رمضان موريتانيا المزين بآلاف النجمات

دخول شهر رمضان إلى موريتانيا لا يتم إلا إذا أثبتته هيئة علماء موريتانية، بعد أن تجتمع لديها شهادات شهود من مناطق مختلفة من البلاد رأوا الهلال رؤية العين. والاستعداد له يحصل على وفق بساطة العيش الموريتانية الرحبة، بلا زينة ولا أضواء خاصة ولا فوانيس، ولا طوابير سيارات تصطف أمام المتاجر الكبرى تكدّس كميات من الأطعمة في صناديقها وكأنها تخشى حرباً أو مجاعة، خلا قلة عادت من الخارج بعادات غذائية
2012-08-10

علّية عباس

أستاذة أدب عربي، مقيمة في نواكشوط


شارك
يحلّ الشهر ضيفاً غالياً على هذه البلاد

دخول شهر رمضان إلى موريتانيا لا يتم إلا إذا أثبتته هيئة علماء موريتانية، بعد أن تجتمع لديها شهادات شهود من مناطق مختلفة من البلاد رأوا الهلال رؤية العين. والاستعداد له يحصل على وفق بساطة العيش الموريتانية الرحبة، بلا زينة ولا أضواء خاصة ولا فوانيس، ولا طوابير سيارات تصطف أمام المتاجر الكبرى تكدّس كميات من الأطعمة في صناديقها وكأنها تخشى حرباً أو مجاعة، خلا قلة عادت من الخارج بعادات غذائية واستهلاكية جديدة، أو ثروات تسمح لها بذلك، أو هبطت عليها هذه العادات من الفضائيات العربية في السنوات الأخيرة.
يحلّ الشهر ضيفاً غالياً على هذه البلاد التي "تتمون" بشكل أساسي مما تجود به أرضها أو بحرها: التمر والأرز والكسكسى والبصل والجزر واللفت والذرة واللحوم والحليب ثم السمك. والنقص في الكميات المطلوبة يستكمل من الواردات المغربية أولا ثم الاسبانية. أما الفواكه والحلويات فترفٌ لا يحصّله ألا المقتدرون مادياً والمتأثرون بثقافة غذائية جديدة حملوها معهم من دول أخرى عاشوا فيها زمنا للدراسة أو العمل.
ربة المنزل الموريتانية لا تمضي الساعات الطوال في مطبخها لتحضير الأطباق الرمضانية. هذا اذا دخلته، اذ يتم الاستعانة عادة ب"شغّالة" لهذه المهمة حتى في الأيام العادية من قبل العائلات المتوسطة الحال. وتلجأ إليه في هذا الشهر عائلات أخرى أقل إمكانيات مادية، إذ أن المرأة الموريتانية لا تعتبر نفسها خادمة لعائلتها بل سيّدة تُخدم. وفي الحالتين، "السفرة" واحدة تتكرر في معظم البيوت والمدن على مدى الشهر، والكميات المعدّة لا تحضّر لتكفي أفراد العائلة نفسها فقط، إذ أن ضيوف آخر لحظة من الأقارب أو الأصحاب قد يحضرون دونما إعلام مسبق، وأيضاً دونما تأفف من أهل الدار، فهذا جزء من ثقافة البادية المتأصلة والتي لم تغيّرها المدنيّة حتى الآن. وبعد، فإنّ للجار الضعيف حصّة أكيدة، حقاً على الأكثر اقتداراً.
لا يُتناول الطعام دفعة واحدة، ولا يعاني الموريتانيون من تعب ما بعد الإفطار، إذ يتم ذلك على مراحل متباعدة، أولها قبل أو بعد صلاة المغرب وآخرها السحور، ويتخلّلها دائما وبكثرة شرب الماء وما توفر من السّوائل، خاصّة "الزريق".
البداية طبعاً بالتمر الموريتاني، ولكن بكمية "معتبرة" لا بحبّات معدودة، قد تغمّس بالقشدة أو تأكل "سادة"، بحسب المقدرة المادية، ثمّ الحساء الذي يعدّ من العدس وبعض الخضار الأكثر توافراً ورخص ثمن، أو الحريرة المغربية. يشرب الحساء شرباً في أكواب بعد أن يطحن، (وإلا لماذا نسميها "شوربة"؟) فملاعق الطعام لا تدخل في عدّة المطبخ الموريتاني ما دامت اليدان متوفرتين ولا تكلّفان سوى الغسل بالقليل من الماء.
يلي ذلك أو يسبقه الشراب الوطني، "الزريق"، المعدّ من القليل من اللبن الرائب والكثير من الحليب والسكر والماء البارد، أيضا إن توفر، يتداور الجميع على شربه من إناء خشبيّ مصنوع محلّيّا. وهنا لا بدّ من "الأتاي" - الشاي الأخضر المضاف إليه النعناع الأخضر والكثير من السكر، أكواباً ثلاثة لا بدّ من إتمامها وإلاّ عدّ ذلك قلّة احترام للمعدّة، التي تستغرق في تحضيره وتوزيعه أزيد من ساعة. بعدها تأتي المرحلة الثانية، الطّاجن.
الطاجن هو الحاضر الدائم على السفرة، أكانت العائلة غنيّة أم فقيرة، وهو يصنع من لحم إبل أو غنم بحسب المنطقة، مضافاً إليه البصل المقطّع والملح والفلفل الأسود، وقد تقدّم معه السلطة المكوّنة مما يتيسر من الخضار، يتناول بالخبز، ولا يكون ذلك سوى تمهيد أو "إسكات جوع" بانتظار العشاء. وهذا ما يعنيه الطاجن في موريتانيا. والفاصل بين المرحلتين يكون بـ"الأتاي" أيضا. وبالطبع، بصلاة التراويح، وبالتالي فلا يقدّم العشاء إلاّ حوالي منتصف الليل.

العشاء واحد تقريباً مهما اختلفت المناطق أو الطبقات، هو الطبق المغاربي المشهور: الكسكسى، ولكن بنكهة وخصوصية محلّية على الأغلب: الدقيق المأخوذ من القمح أو نوع خاص من الذرة المبخّر على بخار اللحم، والمضاف إليه الخضار المتاحة والتوابل. ويتم تناوله أيضاً باليد. وقد يكون الطّبق دجاجاً في حال اليسر المادي. وفي حال العسر، يستبدل الدقيق بالشعيريّة المحضّرة مع اللحم وصلصة البندورة، ويكون ذلك نهاية مرحلة الإفطار.
الوجبة الأخيرة والأكثر بساطة والأقلّ كلفة هي طبق السحور: "النشا"، وهو عبارة عن شراب لزج نوعاً ما، مكوّن من دقيق القمح أو الذرة ممزوجاً بالماء فقط. وقليلاً ما يكون طبق أرز مطهوّ بالماء يضاف إليه القليل من الحليب.
لكن، لن يغفر لنا أهل العاصمة نواكشوط خاصّة، إن أسقطنا من الصورة العامة التي قدّمناها خروجهم إلى أطراف المدينة حيث قطعان الإبل مع أصحابها بانتظار من لا يعتبر غذاءه تاماً إلا إذا شرب ليتراً من حليب الإبل على الكثبان الرمليّة، حيث تنعشه نسمات الهواء الزاحف من المحيط الأطلسي، وتغطّيه سماء مزيّنة بـ"آلاف النجمات" في جوّ من موسيقى السكون التي قد لا يفهمها سوى ساكنتها.

 

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه