التحريض: الاسم الإسرائيليّ لوعي الفلسطينيين السياسي

لا تفهم إسرائيل الفلسطينيين إلا كمعطيات أمنيّة. وعليه فإن المنطق الوحيد للتعامل مع المجتمع الفلسطيني هو منطق الهرميّة العسكريّة والأوامر السياسيّة. وتفرض هذه العقليّة على المجتمع الصهيوني قيوداً، بحيث تتحوّل الصحافة والبحث والفكر السياسي في إسرائيل إلى أجهزة وظيفتها إعادة صياغة خطاب الجيش والحكومة بمستويات مختلفة، بينما تختلف التيارات السياسيّة في إسرائيل (جميعها) على تأويلات الخطاب العسكري
2016-01-14

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك

لا تفهم إسرائيل الفلسطينيين إلا كمعطيات أمنيّة. وعليه فإن المنطق الوحيد للتعامل مع المجتمع الفلسطيني هو منطق الهرميّة العسكريّة والأوامر السياسيّة. وتفرض هذه العقليّة على المجتمع الصهيوني قيوداً، بحيث تتحوّل الصحافة والبحث والفكر السياسي في إسرائيل إلى أجهزة وظيفتها إعادة صياغة خطاب الجيش والحكومة بمستويات مختلفة، بينما تختلف التيارات السياسيّة في إسرائيل (جميعها) على تأويلات الخطاب العسكري وليس على وجوده وهيمنته. أما في حربٍ تُصبح الطائرات ومضادات الصواريخ في ساحتها ألعاباً مهجورة، وتعجز الأقمار الصناعيّة عن مكافحة مراهق يحمل سكّين مطبخ، فيصمت العسكر دون أجوبة، ويتلعثم المجتمع الصهيوني ويتخبّط، ويبدو وكأنه يهلوس أو يوشك على الجنون.
ولأنّ الإنسان العربيّ بالنسبة للإسرائيليين لا يشكّل بنفسه ذاتاً سياسيّة، فلا بد أن يكون خاضعاً لأوامر تحرّكه: هناك من موّله ليهاجم المستوطنين، وهناك من أقنعه بأن حوريّات الجنة تنتظره، وهناك من أصدر التعليمات ليعبث بالعمليّة السلميّة. ولأنّ الإسرائيليّ لا يعترف أبداً بأن وجوده الاستعماريّ هو المُسبِّب الوحيد للعنف السياسي في فلسطين، فإنهّ ينغمس في هاجس البحث عن "المسؤول" عن حالة العنف، فيُلقيها على كتف فصيلٍ سياسيّ يحرّك كوادره، أو قائدٍ يحرّك الخيوط، أو قوّة إقليميّة تدب أموالها.. وفي وجه التمرّد الجاريّ في الضفة الغربيّة والقدس، قضت الصحافة الإسرائيليّة أسابيع طويلة تبحث عبثاً عن "المطلوب رقم واحد" و "رأس الهرم"، و "المهندس"!

