نقيضها والسخرية منه. لا تملك في هذه المحنة سوى التذكر والكتابة، بما يشمله هذا الفعل من قوة تحرر ذاتي، بالقدرة على استرداد التجربة ومعاينتها
2013-02-13

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
"سجين الكرسي تجليات ديكتاتور" للفنانة نجلاء الوزة - من صفحة "فنون الثورة السورية"

تنتشل مي عبد القادر الحافظ في روايتها "عينك على السفينة" تجربتها من ظلمة الأقبية ومجاهل سراديب أفرع المخابرات، تصنفها وتصففها على الورق، كأنها عروس تفرد جهازها وهداياها، وهي بعض من جروحها وآلامها العميقة، لتتهيأ للقاء المرتجى بالحرية، مكتفية بسرد نقيضها والسخرية منه. لا تملك في هذه المحنة سوى التذكر والكتابة، بما يشمله هذا الفعل من قوة تحرر ذاتي، بالقدرة على استرداد التجربة ومعاينتها ونقدها.
يبقى السجن، كمحطة خارج الزمن المتدفق أو المتعثر في الخارج، مكاناً مناسباً لاستعادة الزمن الضائع، بما يشمله من صراع وجودي مع سكونيته وتبدد. وهو صراع في عمقه ضد الإلغاء، والتحويل القسري إلى الرقم الأصم، الذي يؤخذ بدلالة الزنزانة والمهجع، أو سمة من لون الثياب، حين ينادى على السجين "صاحب القميص الأصفر" أو "صاحب الشعر المنفوش". كتابة هي رد على ثقافة المستودع، بعد أن يُخطف الناس من بيوتهم وأماكن عملهم وأمسيات أصدقائهم وصباحاتهم، ويرمون هناك ليتكدسوا كصناديق وأكياس وحوائج لا يفطن إليها إلا حين استدعائها للتحقيق أو النقل إلى فرع تحقيق آخر، أو الرمي النهائي في السجن، حيث تنتحب الحياة في أكبر مدفن بشري تنتجه الأنظمة القمعية في بلاد الشام، لتخنق به الحياة الصاعدة كدخان من جمرات الأنفاس المحروقة.
تأخذ الكتابة والتذكر موقع الفعل الاعتراضي على الإلغاء والتدجين والسحق، والاحتجاج على الهرس تحت النعل العسكرية الثقيلة التي تلغي الخصوصية الحنونة، المؤتلفة مع كينونتها. لست رقماً، لست صاحب القميص الأصفر والشعر المنفوش... أنا لي أهل وعائلة وأصدقاء. لست نكرة، لي، أو بالأحرى كان لي، قبل أن تأتوا بي إلى هنا، طفولة ويفاعة وشباب وحياة عريضة وأحلام تتوسع كل يوم.
التحقيق والزنازين الضيقة والسفح اليومي لمياه الكرامة الآدمية، وسحبها برعونة إلى بلاليع الصرف. هي إذاً ملاحم صغيرة، حين نقارنها بالفتوحات الحربية والمعارك العسكرية وتسلق الإنقلابيين شجرة الحكم إلى الأبد، تأخذ شرطها من اللاتكافؤ الحاسم بين القوة الفيزيائية التي يحملها الجسد في عضلاته وأعصابه وجدارة أعضائه بالنجاة من الامتحان القهري، وبين آلة معدة بمزيج من تقنيات الحداثة وبهائمية أنظمة القمع ودساكر المحميات الإمبريالية، التي تستحسن ارتداء القفطان الوطني والتحجب بعمامته، للسحق. "لم يكن يعرف هول المعاناة في الفروع، إنها ليست سجناً بقدر ماهي استباحة للنفس البشرية، لم يكن يعرف الإذلال الذي يتعرض له السجين في الفرع ليثبت إنسانيته" (ص 164).
أجهزة اختصت التنقيب في المنجم الإنساني وسبر أغواره، لا لاكتشاف أسرار جماله وروعته التي صنعتها ونقحتها الطبيعية عبر ملايين السنين، بل للوصول إلى أبشع طريقة في سحقه وتدميره واحتقاره. ليستمتع الجلادون، وهم عينهم القتلة في لحظات أخرى، حين يرون هذا الكائن الذي انتخبته الطبيعة وعطرته بمجد أطيابها منهاراً، عارياً، متوسلاً، يهذي بالشفاعة من ذنب لم يرتكبه ويطلب الصفح، لأنه خط بأصابع مختلجة،على جدار الليل الكتيم، كلمات الرجاء، متوسلاً بها مخرجاً شعبياً لاختناق تاريخي، لا يكاد ينبلج حتى يهمزه الليل على خاصرتيه، ويضمه إلى عباءته السوداء. ويستمتع الفاشيون حين تصلهم الوشايات من أعوانهم، أن سجناءهم يقضون أوقاتهم المديدة في الحمام، يزيلون بالماء والصابون آثار التهم التي رموهم بها في غرف التحقيق.
أسست مي الحافظ حكايتها على البنية العميقة للهوية، فلسطين- المخيم، عبر الجغرافيا الهامشية لمخيم النيرب في حلب، وهو بقايا ثكنة للجيش الفرنسي الذي استخدم قسما منها إصطبلات لخيوله وقسم لتخزين معداته الحربية وحوائجه. هنا يجري إعداد المكان على عجل ليستوعب الفلسطينيين المهجرين من قضاء عكا. والعائلات المنتزعة من أرزاقها، والتي لم تعد تملك سوى قوة عملها، تقايضها بالعيش، وتكافح لانتزاع مكان للحياة لها ولأطفالها. ولكنها لا تريد اختزال فلسطين إلى بساتين ليمون وبرتقال. تصنع هوية، هي مزيج من الآمال والذكريات والحنين والأرض التي سرقت عام 1948 ووسعت منهوباتها عام 1967، والقضية التي تبقى ثابتة بتغير زاويا النظر إليها، والتحرر حين يتوسع مداه على الشعوب المضطهدة وآمالها الواحدة.
من الأسرة الصغيرة وطموح كبيرها اعتماد التعليم وسيلة للتغلب على مصاعب الحياة وظروفها المتجددة، لتتجاوزها بدأب وصبر إلى أزقة المخيم ومدرسته والتنقل خارجه، إلى الجامعة والأصدقاء وحركة فتح والتفكير بالعمل الثوري بأمثولة الشهيدة دلال المغربي... ونلمس أنه ليس قدر القدمين التعثر في حفر الشوارع المعتمة، بل هو قدر حركات سياسية وشعوب لا تنفك عنها حبال الاضطهاد والقهر وحركة التاريخ برمتها كذلك، لا شئ يسير بما يتمناه الأطفال الموعودين بحفنات من السكاكر والعودة إلى الوطن كخاتمة لرحلة ربيعية مبهجة.
تستقوي بالماضي، بما يشكله من عودة انتقائية حنونة إلى دفء الأسرة والأب الرائق والأخوة الذين واللواتي يزنرون الحياة بنطاق من طمأنينة، على الحاضر المعيش في المطاردة والأقبية والمحققين والسجناء متعددي الانتماءات والولاءات، الكرماء والبخلاء، الطيبون والشريرون، القبحاء والجميلون، والحياة هنا تفارق مصائر تلك النبتة البرية المتحايلة على شروطها القسرية والمتغلبة عليها، لترمى برعونة كخرقة مبللة بالدم والصديد والدموع تحت الأقدام العارية المسلوخة بالعصي والكرابيج.
لكن تبقى البنت - الأنثى المستقوى عليها بأخلاق يلوكها ضباط مخابرات "كعلكة القرباط"، في مشهد خانق، حين يستدعيها المحقق مطمشة إلى غرفته، ويطالبها بجلوس القرفصاء، لتواجهها ثلاثة أصوات متباينة تنهال عليها وفق هدف واحد، تحطيمها نفسياً والنيل من كرامتها: "اخترتم أوكار التخفي لتمارسوا الإباحية" وترد عليهم: "لكنكم اعتقلتموني من بيتي ومن بين أهلي وإخوتي"... ويتمدد الحديث بهدف واحد هو تثبيت الإهانات وسحق الآدمية، ليأمرها الضابط بعده بالوقوف ورفع الطميشة عن عينيها والاستدارة للخلف، لترى ما لم تتوقع رؤيته إلا بعد خروجها من هنا، والدها ومربيها ومثالها الأعلى جالساً ودموعه تترقرق في عينيه، وكان قد تابع الاستجواب من أوله.
