العراق: التجاذبات تودي بالإصلاحات

ما عادت "العملية السياسية" التي أقامها الأميركيون بعد احتلالهم للعراق عام 2003 موحدة، فمساراتها أفرزت في نهاية المطاف ثلاثة مراكز قوى تبلورت ملامحها الأساسية بوضوح على وقع الانتفاضة الأخيرة. المراكز المذكورة هي: مرجعية النجف، ومعها المتظاهرون وإلى حدِّ ما رئيس الوزراء، حيدر العبادي وقسم كبير من الحشد الشعبي. ثم التيار المدعوم إيرانياً، وأخيراً الأميركيون ومعهم تيار مسعود البارزاني
2015-11-12

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك

ما عادت "العملية السياسية" التي أقامها الأميركيون بعد احتلالهم للعراق عام 2003 موحدة، فمساراتها أفرزت في نهاية المطاف ثلاثة مراكز قوى تبلورت ملامحها الأساسية بوضوح على وقع الانتفاضة الأخيرة. المراكز المذكورة هي: مرجعية النجف، ومعها المتظاهرون وإلى حدِّ ما رئيس الوزراء، حيدر العبادي وقسم كبير من الحشد الشعبي. ثم التيار المدعوم إيرانياً، وأخيراً الأميركيون ومعهم تيار مسعود البارزاني كردياً. والتجاذبات بين هذه المراكز خلال الانتفاضة، والأدوار المتباينة التي لعبتها فيها زادت في بلورة وتظهير ملامح تلك المراكز التي سبق أن بدأت تتشكل بعد 10 حزيران/ يونيو 2014، إثر سقوط الموصل على يد "داعش"، لكنها لم تصبح شبه نهائية، ولها حدود واضحة تفصل في ما بينها، إلا على وقع الحدث الأخير، هذا، فيما عيّنت عملية استكمال التشكل هذه، من جهتها، سقف الانتفاضة وقررت مآلاتها.

ما أنضجه الصيف

التظاهرات اندلعت في عز صيف هذه السنة اللاهب من البصرة، أكثر مدن العراق ارتفاعا في درجات الحرارة، وأكثرها تعرضا لانقطاع التيار الكهربائي. وهي تفجرت بداية حاملة مطلباً وحيداً هو الكهرباء، قبل أن تمتد، بعد قمعها ومقتل شاب وإصابة بضعة أشخاص، لبقية مدن الجنوب وأولاها الناصرية والعمارة والكوت والمثنى، ثم بقية مدن العراق الوسطى ومنها النجف وكربلاء. ومع توسعها، اتسعت مطالبها وشعاراتها قبل أن تستقر على مطلب غالب تركّز عند نقطة "الإصلاح"، بمعنى القضاء على الفساد المستشري، ومحاسبة الفاسدين، وإيقاف النهب، ومعالجة انعدام الخدمات إلخ.. القوى الأكثر حضورا في التظاهرات، وخاصة في بغداد، في "ساحة التحرير"، هي بالدرجة الأولى من جمهور وناشطي "منظمات المجتمع المدني" و "التيار المدني الديموقراطي" القريب من الحزب الشيوعي. وهؤلاء ليسوا بعيدين عن "العملية السياسية الطائفية"، ولا يفكرون بالقطع معها، وهم بالأحرى الجناح الإصلاحي داخلها، ما جعل المفاضلة أو المنافسة بين مطلبي "التغيير" و "الإصلاح" محسومة لمصلحة الأخير.
القوى التي تتظاهر أسبوعيا لم تكن أصلاً قادرة على إدامة التظاهرات من دون حماية من طرف قوي وله سطوة على "العملية السياسية" ومؤثر فيها. وأفضل طرف كان المتظاهرون يحلمون بوقوفه معهم هو المرجعية التي بادرت لحمايتهم باتخاذها موقفاً صارماً إلى جانب "الإصلاح"، ما أسقط بيد الحكومة والأحزاب والميليشيات المتنفذة من قوى الإسلام السياسي، وفرض "ترخيصاً واقعياً" للتظاهر تجلى في حماية القوى الأمنية الضخم لها، والتعامل معها بإيجابية.. وهو ما أسهم أيضاً، ومن طرف خفي، في نزع نصلها وإبقائها ضمن سقف المطالبة "المشروعة". وموقف المرجعية هذا جاء امتدادا لحالة ناشئة تولدت بصورة خاصة بعد سقوط الموصل وانهيار جيش المالكي ووصول الخطر إلى مشارف بغداد. وقتها، أصدر المرجع علي السيستاني فتواه بالجهاد الكفائي، لتصبح النجف عمليا هي مركز القرار الراجح، لها جيشها المقاتل بدل جيش الكتلة المدنية الحزبية التي ثبت فشلها أمام مهمة إعادة بناء دولة على أنقاض تلك التي دمّرها الأميركيون وسحقوها بعد 82 عاما من قيامها. وفي وقت كان خليفة المالكي قد جاء ليدير حكومة منزوعة السلطات عمليا وبلا جيش على الأرض، اندلعت الانتفاضة لتزيد في تكريس نفوذ المرجعية، وفي مزيد من إلحاق الحكومة بها بإحراجها عبر تدعيم صوت المنتفضين، مضيفة بذلك لوزنها قوة جديدة.
كان العبادي يواجه مشكلات كثيرة، قد يكون أخطرها كون التيار الرئيسي داخل حزب الدعوة يميل لخصمه المالكي الذي يقود سياسيا الجبهة القريبة من إيران. وهذا المعسكر هو الأقوى بين كتلة المدنيين والحزبيين الإسلاميين خارج المرجعية، وهو يضم "منظمة بدر" التي يتزعمها هادي العامري، مع "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي، بالإضافة لتنظيمات أخرى مثل "حزب الله العراقي" وغيره. وما عدا المالكي، فإن الباقين يقودون تنظيمات عسكرية تقاتل على الجبهة ضد "داعش"، وهم يطلقون على أنفسهم اسم "تنظيمات المقاومة". ومع أن "عصائب أهل الحق" شاركت في أيام الجمعة الأولى في التظاهرات، إلا أنّها عادت وانسحبت بعد ترتيب بيت الكتلة التي ينحازون لها، خصوصا حين بدأت تتعالى نغمة تأثير التظاهرات السلبي على معنويات المقاتلين على الجبهة. وتعبيرا عن هذا الموقف، قام زعيم "منظمة بدر" هادي العامري، بزيارة المراجع الثلاثة الكبار في النجف، من دون المرجع الأعلى علي السيستاني، وأبلغهم بوجهة النظر هذه، فيما لوحظ إقدام التيار الصدري على المشاركة في التظاهرات بعد انسحاب العصائب. ويقول مراقبون إن ما قيل عن تراجع بعض فصائل الحشد الشعبي عن مواقع كانوا يتموضعون فيها في جبهة الرمادي، سببه رغبة قادة الفصائل المذكورة في إحراج المرجعية والعبادي، بالقول لهم إنّ الحشد لن يقاتل تحت الضغط وتصاعد نغمات "علمانية"، أو كما نُقل عن المالكي قوله إنها موجة تريد عودة "البعث" إلى السلطة وإزاحة القوى الإسلامية.