اختراع

عندما يفشل الإسرائيليّون في أن يُمسكوا باليد التي تُحرّك حالة العنف الثوريّ ليطالبوا بقطعها، يخترعون لأنفسهم يداً. هكذا بالضبط. على الشاشات الإسرائيليّة يحدث ما لا يُمكن تصديقه، حالة إنكار مرضيّة للواقع، تحوير مذهل للحقائق واستغباء مفزع للمتلقّين، وإملاء للرسائل السياسيّة بشكل فوريّ وعلى الهواء مباشرة للمراسلين والصحافيين من قبل ممثلي الحكومة.. كأنها مشاهد مقتطعة من كوميديا الأربعينيّات الأمريكيّة التي تبالغ في وصف تفاهة الأنظمة الفاشيّة.
ضمن هذه الحالة يُقدَّم لنا "المسؤول" الجديد عن حالة العنف في فلسطين، مسؤول معنويّ، ضبابيّ وفضفاض لا يمكن إثباته ولا يُمكن نكرانه: التحريض الفلسطيني.. هذا نجم الصحافة الإسرائيليّة الجديد وعدوّها، والمصطلح المفتاحيّ الذي يتكرر يومياً عشرات المرّات. عملياً، تلحق تهمة التحريض بواحد من اثنين: 1- كل تعبير فلسطيني يتضمّن التعاطف أو التماهي مع مقاومة الاحتلال، أيّ التعبير الفلسطيني غير المجرّد من المضمون السياسيّ، 2- كشف الحقائق التي تحاول إسرائيل أن تخفيها، والتي من شأنها، بطبيعة الحال، أن تُشعل الساحة الفلسطينيّة.
السلطة الفلسطينيّة، مثلاً، تُحرّض ضد إسرائيل لأنّها تُسمّي ميادين وشوارع في الضفّة الغربيّة بأسماء شخصيّات فلسطينيّة مثل يحيى عيّاش ودلال المغربي. ويحرّض مسرحيّون فلسطينيّون عندما يُنتجون مسرحيّة عن مناضلٍ في سجون الاحتلال، بينما تعتبر المحكمة الإسرائيليّة العليا نداء مقاطعة إسرائيل "إرهاباً سياسياً"، أما الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة في الداخل فتُحرّض لأنها تدعو جمهورها للتظاهر "في فترةٍ حسّاسة". ورثاء الشهداء وشعارات مثل "عاشت الانتفاضة" تكفي لمحاكمة شبّان فلسطينيين بتهمة التحريض للإرهاب وحبسهم أسابيع وشهورا طويلة (نحو 100 فلسطيني تمّ اعتقالهم خلال شهر تشرين أول/أكتوبر على خلفيّة منشوراتهم في فيسبوك). في مؤتمر المناخ الدولي (COP21) الذي عُقد بداية الشهر الماضي في باريس، استغلّ نتنياهو لقاءه القصير بأوباما ليشكو له تحريض السلطة الفلسطينيّة الذي يؤدّي إلى "قتل المواطنين الإسرائيليين يومياً"، بينما يفتتح الجيش الإسرائيلي وحدات "لمكافحة التحريض" عبر شبكات التواصل الاجتماعي. هذه كلها، تندرج في خانة التعبير عن مواقف ذات مضمونٍ سياسي. من جهةٍ أخرى، فما يندرج بسياق نشر الحقائق "التي من شأنها أن تشعل الأرض"، تشن الحكومة الإسرائيليّة هجوماً على الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لأنه تحدّث عن الطفل الفلسطيني أحمد مناصرة في مؤتمر صحافيّ، وهو الطفل الذي أطلقوا النار عليه وأبقوه دقائق طويلة دون علاجٍ طبيّ قبل اعتقاله بشبهة محاولة طعن، بينما تجمهر حوله الإسرائيليّون بالشتم والبصق، وهو ذاته الطفل الذي ظهرت تسجيلات لتعذيبه في غرفة التحقيق. أما نائبة وزير الخارجيّة (ووزير الخارجيّة هو نفسه وزير الإعلام، ووزير الاقتصاد، ووزير التعاون الإقليمي ونفسه رئيس الحكومة – بنيامين نتنياهو) فقد اجتمعت بمندوبين عن غوغل ويوتيوب من أجل فرض رقابة على "التحريض القاتل" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشددةً على "ضرر" نشر فيديوهات تُظهر إعدام الفلسطينيين. وكذلك عاقبت إسرائيل الصحافي الالماني مارتن ليجان (ومثله المئات) ومنعته من الدخول إلى الأراضي المحتلّة لعشر سنوات بسبب كتاباته وتقاريره حول ما يحدث في فلسطين. وفي المرتبة الأولى لمسابقة التحريضات التي تزعج إسرائيل، نجد كل نشر لمعلومات حول تغيير "الوضع القائم" في الحرم القدسيّ الشريف.

المجتمع العصامي.. إرهاب!

