"خذلان" أمريكي لثورة السودان

تفحص لأسباب "تجاهل" واشنطن للسودان الجديد الذي نجحت ثورته الشعبية السلمية في فرض المرحلة الانتقالية بعد الاطاحة بالبشير، وهي التسوية السياسية التي توصلت لها مع تكتل العسكريين المتبقي من النظام البائد. المنجز هائل، لكن اهتمامات الادارة الامريكية تقع في مكان آخر.
2019-11-23

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
إبراهيم الصلحي - السودان

في اليوم التالي لتكوين حكومة الفترة الانتقالية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، استقبلت الخرطوم أول زيارة لمسؤول غربي كبير هو وزير الخارجية الألماني، ثم كرت سبحة الزيارات، من وزراء خارجية فرنسا والسويد، كما بعث الاتحاد الأوروبي وزير خارجية فنلندا التي تترأس هذه الدورة للاتحاد، لحضور حفل توقيع وثائق الفترة الانتقالية بين العسكريين والمدنيين. بل وجهت فرنسا دعوة رسمية إلى حمدوك لزيارة باريس حيث استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال في مؤتمره الصحافي إن السودانيين يستحقون وطناً جميلاً مثل كتابات الطيب صالح وموسيقى محمد وردي.

الغائب الأكبر عن كل هذا الاهتمام الغربي كانت واشنطن، التي نشطت عبر تغريدات كبار المسؤولين في الإدارة وأعضاء في الكونغرس أو مجلس النواب تعبيراً عن دعمهم لثورة السودان، وخاصة أن المطالبة بالدولة المدنية ونجاح تجربة الانتقال من الوضع الديكتاتوري السابق وإعادة التموضع مع الاقتصاد العالمي ومؤسساته، تعتمد إلى حد بعيد على إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفتح الطريق أمام إعفاء ديونه التي تجاوزت 50 مليار دولار.

وكانت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون هي التي أضافت اسم السودان إلى القائمة في العام 1993، أي أن هذا الإجراء تجاوز عمره اليوم ربع القرن، وأضيفت إليه إجراءات حظر اقتصادية متعددة عبر السنين، وأهم من ذلك أنه يفرض على أي إدارة أمريكية الاعتراض على أي قروض تقدمها المؤسسات المالية العالمية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين. كما أن الغرامات الباهظة (وصلت إلى 9 مليار دولار) التي فرضتها واشنطن على بعض المصارف العالمية مثل "باريبا" الفرنسي لتعامله مع دولتي السودان وإيران دفعت الغالبية العظمى من المصارف الإقليمية والدولية إلى تجنب التعامل مع السودان.

مقالات ذات صلة

الإدارة الأمريكية أبدت بروداً تجاه ثورة السودان والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك. فعلى الرغم من ذهاب الأخير إلى نيويورك لحضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول/ سبتمبر، إلا أن الإدارة لم توجه له دعوة للقدوم إلى واشنطن، بل حتى أن وزير الخارجية مايك بومبيو لم يجد فسحة وقت للالتقاء بحمدوك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة التي جمعتهما، واقتصرت لقاءات حمدوك على مسؤولين أمريكيين أقل مرتبة وفي مجال العون الإنساني تحديداً.

لم تحدد واشنطن وقتاً لبدء مرحلة حوار جدي بين البلدين، حتى يمكن على ضوئه البدء في إجراءات رفع اسم السودان من هذه القائمة، مثلما كانت قد فعلت مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، حيث كانت قد أعلنت عن بدء تلك المرحلة في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، لكنها عادت وأوقفتها بعد تصاعد الاحتجاجات ضد البشير مطلع هذا العام.

مطالبات وإجراءات

جاءت المطالبات برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب من العديد من الدول وحتى المنظمات، ومن سكرتير عام الأمم المتحدة، ما دفع الإدارة الأمريكية إلى طرح رأيها حول القضية. فتحدث مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية تيبور ناجي في مؤتمر صحافي رتّبته الإدارة فيما يبدو للإجابة على هذا السؤال. قال إن عملية الرفع هذه تتضمن إجراءات تحتاج إلى فترة قد تصل إلى العام وليست حدثاً يمكن القيام به بجرة قلم، مثلما حدث مع تخفيف العقوبات الاقتصادية التي قررتها إدارة ترامب في مطلع عهدها، واستناداً إلى معطيات وضعتها الإدارة السابقة للرئيس باراك أوباما، وتضمنت تحقيق تقدم في خمسة مسارات محددة تم الاتفاق عليها بين الطرفين.

أبدت الإدارة الأمريكية بروداً تجاه ثورة السودان والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك. فلم توجه له دعوة إلى واشنطن بينما كان في نيويورك لحضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يلتق به وزير الخارجية الأمريكية هناك، ولم تحدد وقتاً لبدء حوار بين البلدين للوصول إلى إجراءات رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، مثلما كانت قد فعلت مع نظام البشير!

رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يتطلب بداية أن تقوم وزارة الخارجية - بعد اقتناعها بأنه لم يعد هناك ما يبرر بقاء الدولة المعنية في تلك القائمة - برفع توصية للبيت الأبيض بهذا المعنى، ويقوم البيت الأبيض بطرح تلك التوصية على الكونغرس وإذا لم يتم اعتراض في غضون فترة ستة أشهر يتم الحذف من القائمة.

في حالة السودان، فإن هناك ثلاث قضايا محددة، تتلخص في توصل وزارة الخارجية إلى قناعة أن الحكومة المدنية القائمة تسيطر على الوضع فعلاً، على الرغم من وجود مكوّن عسكري في السلطة لا يزال بيده بعض مفاتيح القوة، خاصة الأمنية، من خلال سيطرته على وزارتي الدفاع والداخلية باعتباره من يرشح الوزيرين اللذين يشغلان هاتين الحقيبتين، فتتم له بصورة أخرى السيطرة على جهاز الأمن. هذا بالإضافة إلى التساؤل حول مدى قدرة الحكومة الجديدة على تفكيك دولة الإنقاذ العميقة، التي تم بناؤها عبر تمكين كوادر الحركة الإسلامية من مختلف مفاصل الدولة خلال 30 عاماً من عمرها.

القضية الثانية أن عملية الرفع من القائمة أصبحت مرتبطة بسلام دارفور. فلأسباب متباينة، وعلى رأسها نشاط مجموعات الضغط، أصبحت دارفور قضية أمريكية داخلية وجدت طريقها إلى المجالس التشريعية والمنظمات الدولية في وقت وجيز، حيث وصلت إلى مجلس الأمن الذي قام بتحويلها إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي التي قامت بدورها بتوجه اتهام بالإبادة الجماعية إلى البشير، ليصبح أول رئيس لا يزال في السلطة توجه إليه تلك الاتهامات. وكان أن تم ربط أي تحرك لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بتحقيق سلام في دارفور، وهو ما يعني تأجيل الخطوة حتى تحقيق السلام، خاصة بعد سيادة فكرة ضرورة التخلي عن التعاطي الجزئي مع قضايا السودان المعقدة، سواء في دارفور أو في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، والاتجاه إلى حل أشمل يتناول مختلف القضايا في إطار موحد.

أما القضية الثالثة التي لا تحظى بكثير من الانتباه، فتتلخص في كيفية استخدام ورقة الإزالة من القائمة لخدمة المصالح المباشِرة للولايات المتحدة، سواء في ميدان التعاون في مكافحة الإرهاب، أو دعم القضايا التي تهم الولايات المتحدة مثل ضمان الحرية الدينية للمسيحيين، خاصة بالنسبة للجمهوريين، وتحديداً الإدارة الحالية.
ومن القضايا التي تهم واشنطن، الوضع في جنوب السودان. هذه الدولة التي انفصلت بعد حروب طويلة مع شمال السودان، وبفضل دعم أمريكي مباشر في العام 2011، لم يمض وقت طويل لتنزلق هي نفسها في دائرة العنف والحرب الأهلية لخمس سنوات، وذلك بعد عامين فقط من حصولها على الاستقلال. وعلى الرغم من الوساطات العديدة الإقليمية وهي بدعم أمريكي، إلا أنها لم تستطع التوصل إلى اتفاق داخلي له قدرة على الصمود في وجه التشققات القبلية، والطموحات الشخصية لقيادات الدولة الجديدة.

تعاون السودان في "مكافحة الإرهاب" هو أهم ما تنتظره واشنطن، علماً أنها بنت سفارة ضخمة لتكون مركزاً إقليمياً لأنشطتها المتعددة. نظام البشير السابق تمكن من إنشاء جهاز قوي على صلة بالأجهزة المماثلة في الإقليم. وبسبب خلفيته الإسلاموية تمكن من اختراق العديد من هذه المجموعات، الأمر الذي جعل التعاون بين البلدين يتميز بنكهة خاصة في هذا المجال.

السودان دخل على الخط وسيطاً العام الماضي، وتمكن في أيلول/ سبتمبر من حمل مختلف الفرقاء على إبرام اتفاق سلام، وبعد شهرين تواصلت واشنطن مع الخرطوم، وتم الإعلان عن بدء المرحلة الثانية من الحوار بين البلدين، وببند رئيسي وهو إزالة اسم السودان من القائمة.

لكن تبقى قضية تعاون السودان في "مكافحة الإرهاب" هي أهم ما تنتظره واشنطن، علماً أنها كانت قد بنت لها سفارة ضخمة لتكون مركزاً إقليمياً لأنشطتها المتعددة. نظام البشير السابق تمكن من إنشاء جهاز قوي على صلة بالأجهزة المماثلة في الإقليم. وبسبب خلفيته الإسلاموية تمكن من اختراق العديد من هذه المجموعات، الأمر الذي جعل التعاون بين البلدين يتميز بنكهة خاصة في هذا المجال.

ويتردد أن معرفة الخرطوم بهذه الحقيقة هي التي دفعتها إلى القيام بخطوة وقف التعاون في هذا الملف لبضع أسابيع، ما حمل إدارة أوباما للعودة بفكرة المسارات الخمسة التي أدى الوفاء بها إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على السودان.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...