كما الجراحون حين يحولون الجثة بين مشارطهم إلى مادة تعليمية، لسبر مجاهل الكائن الحي الذي كانته، تجد مي الحافظ فرصة الانفكاك النسبي عن التجربة، بعد أخذ مسافة كافية لرصدها وتأملها والتخفف من سحرها وجاذبيتها، لتقدم نقداً لها: "الرفيق الذي انهار وتسبب باعتقال معظم الرفاق والرفيقات كان يعتبر قبل اعتقاله نجم الحزب" (ص 98).
النقد هو حصيلة وعي بالتجربة والإحاطة بشروطها، وعيش التجربة لا يحقق بمفرده ذلك. قد يقدم المادة الأولية للنقد، لا النقد ذاته، إحالة تفسير تحطم تجربة سياسية إلى موضوعة مخالفات تنظيمية. هذا فيه الكثير من التبسيطية. التنظيمات الحديدية من خارج المثال الذي نتابعه، لم تعفها حديديتها من التصفية التنظيمية وهي تخوض مواجهة غير متكافئة: اليسار الألماني في مواجهة النازية/ الجمهوريين في مواجهة الملكيين في إسبانيا... الموضوعة ليست في إحالتها إلى علوم وتقنيات الإدارة التنظيمية، التنظيم السياسي ليس غاية في ذاته، إنه أداة تساعد في تحقيق المشروع السياسي جزئياً أو كلياً، وربما في شروط معينة تعيق ذاك المشروع الثوري وتتحول إلى عامل رجعي - محافظ. هل هي مصادفة، أنه لم ينجح أي تنظيم في مواجهة الفاشية المحلية، ومعظمها أوصله الصراع إلى النتيجة ذاتها: التصفية التنظيمية الجزئية أو الكلية، أو الشلل التام. وهي بعمومها تنظيمات لم تنقصها الكفاحية العالية والتضحيات العظيمة. وتبحث كذلك في متسع وقتها، عن فرصة أخرى للنقد، وهي ترى اليسار التائه، يسارها الذي تتمناه قوياً معافى، يتعقب أثر طريقه في سراب جديد يسعف به جرحه التاريخي بضماد من خفيف الكلام ليواجه به مهمة تاريخية ثقيلة. "منذ العشرينيات من القرن الماضي، بدأ تاريخ الأحزاب اليسارية، واليوم تتذكر تلك المعارضة شعار إحياء المجتمع المدني والأهلي؟ رغم صحة تلك الذكرى، لكن هل المجتمع المدني ظاهرة جديدة؟ أم أنه في عداد المنسيات عن ذهنية ما يعرف بقوى المعارضة؟ أم أنه موضة وتقليعة عملنا السياسي؟" (ص81)

لم ننته بعد
حين تصاعدت الأنباء من مخيم اليرموك، اتصلت بمي للاطمئنان عليها وعلى من هم/هن حولها. أجابتني بصوت متقطع، هو عينه صوت سيزيف يندفع خلف صخرته التي لا تكف عن الانزلاق إلى الحضيض: أنا في الشارع بعد إنذار الجيش بضرورة إخلاء المخيم قبل السادسة صباحاً، معي حقيبتي وبطانية، وأبحث عن سيارة أجرة تنقلني إلى بيت صديقة ما زال عندها مكان واسع لاستقبالي، سأحدثك في ما بعد. من السماعة وصلني صوت الرصاص والقنابل وغاب صوتها في الملحمة، حيث تصنع الحرية لا من الخزف هذه المرة، بل من البازلت المعجون رغماً عنه بالدم.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..