إصلاحات ولكن..

رئيس الوزراء حيدر العبادي قدم حزمة أولى من الإصلاحات، حصلت على تفويض فوري من البرلمان ومن كتلته الانتخابية، "دولة القانون". إلا أنّ تنفيذها تأخر كثيرا. واللافت أن المرجعية برغم إلحاحها على عدم تأخير التنفيذ، ظلت تكتفي بالتوجيه عبر خطب الجمعة الأسبوعيّة، يلقيها ممثلها في كربلاء، حتى أثيرت تساؤلات عن سر هذه الروية، خاصة مع ما يعرف من سياسة الكتمان الشديد المعروفة كتقليد تعتمده المرجعيات عادة. فما هي الحجج التي قدمها رئيس الوزراء للمرجعية حتى ظلت مقتنعة معه بضرورة التريث.. بما عنى التمييع.
المرجعية ليست وحدها، والمتغيرات التي أعقبت سقوط الموصل ودخول "داعش" حفزت أطرافاً أخرى ودفعت بها لإعادة هيكلة أوضاعها. فإيران تتنافس مع المرجعية ضمن "الحشد الشعبي"، بحلفائها من الميليشيات، وهي تملك المال والسلاح من دون الحضور السياسي. وقد ساهمت تداعيات الانتفاضة الحالية والمطالبة بالإصلاح ومحاسبة السرّاق والفاسدين في سد هذه الثغرة. فالمالكي، الذي خسر بقرار من العبادي موقعه كنائب لرئيس الجمهورية، هو واياد علاوي، ضمن سياق الإصلاح وترشيق أجهزة الدولة، زار إيران بعد إقالته مباشرة، وعاد من هناك كي يكمل الإطار السياسي للجبهة المذكورة. والمالكي لا يزال أميناً عاماً لحزب الدعوة، أي زعيماً على العبادي ورئيساً لكتلته الانتخابية، وهو يتمتع بثقل داخل الحزب والكتلة، راجح بقوة على العبادي داخلهما، وبالأخصّ في قيادة حزب الدعوة. وهذه الكتلة تنظر بارتياب لموقف المرجعية وتعارضها سراً، في سياق التنافس المعروف بين المركزين القياديين الشيعيين في العالم. هذا التكتل يمثِّل الاتجاه المحافظ الرافض لأيّ تغيير في تركيب "العملية السياسية" والأسس التي أرسيت عليها، بحجج من قبيل الالتزام بالدستور، وعدم إتاحة الفرصة للعلمانيين لحيازة مواقع مؤثرة.

... والأميركيون

الطرف الثالث المهم يمثله الأميركيون الذين تغيرت مواقفهم وتوجهاتهم هم أيضا بعد سقوط الموصل، وبالذات بعد ظهور "الحشد الشعبي" بمواجهة "داعش". وهم يحاولون تقليص دور الحشد في المعارك، مفضلين الجيش والقوات المسلحة النظامية. غير أن الأخيرة لا وجود لها فعلياً، والحشد هو الذي استعاد محافظتي ديالى وصلاح الدين وعاصمتها تكريت، ويحاصر الرمادي منذ فترة. وقبل أشهر، بدأت القوات الأميركية تعود، مكثِّفة وجودها على الأرض، بالأخص في الحبانية على جبهة الرمادي وفي مناطق إلى الشمال، مستعينة بقوات البشمركة الكردية. والأميركيون ما زالوا يرفضون دخول "الحشد الشعبي" إلى الفلوجة والرمادي، والمعلومات تقول إنّ تعدادهم ومعداتهم في تزايد، والبعض يعزو تحركاتهم الأخيرة إلى التغيرات في الوضع السوري بعد دخول روسيا الكثيف والمباشر، وثمة تسريبات بأنهم ربما قرروا تغيير تكتيكاتهم في العراق بحيث أصبحوا أميل إلى توجيه ضربات فعلية لـ "داعش". وقبل أيام، صرح في الكونغرس رئيس الأركان الأميركي بأنّ معركة تحرير الفلوجة باتت وشيكة. وقد يُعتبر مثل هذا التوجه خطوة استدراكية فعلية أخرى هدفها تقليص الدور الإيراني، بعدما كانت واشنطن قد اعترضت على اشتراك العراق في تنسيق أمني استخباري يضم روسيا وايران والعراق وسوريا، ما جعل العبادي يتراجع عنه.
وهؤلاء لم يكونوا غائبين عن مجريات الانتفاضة. ويتردد أن سفارة الولايات المتحدة في بغداد سلّمت العبادي قائمة تفصيلية دقيقة بالأموال المهربة المودعة في البنوك في الخارج وبأسماء مودعيها. لكن العبادي حين لمح لاحتمال فتح المنطقة الخضراء بوجه المواطنين، تلقّى من السفير الأميركي اعتراضا شديد اللهجة، مذكراً إيّاه بأنّ سفارة بلاده تقع فيها. وفي خطوة لافتة تعد انتهاكاً صارخاً للسيادة، قامت القوات الأميركية بالاشتراك مع البشمركة الأكراد مؤخرا بعملية إنزال على سجن في قضاء الحويجة غربي محافظة كركوك شمالا، فُهم من تصريحات الأكراد أنّها فشلت ولم تحقق أهدافها المتمثلة في تحرير أكراد من البشمركة كانوا قد اختطفوا على يد "داعش". وبالتوازي، شاعت معلومات عن قرب تعيين "عماد الخرسان" مديرا عاما لمجلس الوزراء. والخرسان مهندس أميركي من أصل عراقي، كان في هيئة مستشاري بول بريمر، الحاكم العسكري للعراق بعد الاحتلال، وحين يعود الآن، فإنّ أول ما يفهم من خطوة كهذه أن الأميركيين يريدون الإمساك بمركز القرار الرسمي بوجه إيران والمرجعية معاً. بل شاع أن الخرسان سيكون رئيس الوزراء القادم، وأن العبادي موشك على الرحيل!
بعد هاتين الخطوتين مباشرة، أصدر "ائتلاف دولة القانون" الذي يتزعمه المالكي، بيانا قرر فيه سحب تفويضه الذي كان قد منحه للعبادي في بداية الانتفاضة، ولم ينسَ الموقعون عليه أن يذكروا بأنّ الإصلاحات ينبغي ألا تتجاوز الدستور، كما أنهم لم ينسوا إحالة موقفهم هذا إلى المرجعية التي تقول هي أيضاً بضرورة الالتزام بالدستور. والموقف على رمزيته وضعفه الإجرائي خطير، ويعتبر أول إشارة لبدء الهجوم المضاد. وهو يعني أن هذه القوى لم تعد خائفة كما كانت الحال مع بدء التظاهرات. ففي لقاء مع أحد المراجع الثلاثة صرّح المرجع لمجموعة من المتظاهرين قائلا إن الفاسدين "يخافونكم جدا".
ومع حلول شهر محرم، تقرر إيقاف التظاهرات تحاشياً للاستفزاز، لكنها كانت قد انحسرت فعلياً قبل ذلك بأسبوعين، ومعها انقضت في الغالب جولة على طريق طويل، من الصعب تبيّن مساراته ونهاياته الآن.

للكاتب نفسه

الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون...