الألياف الضوئية في لبنان المنكوب

يبدو أن السياسيين اللبنانيين قد تجاوزوا صدمتهم من هجوم الناس الشديد عليهم منذ أشهر واحتقارهم، وأنهم استعادوا "توازنهم"، وأبرز مؤشراته هو استئناف "البزنس"..
2020-03-14

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

كنتُ بصدد ترجمة نص رسالة وجهها بروفيسور كبير في الطب يعمل في أهم مستشفيات باريس، تخص ما يصدمه في موضوع مقاربة الناس لفيروس الكورونا. وهي تستحق أن يقرأها كل إنسان.

ولكني شخصياً صُدمت بما رأيته في الشارع، أمام سكني. وسأبدأ به!

منذ أيام، كان عمال يرتدون سترات برتقالية مكتوب عليها شيء آخر غير "أوجيرو"، أو لعله إضافة على كلمة أوجيرو المعتادة. حينها لم انتبه، لأنني ظننت أنها من أعمال الصيانة التي لا تنتهي، فتنبش الطرقات في كل موسم وتملؤها بالتراب (وبحفر مستديمة تنكشف عند أول هطول للأمطار)، بينما تملأ جيوب المتعهدين بالدولارات... التعهدات على أنواعها شكل من أشكال الفساد الشائع الذي يعرفه كل اللبنانيين ويتندرون به، بلا غضب منه. أربابها كبار القوم، أخوة وزراء أو زعماء أو، وبأبعد الاحتمالات أبناء عمومة لهم، أو من بين أركانهم.

وحين وصلتُ إلى بيتي، رأيت جارتي غاضبة للغاية، تقول أنهم أخرجوها بالقوة من تحت "الدوش" الذي كانت تأخذه، بحكم رنينهم الملحّ على الإنترفون الذي جعلها تتوجس من أمر خطير. ولكنهم قالوا لها أن عليها تحريك سيارتها من المكان فوراً، لأنها تعرقل عمل الفريق الذي يقوم بتركيز علبة الأسلاك الضوئية في أسفل البناية. "قاومتُ"، تقول بفخر، وهي أخّرتهم ربع ساعة إلى أن ارتدت ثيابها! ما الأمر؟؟ هو ال"فايبر" للاتصالات.

ولأننا في آذار/ مارس 2020، بعد الانتفاضة التي عمّت لبنان، إثر انكشاف النهب الذي تعرض له البلد على يد سياسييه ومصرفييه (وأغلبهم من السياسيين المستجدّين!)، وسوء إدارتهم وكفاءتهم، وانعدام تحسّبهم، وقلة احترامهم للناس والرأي العام، وتبلّدهم التام حيال مصائر البشر المهددين في طعامهم ودواء أولادهم.. فقد أضافتْ جارتي "الله يستر شو راح يدفّْعونا مقابل خدمة الألياف الضوئية هذه، وبالتأكيد فلن تتحسن خدمات الإنترنت ولا الهاتف، بل هو باب سرقة إضافية". جارتي ليست ثورية وليس لديها ميل للتمرد، وهي سيدة (كانت) ميسورة الحال، وتقليدية، تحب زعماءها وتكره زعماء "الآخرين". ولكنها تسيَّست خلال الأشهر الماضية. وهي قالت كل ما يمكن أن يقال، فكدت ألا أجد ما أزيده على كلامها.

ولكني على الرغم من ذلك استغربتُ. ف"الناس بالناس والقطة بالنفاس" كما يقول المثل عندنا. معقول "فايبر" الآن؟ ومن سيدفع تكاليف إنشائه، ومن سيستفيد منه، بينما الكهرباء تنقطع كل خمس دقائق. ثم هل هو أولوية بأي معنى من المعاني، بالنظر إلى حالة الانهيار التي تكشفت منذ أشهر، والعجز المالي لميزانية الدولة، وقرارها بالتوقف عن سداد المتوجب عليها للدائنين الخارجيين، وقد أصبحوا أغلبية بفضل هندسة تلاعبية نقلتهم إلى هذا المصاف؟

تذكرتُ أنني قرأت عن هذا في 2018. قرأت تفاخر السياسيين بأن لبنان سبّاق (كان وقتها في المرتبة 165 عالمياً من أصل 200 دولة في سرعة الإنترنت المتوفر لمواطنيه: 3.2 ميغابايت في الثانية في بيروت، بينما المعدل العالمي هو 22.3 ميغابايت)، وبأن مطار بيروت سيصبح خلال عام مزوداً بال"واي فاي" بشكل أرقى من مطارات أوروبا، وبأن الحكومة لن تترك أحداً يعرقل إنجازات "الدولة"، وأنها "موظفة لدى الشعب، ووظيفتها خدمته"، وبأنه "وبفخر كبير" قُدِّم المشروع إلى رئيس الجمهورية، وبأنه مهدًى في 14 شباط/ فبراير (2019) إلى ذكرى الرئيس رفيق الحريري -الذي اغتيل في 14 شباط/ فبراير 2005- وبأن "المارد كان نائماً، والمارد استفاق حالياً"... إلى آخره من ثرثرة كانت لا تستوقف أحداً، حتى للسخرية منها.

وتذكرتُ أنه قيل وقتها أن مشروع الألياف الضوئية سينجز خلال 3 سنوات، وأنه جرى تلزيم الدفعة الأولى منه بعد مناقصة، وأن تكلفتها حوالي 300 مليون دولار، وأنه وقعت مشادة، وتقدمت أوجيرو والاتحاد العمالي العام بشكوى ضد الحكومة، لأنه جرى تلزيم التنفيذ لثلاث شركات خاصة من دون وجود أي مبرر لذلك، باعتبار أوجيرو تمتلك كل المؤهلات للقيام بالعمل. وقد دُفع مسبقاً لتلك الشركات 25 في المئة من قيمة عقودها، وبُرر توزيع التلزيم على ثلاث شركات بدل الاقتصار على تلك التي فازت بالمناقصة، بالحاجة لسرعة الإنجاز... وفهم اللبنانيون أن توازنات –معتادة هي الأخرى– قد جعلت تلك المناقصة بلا معنى، تماماً كما هو التلزيم للقطاع الخاص.

وكان يفترض أنه بحلول منتصف 2019، يكون قد أُنجز ثلث العمل. وفي الواقع فلم ينجز حينها إلا 7 في المئة منه، على الرغم من البنود الزجرية والعقابية في العقود.. إلا أن التبريرات جاهزة. فقد "اكتُشف" أن الخرائط المدنية لشبكات الهاتف والكابلات القديمة ليست صحيحة أو هي قديمة للغاية، وكذلك المسح السكاني، فحيث يفترض وجود 300 بناية مثلاً، تكون ألفاً على أرض الواقع. وقال المسؤولون حينها بنزق: صحيحٌ، لم تَجرِ دراسات مسبقة (مع أن المشروع مطروح منذ تولي الوزير بطرس حرب وزارة الاتصالات في 2014، حين أطلقت "خطة الاتصالات 2020"). ولكن ما علينا، نحن أبناء اليوم..

... كل ذلك كان يمكن أن يُبتلع بل ويُهضم حتى 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حين انطلقت شرارة احتجاج على قرار أخرق قدمه وزير الاتصالات حينها واقرته الحكومة (نعم الوزير هو نفسه الذي "نظّم" عملية الالياف الضوئية، وهي ضريبة على واتساب، هل تذكرون؟). أدت قوة الاحتجاج وعمومه وجذريته إلى انكشاف ما كان قائماً من خراب شديد، كان ملموساً أمام العباد البسطاء قبلها بأشهر، وكان يُحذّر منه قبلها بسنوات لجهة تجاهل السلطات للكارثة المحدقة: تعاظم الدين العام، والعجز، ومعهما إستمرار تلك السلطات في اختيار "الاولويات" البشعة التي تعادي مفهوم "المصلحة العامة" (اساس "الدولة" كما يُفترض)، وتخدم حاجات فئة قليلة من المتْرفين، وبطريقها تتيح النهب، بل والافتراس.

لبنان في الأحمر، وينزلق إلى الانهيار. فكيف يُفهَم أن يستعاد مشروع الألياف الضوئية؟ مع العلم أن الإنترنت الحالي بوضعٍ مزرٍ لجهة جودته وسرعته، وينقطع هو الآخر بين الفينة والأخرى، مثله مثل الكهرباء، بينما كلفة الاشتراك فيه على المواطنين هي مِن بين الأعلى في العالم.

فهل الحفريات الجارية الآن، وتركيب العلب في مداخل البنايات الخ.. هي "أي كلام" كما يقول المصريون، أي تمثيلية تلافياً لاعتبار الشركات المتأخرة ملزمة بالغرامة؟ يُستبعد ذلك لأن لا أحداً يحاسب أحداً اليوم في لبنان. هل هي إذاً وسيلة لاستعادة العمل في مشروع باهظ الكلفة، يُدخل مالاً إلى جيوب أصحاب الشركات الخاصة، بحجة ما سيدرّه من مال وفير على الخزينة العامة "حين يكتمل".. حين سيكون نصف الشعب اللبناني قد وصل إلى تحت خط الفقر كما تقدّر الدراسات الجادة. وتكون "الألياف الضوئية" نفسها، كتقنية، قد أصبحت "دقّة قديمة".

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...