يسقط كل شيء

يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه: يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية والفساد والقمع، سنسقطكم، سنسقط كل شيء.
2019-11-10

عاصم ترحيني

كاتب من لبنان


شارك
محمد خياطة - سوريا

مضت سنتان على هجرتي إلى ألمانيا. خلال هذه الفترة، وجدت نفسي. قد شغرت وظيفتين حيويتين لم أكن أدري أنني أملك مهارتيهما. الأولى أنني تحولت إلى خبير ومستشار لعدد كبير من الأصدقاء والغرباء، وذلك للمساعدة وتقديم النصح، في عملية تقديم أوراق الهجرة أو اللجوء إلى ألمانيا.

أما الوظيفة الثانية، فانشغلت فيها بتقديم إعتذارات اللاجئين السوريين، على ما فعله لبنان دولة وشعباً في بلادهم، وعلى كل ما حل بمن لجئ إلى بلادنا، من تصريحات السياسين العنصرية، والمتاجرة بالمساعدات والدعم، وممارسات المؤسسة الأمنية، والصحافة وبعض البلديات العنصرية وأرباب العمل.

في الوظيفة الأولى، صادفت شابات وشبانا لبنانيين، من جيلي أو من الجيل الأصغر، أقصى ما يحلمون به، إيجاد ظروف حياة أفضل من تلك التي عاشوها، لأطفال لم يولدوا بعد. ورأيتهم يقاتلون بلا يأس ولا كلل، من أجل استقدام عائلاتهم إلى منافيهم، كي يؤمّنوا لهم نهايات تحفظ كراماتهم، بعد سنين مديدة من الذل والمهانة على أبواب الزعماء وملوك الطوائف، استجداءً لحق لا مِنّة فيه.

أما في الوظيفة الثانية، فكنت حين أصادف لاجئاً سورياً، أنكمش على نفسي، أتناوب ما بين الخوف والاعتذار، خوف الإفصاح عن لبنانيتي ثم الاعتذار عنها، وأتحضر لما سيلي من نظرات العتب، التي تخترق بحرقتها الأبدان، نظرات تسألني بمرارة: "أيها الجار ماذا فعلتم ببلادي؟".

أولى الكلمات التي أقولها حين أكتشف أن محادثي سوري: "الحمد الله ع سلامتك"، وفي قرارة نفسي، كنت أشعر بالخجل من سؤالهم عن أهلهم، أصدقائهم، وحياتهم السابقة، إذا سلمنا جدلاً أنها أمست سابقة، ولا أتجرأ أبداً على السؤال عن رحلتهم من سوريا إلى ألمانيا، ومعاناتهم اليومية مع البيروقراطية الألمانية.

في ألمانيا، يوجد جيل كامل من الشابات والشبان السوريين، يعيش حالاً من التخبط والغربة والوحدة والتشتت، شباب اقتلعوا من مجتمعاتهم وأحلامهم وصداقاتهم وأنماط حياتهم، ورُمي بهم إلى مجتمعات جديدة ولغات جديدة، وتبعثرت تواريخهم وعلاقاتهم ما بين مخيمات وعواصم وبرامج لجوء، فكيف لا أعتذر منهم حتى لو أني ضحية مثلهم؟

منذ بداية ثورة 17 تشرين، أحسست أني على وشك الاستقالة من وظيفتيّ الاولى، قلبت الثورة صفحتها البيضاء أمامي، ووعدتني "بنبيذ وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح"، ورحت أتابع الأخبار وصفحات الفيسبوك لحظة بلحظة، فأخاف على أهلي في النبطية، أرقص مع طرابلس، أقرع الطبول مع صيدا، أصمد مع المحتجين على جسر الرينغ وجل الديب والذوق والشيفروليه، أهتف كرمالكِ يا صور، أدمع لمشهد أهالي البقاع، أبتسم لأهالي عاليه والشوف والبدواي والمنية وعكار وبنت جبيل، ويهفو قلبي لبيروت.