منهجيّة استخدام "التحريض" لا تُبقيه في إطار المناكفة والمضايقات السياسيّة، ولا تكتفي باعتقال مناضلين، إغلاق مسارح، محاكمة برلمانيين فلسطينيين، وتقديم دعاوى أضرار بمبالغ ماليّة باهظة ضد من يدعو للمقاطعة. بل هي تؤسس بشكلٍ مباشر لأخطر قرارٍ اتخذته السلطات الإسرائيليّة بحق التنظيم السياسي للفلسطينيين داخل إسرائيل منذ النكبة: يوم 17 تشرين ثاني/نوفمبر، أعلنت الحكومة عن حظر "الحركة الإسلاميّة"، منع نشاطها، إغلاق مؤسساتها ومصادرة كافّة أملاكها.
"الحركة الإسلاميّة" التي تأسست في العام 1971 انشقّت في العام 1996 ليصبح الشق "الشماليّ" منها أكبر حركة سياسيّة داخل الخطّ الأخضر، مرتكزاً إلى شبكةٍ واسعة من المؤسسات والشركات التي تعمل في كافّة مجالات الحياة: مؤسسات تعليميّة، طبيّة، عمرانيّة، تجاريّة، قانونيّة، ثقافيّة، صحافيّة وغيرها الكثير مما تأسس ضمن مشروع "المجتمع العصامي" الذي قاده رئيس الحركة، رائد صلاح، بهدف الاستقلالية الاقتصاديّة والخدماتيّة لفلسطينيي الداخل عن مؤسسات إسرائيل. عملياً، أخرجت إسرائيل التمثيل السياسيّ لعشرات آلاف الفلسطينيين (من مواطنيها) عن القانون، وأغلقت 17 مؤسسة تُعيل مئات العائلات ويستفيد منها عشرات الآلاف. فما المُبرر في ذلك؟
نقتبس عن وزير الأمن الداخليّ الإسرائيليّ حرفياً من مقابلة إذاعيّة: "الحركة الإسلاميّة تُقيم نشاطاً فكرياً من شأنه أن يدفع الناس لتنفيذ عمليّات إرهابيّة. لديهم نشاط تحريضيّ، يموّلون حافلات لوصول الناس إلى جبل الهيكل (يقصد المسجد الأقصى) ويخلقون أجواء محتدمة في المنطقة، وهذه الأجواء المحتدمة قد تؤدّي لاحقاً إلى أعمال إرهابيّة. إنهم يموّلون مهرجانات وينادون للدفاع عن جبل الهيكل بالأجساد، ويموّلون حافلات ليرسلوا أناساً ليصرخوا ويحتكّوا بالزائرين، السائحين، والجنود، وهي كلّها أمور تشكّل حالة استقطاب وتمس بالعيش المشترك".
لقد صرخوا، ركبوا الحافلات، وأقاموا المهرجانات! هكذا "حرّضت" الحركة الإسلاميّة – فهي نجحت بمشروعها السياسيّ الذي تمسّكت به منذ سنوات طويلة، وكانت العلامة الفارقة فيه إطلاق المهرجان السنوي "الأقصى في خطر" عام 1996 والذي شارك بدوراته العشرين حتى الآن مئات آلاف المشاركين. كشفت الحركة للعالم بأن المسجد الأقصى يتعرّض لخطر إسرائيلي جسيم تارةً بسبب الحفريّات التي تجري تحته، وتارةً أخرى بسبب نيّة تقسيمه المكانيّ والزمانيّ كما حدث في الحرم الإبراهيميّ في الخليل بعد المجزرة عام 1994 (هناك، بالمناسبة، منع الجيش رفع الآذان 70 مرّة خلال شهر أيلول/سبتمبر الفائت فقط). كسرت "الحركة الإسلاميّة" التعتيم الإسرائيليّ، راصدةً التغييرات البطيئة جداً التي تنفّذها إسرائيل على الأرض بهدف تطبيع مسارات ومواقيت حركة المستوطنين في باحة المسجد الأقصى بواسطة التكرار اليومي للاقتحامات في ساعات الصباح (السابعة والنصف حتى الحادية عشرة) والظهر (من الواحدة والنصف حتى الثانية والنصف ظهراً) بينما هي تمنع دخول أغلبيّة الفلسطينيين الساحقة في ساعات تواجد المستوطنين، إضافةً إلى فرض تقييدات بشكلٍ دائمٍ على الفلسطينيين الداخلين إلى الحرم بحسب معايير الجنس والفئة العمريّة.

نظام الطوارئ دستور إسرائيل

تسمح إسرائيل بهامشٍ من التعبير والتنظيم والتمثيل السياسيّ طالما ابتعد عن حيّز التغيير الفعليّ للوقائع السياسيّة التي تفرضها على الأرض، أي ابتعد عن النموذج الذي قدّمته "الحركة الإسلاميّة" (وهذا، بمعزل عن مواقف الحركة الاجتماعيّة والطائفيّة الخطيرة). يمكن للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 أن ينتظموا في جمعيّات، أحزاب، حركات، أو أي إطار تنظيميّ، أما النظام الصهيوني فيحتفظ بحقّ النقض لأيٍ من هذه التنظيمات بواسطة استخدام قانون أنظمة الطوارئ المُفعّل في إسرائيل منذ نشأتها، والذي بحسبه وقّع وزير الأمن على قرار حظر الحركة الإسلاميّة. وأنظمة الطوارئ هذه التي تتيح منظومة واسعة من الصلاحيّات الإداريّة بيد الحكومات، ليست أداة لدى السلطات الصهيونيّة، إنما هي جزء جوهريّ من عقليّة النظام ومنطقه، ومن دونها لم تكن إسرائيل لتوجد ليوم واحد. فهي تتبع قانوناً انتدابيّاً أكبر من الدولة سناً، ووجوده سابق لوجودها، حتى نكاد نقول أنه يحملها على كفّه باعتباره جامع الصلاحيّات الأمنيّة للدولة. وعندما يتناقض القانون المدنيّ في دولة الاستعمار مع نظام الطوارئ، يُغلّب الأخير على الأوّل. وبكلمات أخرى، فإن قانون الطوارئ هو الدستور الحقيقي لإسرائيل.
في العام 2007، أصدرت المخابرات الإسرائيليّة تصريحاً رسمياً بمصادقة المستشار القضائي للحكومة (أي أن التصريح لم يكن زلة) تؤكّد فيه أن أجهزتها "ستعمل على إحباط أي تحرّك للمسّ بطابع دولة إسرائيل اليهودي والديمقراطيّ، حتى لو كان نشاطاً قانونياً متاحاً في نظام ديمقراطيّ". في العام 2013، على أثر الاحتجاجات ضدّ مخطط "برافر" لإفراغ صحراء النقب من أهلها، صدرت تصريحات عديدة من مسؤولين إسرائيليين يؤكّدون بأن "الدولة لن تسمح بأي طموحات قوميّة لدى العرب في إسرائيل". هذا المنطق الأمنيّ المؤسِّس لأنظمة الطوارئ، الذي لا يرى إذاً الفلسطينيين إلا كمعطيات أمنيّة، والذي يُصر على مصادرة أيّ إرادة أو طموح جمعيّ لهم، هو الذي يعجز اليوم عن التعامل مع التمرّد في القدس والضفّة. ولأنه يصطدم بالإنسان الفلسطينيّ الذي لا ينتمي لفصيلٍ ولا قائدٍ له ولا قوّة إقليميّة تسنده، فهو يحاول أن يكافح الإنسان الفلسطينيّ بواسطة منعه من تداول المعرفة المسيّسة، تلك التي تكشف الحقائق، وتلك التي تعبّر عن الموقف منها..
ولأن العسكر ومجتمعهم ظلّوا دون أجوبةٍ لواقعهم الأمنيّ، فهم بدل البحث عن الأجوبة الإنسانيّة – إنهاء كل امتيازات اليهود في فلسطين- يحاولون ملاءمة الأجوبة القديمة للواقع الجديد مؤطرينها في مصطلح "التحريض الدمويّ".

مقالات من فلسطين

"حكواتيّة" غزّة والحكاية الأساس..

2024-03-29

لم تعد القصة عن غزة - تقول بيسان - صارت غزّة هي القصة: "والقهر اللي بيتعرّضله أهل غزّة الآن ما هو إلا تجديد لقهر إنساني أزلي، وعلى إيد ذات الوحش....

أيرلندا تتبرّأ من عار بايدن

2024-03-21

ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث،...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...