في امتحان "الشمال" السوري.. حين تصبح الهويات بنادقاً ومتاريساً!

أظهرت التفاصيل العامة في "اتفاقية المنطقة الآمنة"، التي تلقى قبولاً دولياً، أمريكياً وروسياً وحتى إيرانياً، أن الدور السوري– الذي يفترض أنه أساسي ومحوري–هو باهت من كل الجوانب، السياسية والعسكرية والاجتماعية، وأنه أقرب إلى "كومبارس" يتحرك وفق التعليمات من هذه الجهة أو تلك.
2019-10-17

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
الطيب ضو البيت - السودان

تقول "مارلين" في تعليق لها على فيسبوك تعقيباً على إعلان عملية "نبع السلام" التركية على سوريا: "الله لا يخلي واحد كوردي"، ويرد عليها "أحمد": "الله لا يخلي فيك مفصل"، وتستمر المعركة الافتراضية بينهما حتى يعلم أحمد أن أخ الصبية التي هي من الساحل السوري (علوية بالمناسبة) قد قتله الأسايش في منزله بمدينة القامشلي قبل عامين ونصف لأنه "شرطي تابع للنظام السوري"، فيتوقف القصف المتبادل بينهما.

أعاد العدوان التركي الأخير على الشمال السوري إبراز الاستقطاب الحاد والتخندق العميق بين السوريين بمختلف جغرافياتهم، نخباً وأفراداً وأحزاباً وجماعات ومجتمعات، داخل البلاد وخارجها، متسبباً من جديد، بمزيد من التشظي والانقسام، في الوقت الذي يحتمل فيه أنه يفتح باباً لتغييرات كبرى في وضع البلاد.

لحظات المشهد السوريالي الأخيرة

العدوان التركي الأخير ليس الأول من نوعه. ففقد شهدت البلاد منذ العام 2016 ثلاث عمليات عسكرية تركية (كما غيرها من روسية وأميركية و...) شملت مناطق مختلفة وصلت ذروتها إلى وسط البلاد تقريباً (ريف حماة ونقطة مراقبة مورك). إلا أن عملية "نبع السلام" الأخيرة تميزت بجملة عوامل جعلت منها مفصلاً رئيسياً في مسار الماساة السورية.

أولها أنها ستنفذ - وفق التصريحات التركية - على منطقة واسعة جداً (عمق 30 كلم وطول 425 كلم، أي مساحة 12 ألف كلم مربع، وبعدد سكان يفوق 3 مليون إنسان)، وثانيها وهو الأهم، أنها تطال منطقة التواجد الكوردي الرئيسية في سوريا، أي منطقة "الإدارة الذاتية لشرق وشمال سوريا" التي أعلنتها "وحدات حماية الشعب"(الكوردية) عام 2013 من جانب واحد دون موافقة دولية أو إقليمية، وتبعها تأسيس "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) عام 2015 من مختلف القوميات التي تقطن المنطقة. وهي تسيطر عسكرياً وإدارياً واقتصادياً وسياسياً على منطقة ما يعرف تاريخياً باسم "الجزيرة السورية"، ويطلق عليها في الأدبيات الكوردية اسم "روجافا" (أي غرب كوردستان)، وهي المنطقة الأغنى في سوريا فهي خزان القمح والنفط والغاز، ومن هنا أهميتها المطلقة لكل الأطراف.

شهدت هذه المناطق واحداً من فصول الحرب السورية الأشد قسوة، قادتها "قسد" ضد "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"(داعش) بالتعاون مع "التحالف الدولي" الذي أنشأته واشنطن عام 2014، وتمثل القواعد والقوات الأميركية عموده الفقري رغم قلة عددها (2000 جندي). وقد تسبب القرار الأميركي بالانسحاب من المنطقة والجدل المرافق له داخل واشنطن، بانزعاج كوردي كبير ومطالبات بعدم الانسحاب، خاصة أن واحداً من أسباب عدم تمكن الجيش السوري من السيطرة على مناطق شرق الفرات (بغياب قوات المعارضة) يعود إلى قصف قوات التحالف له ولعدة مرات لدى محاولته عبور الفرات إلى تلك المناطق، وأبرزها قصفهالجسر دير الزور التاريخي.

بعد أسبوع من العدوان التركي الذي خلف ضحايا قدرت مصادر محايدة عددهم ب500 قتيل، وتدميراً للبنى التحتية في بعض المناطق الشمالية، منها سد جنديرس، والانسحاب الأميركي المتسارع الذي ثمّنته أنقرة.. دخلت موسكو على خط الصلح مع دمشق، الأمر الذي أفضى إلى اتفاق (عسكري) بين السلطة والطرف الكوردي، تم بموجبه بدء انتشار الجيش السوري في مناطق سيطرة "قسد"، وتسليمه إدارة تلك المناطق عسكرياً (وفقاً لبيان "الإدارة الذاتية") حيث سيتعاون الطرفان على "صد العدوان التركي" وفق البيان نفسه.

بعد أسبوع من العدوان التركي والانسحاب الأميركي المتسارع الذي ثمّنته أنقرة.. دخلت موسكو على خط الصلح مع دمشق، الأمر الذي أفضى إلى اتفاق (عسكري) بين السلطة والطرف الكوردي، تم بموجبه بدء انتشار الجيش السوري في مناطق سيطرة "قسد"، وتسليمه إدارة تلك المناطق عسكرياً.

انتشر الجيش السوري في مدن الرقة والحسكة وأحياء شرق حلب وبعض مناطق الحدود بالتزامن مع استمرار تدفق قوات برية تركية مع قوات سورية معارضة أنشأتها الأخيرة (تحت اسم "الجيش الوطني السوري" يقدر عددها وفق مصادر تركية ب75 ألفاً) إلى حدود منبج (حيث يوجد كذلك عدة آبار نفط) التي أكد الرئيس التركي أنه يجب إخلاؤها من المسلحين تمهيداً لعودة "سكانها العرب"، مثمّناً في الوقت نفسه"السياسة الروسية الإيجابية" في المنطقة! أما الرئيس الأميركي فأعلن أنه "سيدمر اقتصاد تركيا" إن استمرت العملية العسكرية التركية "بهذا الطريق المدمّر"،وبدأ ذلك فعلاً بزيادة الضرائب على واردات الصلب التركية مما أدّى إلى تسارع في انخفاض قيمة العملة التركية.

شيزوفرينيا على كل الجبهات

هذا المشهد السوريالي الذي تتداخل فيه العوامل والحسابات السياسية والعسكرية مع تلك الأيديولوجية والعرقية والدينية، شارك في صياغته لاعبون دوليون مؤثرون في الحدث السوري، أولهم الروسي والأميركي، اللذان رسما مع اللاعب الأبرز حالياً في الساحة السورية (أنقرة)، بموافقة إيرانية ضمنية، تفاصيل المرحلة القادمة، التي يبدو أن أساسها إنشاء المنطقة الآمنة وتوطين عدد كبير من اللاجئين السوريين القادمين من تركيا فيها (قالت الرئاسة التركية إنهم 3 ملايين سوري)، على الرغم من احتجاجات أهالي المنطقة.. التي لن تؤخذ بالاعتبار من أي الجهات الفاعلة على ما يبدو.

التحولات التي شهدتها مناطق الشمال السوري بتسارع كبير، خلقت مفارقات ظهرت فيها "شيزوفرينيا" أحالت السياسة، كعلم، إلى مزبلة التاريخ، وكانت تجسيداً لانهزام كامل في مفاهيم كثيرة على الصعيد الوطني السوري بما هو أفق جامع.. كما يفترض.

هذه التفاصيل العامة في اتفاقية المنطقة الآمنة، التي تلقى قبولاً دولياً (وأوروبياً، مخافة تدفق ملايين من اللاجئين من جديد)، أظهرت أن الدور السوري المفترض أنه أساسي ومحوري، باهت من كل الجوانب، السياسية أو العسكرية، وحتى الاجتماعية، وأنه أقرب إلى "كومبارس" يؤدي دوره في انتظار التعليمات من هذه الجهة أو تلك، ويصح ذلك على مختلف الأطراف الجالسة على طاولة العشاء السوري غير الأخير على ما يبدو.

التحولات التي شهدتها مناطق الشمال السوري بتسارع كبير، خلقت مفارقات ظهرت فيها "شيزوفرينيا" أحالت السياسة، كعلم، إلى مزبلة التاريخ، ولم يكن الأمر منوطاً بارتجال حدث نتيجة تغير سياسي مفاجئ قامت به القيادة الكوردية لأسباب عديدة، بقدر ما كان تجسيداً لانهزام كامل في مفاهيم كثيرة على الصعيد الوطني السوري بما هو أفق جامع.. كما يفترض.

هذا الانهزام الداخلي للجمع السوري، حمل في طياته تثبيتاً لما بدأت بسببه الأزمة السورية قبل تسع سنوات: غياب السلّم القيمي المشترك بين السوريين، حتى في أبسط درجاته، من الانتماء إلى "دولة" لها علم واحد وكيان واحد وحدود واحدة، والمواطنة المفقودة على قدم وساق مع بقية الحقوق الإنسانية من كرامة وإنسانية وعدل. لقد كان واضحاً أن تبادل إطلاق النار بين مختلف الفرقاء السوريين على امتداد القنوات التي تتيح لقاءهم، ولو كانت افتراضيةً، ليس مجرد فشّة خلق بقدر ما هو استمرار لعملية تراكمية قد يكون من نتائجها تقسيم الوطن السوري،ولو ضمنياً، دون كبير أسى لدى كثيرين.

عن الكوردي والريح والشمال

كمية الشيزوفرينيا التي صاحبت العدوان التركي على الشمال السوري منذ أسبوع، حتى بعد دخول القوات الحكومية السورية إلى مناطق الإدارة الذاتية، ظهرت في الجانب الكوردي بوضوح بالغ. فمن المعروف والمعلن، أنه لتمكين إنشاء الإدارة الذاتية وغيرها من الأدوات التنفيذية التي خرجت جميعاً من تنظيرات "عبد الله أوجلان" (المعتقل في تركيا منذ قرابة العقد)، استعانت "وحدات حماية الشعب" (الكوردية التأسيس) بالدعم الأميركي الذي قدّم لها التسهيلات اللوجستية والعسكرية، وهذا على الرغم من نفيها المستمر. وقد افترضت تركيا أن هناك علاقة مخفية بين وحدات حماية الشعب والإدارة الذاتية، ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه "إرهابياً" (ومعها واشنطن والاتحاد الأوروبي والناتو)، وهي الحجة التركية القديمة ـ الجديدة للتدخل العسكري في سوريا لأسباب تركية داخلية وأخرى إقليمية.

انتقادات الإدارة الذاتية جاءت من عدة تصرفات وسياسات قامت بها في جانبها المدني (المنتخب!) والعسكري، وأهمها، انتقال مشروعها المحلي (الذي كان من الممكن أن يكون رافعة وطنية للحوار السوري ـ السوري) إلى ملامح انفصالية فعلية،على الرغم من نفيها مراراً وتكراراً سعيها للانفصال. ولا يبدو ، من الجانب المقابل، أن نداءات الإدارة الذاتية باتجاه دمشق سابقاً قد أتت أكلها، أيضاً لأسباب مرتبطة ببنية النظام نفسه، الرافض لأي انفتاح على مكونات الشعب السوري وعلى الحوار الداخلي، والمتشبث بنظرية المؤامرة الكونية.

وعلى الرغم من وجود جانب كوردي لدى إئتلاف اسطنبول المعارض، رافض لمشروع الإدارة الذاتية، إلا أن حضوره الفعلي على الأرض غير ذي أثر، سواء لدى الجمهور الكوردي أو العربي.

من أبرز الممارسات التي المحت الى الانفصالية" اعتماد علم كوردستان التاريخي (علم إقليم كوردستان العراقي نفسه) على جميع مؤسسات الدولة السورية السابقة، كما أقدمت على وضع لوحات تسجيل للسيارات خاصة بها ومنهاج تعليمي كذلك، وبدأت باستيفاء الرسوم (الجمركية) على كل تجارة قادمة إليها (حاجز الرقة التابع لقسد كان يسلّم الناس إيصالات رسمية بتوقيع وختم الإدارة الذاتية). يضاف إلى ذلك، تهجير سكان عدة قرى بحجة انتمائهم لداعش أو غيرها، وإغلاق عدة مدارس سريانية في القامشلي لعدم تدريسها المنهاج الكوردي..ولقد كان على من يرغب بزيارة تلك المناطق من أصحاب الأرض الأصليين (عرب وسريان وغيرهم) تأمين كفيل كوردي مع دفع رسوم!

انتقادات "الإدارة الذاتية"الكوردية جاءت من عدة تصرفات وسياسات قامت بها في جانبها المدني (المنتخب!) والعسكري، وأهمها، انتقال مشروعها المحلي (الذي كان من الممكن أن يكون رافعة وطنية للحوار السوري ـ السوري) إلى ملامح انفصالية فعلية،على الرغم من نفيها مراراً وتكراراً سعيها للانفصال.

