موزاييك طرابلس لبنان والحدود الوهمية للمقاهي

المقهى، الحيز العام المستتر.
2020-03-02

عبيدة التكريتي

باحث من لبنان


شارك
حسن جوني - لبنان

تبدأ التجمعات اليومية في "باب الرمل"، إحدى حارات طرابلس القديمة، كل يوم عند الساعة السادسة صباحاً، بتجمع شباب ورجال الحارة، باستثناء العاطلين منهم عن العمل، استعداداً للانطلاق لعملهم في المدينة أو خارجها. يشاركهم بالطبع عشرات من التلاميذ بجعبهم الثقيلة بانتظار باص المدرسة.

يتجمع الرجال حاملين أكواب القهوة التي يختارون حلاوتها ومرارتها بناءً على تقييم معقّد يجمع بين حالتهم هذا الصباح، وبين مزاجهم الحياتي العام. تراهم واقفين صفاً واحداً كفريق يستعد للهجوم، يتأملون بنظرة جدية وحذرة الطريق أمامهم، ويديرون ظهورهم باطمئنان لدرج طويل وعريض يأوي بيوت معظمهم.

مقالات ذات صلة

يتفرقون بصمت ليهدأ المقهى لبضع ساعات قبل أن يبدأ "اعتصام" ثانٍ للعاطلين عن العمل في الحارة، قرابة الساعة الحادية عشرة. يملؤون الساعات المقبلة بكل أنواع التحديات الغريبة، كألعاب الشَدّة (ورق اللعب أو "الكوتشينة" لدى المصريين) المختلفة، كما يحرسون المكان بينما يستريح صاحب المقهى لساعات استعداداً للحشد الثالث. يبدأ التجمع الثالث عند الساعة السادسة مساءً، جامعاً كل رجال الحارة وشبابها.. ولا يتركون مقهى الزاوية إلا عند منتصف الليل.

لا يفرغ المقهى من رواده أبداً، ففي المساء يحرسه أولئك "القبضايات" الذين يحرسون الحارة، أو شبابها الهارب من بعض العادات، كما يساندهم بعض الحالمين ممن يتأملون سماء الليل وينصتون لصوته.

مقاهي النساء في البيوت!

وللنساء عالمهن المماثل، وتجمعاتهن التي يشترك فيها دائماً فنجان القهوة التركية حيث تتبارى كل واحدة منهن بالاعتداد بأنها أفضل من تُعدّها. يبدأ اليوم لدى نساء الحارة ب"الصبحية" التي تبدو كاجتماع لمجلس وزراء، يناقشن فيها جميع شؤون الحارة وتحدياتها، ويعقبن الاجتماع الصباحي باجتماع مسائي يقيمن فيه مرور اليوم على الرجال والتلاميذ.

تشترك القهوة في كل هذه الاجتماعات، حتى في بال التلاميذ الذين ينتظرون بشغف ذلك اليوم الذي يُسمح لهم فيه أن يشربوا القهوة، يومها فقط يشعرون أن انتقالهم من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين قد تمّ. هذا المقهى ليس الوحيد في الحارة بل هناك عشرات المقاهي وعشرات الصبحيات.

لا يفرغ المقهى من رواده أبداً، ففي المساء يحرسه أولئك "القبضايات" الذين يحرسون الحارة، أو شبابها الهارب من بعض العادات، كما يساندهم بعض الحالمين ممن يتأملون سماء الليل وينصتون لصوته.

هذه الجلسات، أو الوقفات اليومية تتكرر في كل أرجاء المدينة، ويمكنك المرور في أي حي أو زقاق لتجد قهوة يفترشها الناس. يلتقي الناس في جلسات يومية يتبادلون فيها النقاش عن كل شيء من أبسط التفاصيل في بيوتهم، للسياسة المحلية، وصولاً للحروب الإقليمية. هذا المشهد هو ما يطلق عليه يورغن هابرماس، الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني، الحيز العام حيث يجتمع الناس ليصوغوا آراءهم، وربما تحركاتهم أحياناً، فيما يخص التحديات الاجتماعية، الأخلاقية، والسياسية.