أنظر إلى ما يفعله جيل المدارس والجامعات الآن، وأتعجب. كيف استسلم جيلنا لكل الإهانات؟ كيف تركنا اليأس والعدمية يستبدان بنا؟ ولماذا تقاعسنا عن إنقاذ أنفسنا وإنقاذ بلدنا، فيئسنا ويئس بلدنا منا؟

أنا اللبناني منذ أكثر من عشر سنوات، وجدت نفسي وأنا على عتبة الثلاثين، أن أكثر شيء أتقنته في حياتي، هو حزم حقائبي، والبحث عن منفى جديد. كل سنتين أو ثلاثة، أودّع مدينة، وأترك فيها صداقات وعلاقات وأحلام وخيبات، أمحو أسماء وأرقام ناسها من هاتفي، أودِّعها، وأحرق خلفي رسائل الحب والذكريات، وأنطلق إلى مدينة جديدة، متوهماً أني أملك القدرة على استصلاح أرضها لتصبح موطناً لي.

سفينتي رست منذ سنتين على شاطئ مدينة ألمانية على بحر البلطيق، سنتان وأنا أعيش في بلاد لا أتقن لغتها إلا قليلاً، أنا الذي أدمنت في بيروت قراءة الجرائد على بسطات شارع الحمرا وكتابة الأغاني على الجدران، وارتياد المسارح والنقاشات السياسية والفلسفية، أدبُّ في الطرقات تائهاً، لا شيء يشبهني، لا أفقه معاني العبارات المرفوعة على الأعمدة وفي الشوارع والمتاجر والحمامات العمومية. أقرأ ولا أفهم عناوين الصحف، واللوحات الإعلانية، والعروضات والحسومات في السوبر ماركت، لا أفهم سيل الشتائم الذي ينصب علي، إذا مررت بجانب نازي متعصب مخمور، لا أفهم كلمات الأغاني ولا أحاديث الغرباء في الباص والمترو والسوق، أدخل مكتبة أحياناً، أبحث فيها عن كتاب أو منشور عربي، رغم أني أعرف مسبقاً أنني لن أجده، وأن ضرب التهريج هذا سيتكرر كلما تملكني الشوق.

مقالات ذات صلة

قبل ألمانيا، كان لي تجربة طويلة وعميقة في العراق. العراق بالنسبة لي هو وطني الذي إخترته عن حب وقناعة، لا وراثة. عراقيتي لا تتناقض ولبنانيتي، وهي أشبه بفطرة ولدت عليها وأعيشها. تخونني القدرة على وصف مآسي العراق اليوم، مهما حاولت وصف المشهد، فالحياة هناك موت، شلل تام، انعدام أفق، بطالة، غياب كلي للخدمات، فقر، إذلال، عشائر، طوائف، قوميات، إثنيات وتشكيلات ما قبل المدينة، ملل، ثم ملل، ثم ملل، عدمية ويأس ولا جدوى، وفوق هذا كله كذب وقمع وإرهاب وتكفير ونهب وفساد وإيران! لو سأل سائل عن حكاية حياة أي عراقي، لاكتشف تراجيديا تاريخية، كل أغانيهم حزينة، رواياتهم حزينة، نهاياتهم حزينة وبداياتهم أيضاً، ذاكرتهم مثقلة بصور المجازر والسجون والعنف والقتل والجوع والهجرة.

يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه، يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية والفساد والقمع، سنسقطكم، سنسقط كل شيء.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

عمارة كروغسون... فلينسبرغ

أكمل كل منّا ذكرياته، متنقلين ما بين مساقط رؤوسنا وأفئدتنا، شمال الجليل وجنوبه. هو يحدثني عن شاطئ حيفا وحي الألمانية، والمعارك اليومية ضد الاحتلال والماشتاب والمستعربين والمتعبرنين والتهويد والعنصرية، وأنا...