العدوان التركي على مناطق الشمال السوري استدعى لدى العرب ـ حتى داخل مناطق الإدارة ـ نوعاً من التشفي ب"الإدارة" (وكوردها) التي اعتقدت أن علاقتها بالأميركي والفرنسي هي "أبدية"، و"علاقة ندية"، و"صداقة شعوب"،وأنها ستحميها من أي تغوّل قد يقوم به التركي أو غيره، متناسيةً عدة تجارب كوردية مع الداعم الدولي انتهت إلى الفشل وتفوق فيها كالعادةالسياسي / المصلحي على المبدئي.

في محنتهم الأخيرة، كان من الشيزوفرينيا، أن من استقوى بالولايات المتحدة وشركائها، يجرّم بشدّة من استقوى بالعثماني الجديد، كأن الأميركي القادم من مسافة 7000 ميل، على حد تعبير الرئيس الأميركي ترامب "ليقود العالم دون سبب"، يفعل أمراً مختلفاً عن العثماني، كما عن الروسي أو الفرنسي.

من جانب ثان، لا يعني ما سبق تحميل الوزر للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. لقد فتحت "قسد" الحدود للدوريات التركية والأميركية، كما طلبت واشنطن منها، وكان الجندي السوري، لأكثر من عامين، في مخفره في منبج مثلاً، بالقرب من قوات "قسد" دون أي تهديد من قبلها له. ولكن، هل كان هذا كافياً لوقف التغوّل التركي ومعه ميلشياته في ظل إمكانية تحقيق مكاسب إضافية لسلطان البرين وخاقان البحرين بقليل من الخسائر؟ بالتأكيد لا.

من الصحيح القول أن "إن الكورد خسروا في انتصاراتهم، أضعاف ما ربحوه في هزائمهم". فقد نجحوا باستعداء الأطراف الإقليمية التي يتهمونها الآن بخيانتهم، وهم محقين في ذلك، فليس هناك في المنظور القريب أقله، تعديل لخرائط سايكس بيكو التي مرت ذكراها المئوية بغياب وجود للدولة الكوردية (وقريباً مئوية معاهدة سيفر).. ومن الأفضل العودة إلى ما قاله "أوجلان" نفسه عن المواطنة القومية القويمة.

المعارضة السورية: عين مفتوحة وأخرى مغمضة!

جماعات المعارضة السورية المسلحة، التي بقي توحدها عصياً حتى جاء القرار التركي بوحدتها قبل غزوها سوريا، فتوحّدت بقدرة ذاك القادر، ذهبت إلى أن "التركي العثماني"سيقوم نيابة عنها، كما فعل في عفرين، بـ "تحرير" تلك المناطق وتسليمها لهم إيماناً منهم، هم أيضاً، أن التركي إنما يفعل ذلك لأنه من داعمي "الثورة السورية" وانتفاضتها التي "ستعود إلى الطريق القويم"، وستحقق لهم من جديد موطئ قدم على الأرض السورية.

هذه الشيزوفرينيا الأخرى حققت انتشاراً كبيراً لدى مؤيدي الغزو التركي والمنددين برفض العرب الغزو نفسه (رفضه من باب التوجس منتركيا وليس حباً بالنظام السوري ولا بالسوريين ككل). فليس المهم أن هناك غزواً لأرضهم (سوريا؟)، فمن يقوم بذلك هو الجيش "المحمدي" وليس "التركي الغازي"، وإنما يفعل ذلك دفعاً "لإرهاب الجماعات الكوردية الانفصالية التي مارست التهجير والقمع والعنصرية القومية بحق العرب وغيرهم في أراضٍ عربية".. وبذلك، تتفوق هذه المعارضة، بنسختها التركية ـ القطرية، على أي مفهوم للعيش المشترك مع أي مكون آخر غيرها. إن لهذه المعارضة "هويةٌ" قد يصح أنها "إسلامية" باعتبار مشغلها "أسد السنة" العابر للقوميات، والميّال لقيادة مذهب الأكثرية الإسلامية بالضد من العربية السعودية، لكنها بالتأكيد، لا تمتلك من هويتها السورية سوى المنشأ.

لا يبدو بالمقابل أن النداءات السابقة ل"الإدارة الذاتية"الكوردية باتجاه دمشق قد أتت أكلها، لأسباب مرتبطة ببنية النظام نفسه، الرافض لأي انفتاح على مكونات الشعب السوري وعلى الحوار الداخلي،والمتشبث بنظرية المؤامرة الكونية.

جماعات المعارضة السورية المسلحة، التي بقي توحدها عصياً حتى جاء القرار التركي بوحدتها قبل غزوها سوريا، ذهبت إلى أن "التركي العثماني"سيقوم نيابة عنها، كما فعل في عفرين، بـ"تحرير" تلك المناطق وتسليمها لهم.