مقالات ذات صلة

كشاب ترعرع في عالم عربي محتضِر، كنت دائماً أتساءل عن هذا الحيز العام المستتر. فكنت أسمع كثيراً عن تلك اللقاءات "السرية" (للمفارقة: في المقهى) لبعض الأحزاب التي تطمح لتغيير شامل في واقع المدن والأوطان العربية. وفي المرة الأولى التي ابتعدت فيها عن المدينة لأكثر من شهر، وحين تراجعتُ خطوات لأرى المدينة عن بعد، لفتني مشهد المقاهي التي تراءت لي أشكالاً ضبابية لأحزاب سياسية، تكتلات فكرية، جمعيات اجتماعية، مجموعات ضغط، نقابات مهنية، أو طبقات اجتماعية محددة. قد يدّعي صديقك أو صديقتك أنهم يرتادون مقهًى ما لأنه يقدم القهوة الألذ، ناكرين أنهم يشكلون دائرة ضيقة، وكأنهم بإنكارهم يدعونك خلسة لتكون جزءاً من مجتمعهم. وربما تسمعهم يتحدثون عن أهمية أن يصبح لهذا المقهى فروع مختلفة في المدينة، حتى يتسنى لكل الطرابلسيين او الطرابلسيات فرصة ارتياده. أحياناً، أرتاد أكثر من ثلاثة مقاه مختلفة في اليوم، فأصدقائي يصرون على دعوتي كل مساء إلى ذلك المقهى الذي لا أظن أن له اسماً، بينما أنهي اجتماعات العمل خلال النهار في مقهى "نيوتاون". وقد ينتهي اليوم بفنجان ساخن مع عشرات السيارات المصطفة على شاطئ الميناء. صور مختلفة يلعب فيها المقهى دور المُيسِّر للتفاعلات الاجتماعية والسياسية في المدينة.

مقهى "التل العليا"

يروي لك الكثيرون في المدينة قصة مقهى "التل العليا"، الذي بدأ كمساحة ترفيهية يشاهد فيها أهل المدينة الأفلام المصرية بينما يدخنون النرجيلة، ثم تحول في فترة الثورات المتعاقبة إلى مركز لحلقات النقاش السياسية والثقافية، فكان منصة للناصريين فترة ثم للبعثيين. مازال المقهى عامراً بالكثير ممن عاصروا مراحله السابقة، ممن يسردون لك التاريخ المجيد بدون أي ذكر للحاضر وواقعه. المقهى بحد ذاته فعلٌ شخصي يختصره البعض بدوره كمكان لتناول مشروب القهوة المنبّه، ويتجاهلون قوته كظاهرة اجتماعية تشترك فيها معظم المدينة عبر احتضانها عشرات المقاهي والآلاف من الرواد يومياً.

يبدأ اليوم لدى نساء الحارة ب"الصبحية" التي تبدو كاجتماع لمجلس وزراء، يناقشن فيها جميع شؤون الحارة وتحدياتها، ويعقبن الاجتماع الصباحي باجتماع مسائي يقيمن فيه مرور اليوم على الرجال والتلاميذ.

هذه التجمعات اليومية هي فعل سياسي مستتر، لم يشكل في السنوات الثلاثين الماضية جبهة سياسية واحدة، بل اكتفى بكونه اعتصاماً لكل مجموعات النسيج الطرابلسية. وكأن المدينة تعتصم كل يوم في كل حارة وزقاق وشارع ومبنى، ولا تعتصم فقط كمدينة ضد السلطة، بل بعض هذه الاعتصامات هي اعتصامات داخلية بوجه بعضها البعض. وكلها تتمنى لو تصبح المدينة كمقهى، فهي تشبهه أكثر مما يشبهه أي مجال عام.

المكان الثالث

عند عودتهم من أستراليا، افتتح بلال وفاطمة، زوجان أمضيا حياتهما في الغربة، مقهًى جديداً في طرابلس يتخصص في تحميص وصنع القهوة. وكان ملفتاً كيف كان الجميع، بعد امتداحهم لجودة القهوة، يبدؤون تعليقاتهم عن سوء المساحة التي يجلس فيها الناس. كان المقهى في أول أيامه يغلق عند الساعة الثامنة مساء، وهو شيء مستهجن بالنسبة للكثيرين الذين يعتبرونه وقتاً مبكراً جداً. كان الناس يعترضون على الكراسي التي لا تسمح لهم بالجلوس براحة لأكثر من نصف ساعة. كما أن قلة عدد الطاولات لم تكن تسمح لهم بالجلوس بأعداد كبيرة. وكان مثيراً للاهتمام كيف قاوم بلال وفاطمة هذه التعليقات، لاعتبارهم أن الناس هنا لشرب القهوة والعودة لأعمالهم كما اعتادوا في أستراليا. أنهيا منذ مدة تجديد مقهاهم ليكون مساحة مريحة للناس، يمضون فيه معظم يومهم بعد اعترافهم أن المقهى في طرابلس هو أقرب ما يكون لمركز أو نادٍ اجتماعي. أطلق راي أولدينبرغ، (عالم أمريكي في الإنتربولوجيا)، على هذا النوع من المساحات العامة "المكان الثالث" مفرقاً بذلك بين المكان الأول وهو المنزل، والمكان الثاني وهو العمل. ويضيف البعض مفهوم "المكان الرابع" ويطلق على مواقع التواصل الاجتماعي.

تتنوع الأمكنة الثالثة بأنواعها وأشكالها. فلفترة طويلة كانت "المولات"، المراكز التجارية الضخمة، في الولايات المتحدة الأميركية هي المكان الثالث المفضل للقاءات الناس. يفترض في هذه الأمكنة الثالثة أن تشكل الحيز العام الذي يربط الناس ببعضها البعض، ليشكلوا رأيهم المشترك بالواقع وموقفهم منه. لكن يمكن لهذه المقاهي أن تتحول لمساحات خاصة تتبارى بين بعضها البعض، وتهدم بذلك الخاصية الأساسية لهذه الأمكنة الثالثة.

العبور بينها

عندما بدأتُ أدرك بعض الحدود الوهمية التي تفصل كل مقهى عن الآخر، أصبحتْ هوايتي عبور تلك الحدود لأتعرف على كل تلك العوالم المختلفة في المدينة. تتنوع تلك "الدويلات" بطبيعة الرابط الاجتماعي لروادها، بنوع إدارتها، بهندستها الداخلية، بنشاطاتها، بأوقاتها، بموقعها، وبأسعارها. المشهد الأول هنا هو لنموذج مقهى الحارة الذي يجمع بعضاً من رجال وشباب الحارة، فيضعون الكراسي على الرصيف ويعمرون سقفاً للحماية من الشمس كما من مطر الشتاء. عادة ما يبني السقيفة الشباب بأيديهم، يبادر بها شاب منهم برضى أمني مستتر، يفاوض الشاب رجل المخابرات في الحارة، منعاً لأي منافسة له، بمقابل أن يبقى "عينها" الحارسة لأمن الوطن والحارة. يعرف رواد هذا النموذج كل شيء عنك، بما فيها مغامراتك العاطفية، ولو مررت يوماً بجانب هذا المقهى لبدأت عناصر المراقبة مباشرة بالسؤال عنك، كونك غريب عن الحارة. النموذج الثاني هو لـمقهى "الختايرة"، المتقدمين في العمر،وتتنشر ثلاثة منها في الشارع الموازي للمدينة القديمة، وكأن رواد تلك المقاهي يأبون الابتعاد عن المدينة التي ألفوها. يجلس رواد تلك المقاهي معظم الأوقات بصمت، يتصفحون الجريدة أو يتناقشون بهدوء عن الوضع السياسي الحالي. قد ترى بعضهم يلعبون الزهر والبعض الآخر يراقب المارة. "مقهى الأندلس" هو أحدها، وكان ذا عز في الستينات والسبعينات السالفة، يلتقي فيه المثقفون والمتعلمون، فيجتمع فيه كل مساء شيوعيون ببعثيين بناصريين بوجوديين.. ولكنه اليوم فقد لوحة اسمه، ولا يمكنك التعرف إليه إلا بفضل رواده المعروفين في المدينة، إما لأنهم درسوا في مدارسها أو لنضالاتهم السياسية في السابق.

هذه التجمعات اليومية هي فعل سياسي مستتر، لم يشكّل في السنوات الثلاثين الماضية جبهة سياسية واحدة، بل اكتفى بكونه اعتصاماً لكل مجموعات النسيج الطرابلسية...

"مقاهي المغتربين"هو النموذج الثالث الذي تراه بوضوح في المدينة. تلك المقاهي انتشرت في عشر السنين الماضية على طول شارع عريض ولد في "منطقة الضم والفرز"، إحدى مناطق طرابلس "الجديدة". تختلف الأسعار في هذه المقاهي عن سابقاتها، فتتضاعف أسعار كما المنتجات لتلائم زوارها. تصطف السيارات الحديثة على أطراف الرصيف وكأن مالكيها أو مستأجريها يريدون التأكيد على مكانتهم الاجتماعية الجديدة. مقاهي المقيمين هي ذلك النموذج الموازي لمقاهي المغتربين، حيث يجلس الشباب ليندبوا حظهم سوية بينما يلعبون الشدّة والزهر. في وسط الشارع المليء بتلك المقاهي التي بُنيت على عجل مع إدعاء الفخامة والحرص على مظاهرها، يعترض مقهى مجهول المشهدية بديكور خارجي بسيط وقديم يحوي في الداخل الكثير من الكراسي والطاولات البلاستيكية، بمقابل الخشب والحديد لكل المقاهي التي بجانبه. معظم زوار هذا المقهى هم من الشباب الذين اختاروا - أو أرغموا على - البقاء في المدينة. ويعتبر هذا المقهى كملاذ لهم بمقابل ذلك الجهد "الجبار" الذي يقومون به ببقائهم في لبنان.

النموذج الخامس هو جزء من اتجاه عالمي يربط بين المقهى والعمل ليكون مقهى عمل جماعي. يلتقي الناس فيه لينهوا بعض اجتماعاتهم، بعض مهامهم وأعمالهم على حاسوبهم الشخصي، أو ليمارسوا هوايتهم في الكتابة أو الرسم. يشترك جميع زوار هذه المقاهي باستخدامهم للغة الإنكليزية كلغة أساسية بالإضافة للعربية، كما يشتركون في حبهم للأفلام والحفلات الموسيقية التي قد تعرض أو تقام في المقهى نفسه.

"مقهى البيت"هو تلك البيوت التي تتحول إما في الصباح أو في المساء لتكون مساحة للقاء الناس. ما يؤهل البيت ليلعب هذا الدور هو المساحة الوافرة من خلال شرفة واسعة، أو لكونه بيتاً أرضياً بفسحة كبيرة، كما أن مكانة صاحب أو صاحبة البيت لهما دور أساسي في تطوير هذا النوع من المقاهي. جارتنا أم عمار مثلاً تستقبل يومياً منذ أكثر من 30 عاماً، كل أهل البناية ببابها المفتوح وفسحة بيتها الواسعة. وعادة ما يقوم الزوار بخدمة أنفسهم عبر إعداد القهوة أو المساعدة في الترتيب بعد انتهاء اللقاءات اليومية.

النموذج الأخير في هذا السرد هو لـمقهى البار أو مقهى النركيلة،وهما شكلان موازيان لنوع مختلف من المقاهي، تشترك في الهدف وتختلف في الوسيلة.. مقاهي النرجيلة تنتشر خصوصاً في شهر رمضان بعد وقت الإفطار، حيث تمتلئ المدينة القديمة، ومدخل السوق القديم تحديداً، بكل أنواع المقاهي التي تقدم الأركيلة (باللهجة الطرابلسية)، كما السحور المؤلف من الكعكة الطرابلسية والشاي الأحمر. نادراً ما تقدم هذه المقاهي القهوة، عكس اسمها. وهذه الظاهرة مثيرة للاهتمام خاصة أن المقاهي اشتهرت أساساً في العالم لدورها كمساحات منبّهة لا مخدرة لروادها.

زيارة واحدة لعمّان، بغداد، أوحلب (في السابق)، كافية لتؤكد كم هي متشابهة هذه المدن ولو اختلفت ببعض تفاصيلها. الانتشار الكثيف لتلك المقاهي بنماذجها المختلفة يتعارض مع النظرة السائدة للجمود الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، فهي تعبّر بمعظمها عن اعتراض ضمني ومستتر على الواقع.

هذه النماذج لا تختصر كل مشهد المقاهي في طرابلس، ولكنها محاولة أولية لفهم موزاييكها الذي لا يخص طرابلس - لبنان بشكل خاص، أو بيروت، أو سواهما في البلد، بل هي معبّرة عن الحيز العام في أكثر من مدينة عربية.

مقالات ذات صلة

ارتقت بعض هذه اللقاءات لتكون جزءاً أساسياً في كثير من ساحات الاعتصام، فترى ساحة النور في طرابلس مليئة بنسخ عن مقاهي المدينة التي يحاول الكثير من روادها الدفع بأنفسهم لا ليكتفوا بالتعبير عن تمردهم عليه بل على قدرتهم لتغييره. لكن بحكم كون هذه المقاهي مساحات خاصة وضيقة، بدأت مع الوقت برسم حدود لها، ثم بدأت تضع المتاريس في وجه كل المقاهي الأخرى التي لا تعبّر برأيهم عن مدينتهم. فأصبحت المقاهي بتميزها عن بعضها البعض تناقش هدفها الأساسي كونها مساحة مشتركة، مساحة لتشكل الرأي العام، ومساحة لمواجهة الواقع الاجتماعي والسياسي. كل واحدة من مقاهي ساحات الاعتصام هي مجرد قطعةٍ صغيرة في لوحة لم تتشكل بعد، ولم ترتق أي من هذه الحجارة لتكون حيزاً عاماً بحد ذاتها. ويكمن السر ربما في الساحات، هذه المساحات التي اقتحمت حياة معظم المدن في العالم العربي خلال 2011 ، فصرنا نعرف ميدان التحرير في مصر، ساحة التغيير في اليمن، ثم ساحة التحرير في بغداد، وساحة رياض الصلح في بيروت، وساحة النور في طرابلس. ربما تستطيع هذه الساحات أن تشكل تلك اللوحة الكبيرة، ذاك الحيز العام، الذي يكسر حدود تلك المجموعات المدينية المتخفية في مقاهيها.

مقالات من لبنان