المعارض السوري، التركي الانتماء، لديه فائض هوياتي يستخدمه في تبرير العدوان التركي بسهولة ويسر، كيف يمكن النظر إلى موقف رائد الفضاء السوري "محمد فارس" وهو يخطب في جموع سوريين في اسطنبول مرحّباً بالعدوان التركي على بلده؟ هل من الممكن أن تكون تلك الهوية التي يدافع عنهاسوى بندقية توجه إلى سوري آخر مختلف معه في الرأي؟

الرابحون..شيزوفرينيا من نوع آخر

الموقف الأخير، الذي سمحت فيه الإدارة الذاتية، بضغط روسي ولا شك، بدخول القوات الحكومية السورية، لم يجده بعض الكورد خارج قيادة الإدارة الذاتية متناسباً مع الموقف من النظام السوري نفسه، ومع التضحيات التي قدمها الكورد على مذبح الصراع مع داعش، والثمن الذي كان يجب قبضه من ذلك، إلا أنهم اعتبروه من جانب آخر، أهون الشرين بوجود الدبابات التركية التي تقصف المدن والقرى والبنى التحتية للمنطقة. هذا القرار "التاريخي الحكيم" يوفّر، كما يرى هؤلاء، على المنطقة أهوال المجازر التي قد يرتكبها التركي أو السوري المعارض المسلح والمدجج بالإقصائية والحقد القومي أيضاً، وهذه حدثت مع طلائع تلك القوات التي أقدمت على اغتيال عدد من المدنين بدم بارد بالقرب من تل أبيض.

على الجانب الموالي كان التشفي هو الآخر حاضراً في معارك هؤلاء مع الأعداء "الكورد منهم، والمعارضة السورية الخارجية المسلحة الخائنة لبلدها" والتي يجب بالتالي "حرقها والتخلص منها"، دون نسيان استعادة تعابير عنصرية ملأت الفضاء الأزرق، أعاد هؤلاء تذكير الكورد بها، من "البويجية" إلى "المرتمين في أحضان ترامب"، إلى ضرورة "إجراء تطهير قومي" للتخلص من الذين أعطوا الغازي التركي فرصة تلو فرصة للدخول إلى الأراضي السورية..وبالطبع، وضمن نفس الشيزوفرينيا، وحده التركي هو الغازي، أما بقية القوى الأجنبية فهم ضيوف وهم هنا بطلب شرعي من الحكومة السورية.

ثم وبشكل سريع، ومع موافقة "الإدارة المدنية" على دخول قوات الجيش السوري إلى تلك المناطق، انقلبت الآية إلى ضرورة "المسامحة لمن أخطأ" على مبدأ "صراع مصارين البطن الواحد"، وبنفس الرؤية، فإن الكورد (تشمل الكل بالطبع) لم يتعلموا الدرس مع العثماني والخ... من سمفونيات الانتصار الذي بات قريباً، فيدعو أحد كبار الصحافيين السوريين الموالين "الكرد إلى أن يستخدموا عقولهم لتحويل حرب الإخونجي ـ التركي على بلادنا إلى فرصة لبناء حياة كريمة لنا معاً"، ناسياً أن عقوداً مضت بينما ما زالت الحقوق الثقافية الأبسط لهؤلاء موضع اتهام لهم في وطنيتهم السورية.

الهويات بالاكتساب لا الولادة؟

توضح الحالات السورية السابقة أن مثلث القوة المفترض ما زال نهباً للتحولات التي تُفرض عليه من خارجه، وأن لا مشروع وطني جامع في الأفق القريب. ففي أبسط حالات الموقف "الوطني"،استنكار وإدانة أي غزو معلن أو مستتر لأرض البلاد، أياً تكن الراية المرفوعة. وهو كذلك لا يمكنه تجاهل أن التعرض للمدنيين لا يرتبط بأن قيمة هذا المدني تأتي من انتماءه لهذه الملة أو تلك القومية، بقدر ما تنبع من كونه إنساناً سورياً مدركاً أن النار التي في بيت جاره لن تتركه بسلام. ويقتضي تغير الخرائط الجيوسياسية الأخيرة، تفكير القوى الوطنية، صاحبة المصلحة الحقيقة في توقف الحرب، بحل وطني شامل يمكن أن يُبنى عليه عقد اجتماعي يمنح السوريين جميعاً حقوقهم التي ما زالت الأزمة الطاحنة التي تمر بها البلاد تبعدهم عنها في الداخل كما في الشتات.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه