النفايات في لبنان: أين "الكامورا"؟

يا مافيات العالم إتحدوا!
2019-08-16

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

... والكامورا (La Camorra) هي شبكة المافيا الأقوى والأكبر في ايطاليا، ومقرها نابولي ولكن إشعاعها عالمي! وهي تختص بأنها ليست هرمية، بعكس سائر تنظيمات المافيا، وبانها "شعبية" متغلغلة بين الناس وتتعاطى بكل شؤون حياتهم. والكامورا النابوليتانية المتنفذة تضم بالطبع سياسيين وقضاة، وهي تعمل في كل شيء، من تجارة المخدرات وتنظيم الدعارة الى عقود المشاريع الكبرى حيث تمارس الاختلاس على نطاق واسع، الى إدارة النفايات وجمعها وطمرها وتوريدها.. نفايات منزلية وأخرى صناعية أو طبية. كل أنواع النفايات.. وهو ما يهمنا هنا.

أزمة نفايات نابولي - المدينة العريقة، ورائعة الجمال الواقعة على واحد من أكثر خلجان العالم بهاء - صار عمرها ثلاثة عقود... على الاقل. وهناك خلال هذه السنوات عشرة لجان تأسست للتحقيق في الموضوع ولاقتراح حلول، وكانت الواحدة تلو الاخرى تطوي ملفاتها وتفسح المجال لغيرها، حتى صار يقال علناً انه ليس من مصلحة هذه اللجان الوصول الى نتيجة، ولو على الورق، ناهيك بالتنفيذ، خوفاً من الكامورا، ولتشابك مصالح بعض أعضائها المرموقين مع نشاطات الكامورا، ولكن ليس فحسب، بل خشية من أن يصبح وجودها نافلاً فيخسر أعضاؤها المكافآت العالية على مساهمتهم فيها. وهذا "بزنس" من ضمن سواه، وهو جزء من اللوحة الشاملة لمسألة النفايات في مقاطعة نابولي وجوارها. وهكذا تتراكم الزبالة في الشوارع ويبلغ ارتفاعها أحياناً عدة أمتار (كما حدث بشكل مشهدي في 2008 وجابت صوره العالم، ثم تكرر في سنوات لاحقة، ما أثار غضب المفوضية الاوروبية التي تلاحق قضائياً الحكومات الايطالية المتعاقبة)، أو أنها تُطمر في أماكن بعينها تتعالى صرخة أهاليها بسبب التلوث وانتشار الأمراض، بينما تباطأت مشاريع الفرز وإعادة التدوير وإنشاء معامل تتولى مهمة انتاج الكهرباء منها مثلاً، أو الاسمدة، مثلما يحدث في تجارب متوفرة في العالم كله. وفيها يجري إحراق النفايات بشكل مضبوط وليس في الشوارع كما في بيروت – عفواً، في نابولي. وقد اهتدت الكامورا الى بزنس اضافي يقوم على توريد النفايات الى رومانيا القريبة حيث انشات هناك مطامر لدفنها بل ومصانع للتعامل معها!

وليس هناك - بالطبع – تقديرات علمية دقيقة لحجم أرباح الكامورا من تولِّيها ملف النفايات في هذا المكان. ويقال انها عدة مليارات من الدولارات، ولكن الأهم أن موضوع النفايات تحديداً يرتبط في أحد مستوياته بذلك الطابع "الشعبي" للكامورا، وهو في الحقيقة أيسر القطاعات لانشاء شبكة مصالح زبائنية مرتبطة بالمافيا تبدأ من كل حي وشارع لتمر على البلديات (حيث يشتغل شبان عاطلون عن العمل في جمعها، ولكن هنا أيضاً إنّ لأنه توارى خلف الأرقام وظائف وهمية تعود ايراداتها الى جيوب متنفذين)، وتطال المتعهدين الذين يمنحون المهمات الأكبر كالتوريد بالشاحنات الى رومانيا مثلاً او كالاشراف على ما يجري هناك وعلى شبكة علاقات أخرى تأسست على ذلك. ولو بحثنا قليلاً خارج المثال الايطالي لوجدنا نفايات متراكمة في أكثر من مكان من العالم، وقد لا تحظى بشهرة ما يجري في نابولي وبالتغطية الاعلامية التي ترافقه لبعدها عن قلب العالم، ووجودها في قارات وبلدان لا تثير الفضول. ولكنها جميعاً تتبع النموذج والمخطط نفسه.

فيا مافيات العالم إتحدوا!

والظاهرة – المافيات والنفايات - نعرفها بشكل حميم في بلدنا الصغير، والجميل هو الآخر بخلجانه الرائعة وسياحته المزدهرة، وشكل الأزقة الضيقة التي ما زالت قائمة في بعض مدنه تصحبها السلالم ويظللها الغسيل المنشور على الشرفات والشبابيك، وكمية الدراجات النارية التي تنافس مثيلاتها في نابولي، عدداً واحتقاراً لقوانين السير.. وفي لبنان مافيات صريحة كما في نابولي، وهي غير خجلة ولا متوارية، وتمد شبكات مصالحها على أكتاف السياسيين والمسئولين من كل لون، عابرةً للطوائف، بينما تكتفي بنسج علاقات زبائنية مع المستويات الدنيا من المتصدين للشأن العام.

في أزمة نفايات صيف 2015، حين غرقت بيروت - الحاضرة الثقافية والاقتصادية المتباهية بنفسها – بالقمامة، قيل الكثير عن خبايا ذلك "البزنس"، وطارت أسماء وأرقام، وما زالت "سوكلين" ملاحقة قضائياً (وهي الشركة التي كانت موكلة بجمع النفايات وبانشاء معامل تتولى التعامل معها، وكانت قد نالت ميزانيات هائلة لهذه الغايات ثم تمديدات للمهل ثم.. الى الآن). ثم اختفت المشكلة بقدرة قادر وجابت الشوارع شاحنات باسماء أخرى. وفي مطلع 2018، أمطرت بغزارة - اللهم اجعله خيراً – فشاهد العالم ما سبقنا فيه الكامورا: نهراً من أكياس النفايات الجميلة البيضاء الموضبة بعناية والمتراصة، جرى بداية في مجرى نهر بيروت الجاف.. وصب في البحر. مليوني طن من النفايات! وتكرر المشهد النهري بشكل أقل ترتيباً في أكثر من مكان، فطافت الشوارع بالنفايات.

وخلال أزمة 2015 والتحرك الغاضب الذي رافقها وقُمع بقوة، جرت محاولات رسمية لتطييف التحرك، على اعتبار هذه الصيغة رابحة دوماً في لبنان، كما قيل كذب كثير، ومنه موضوع التوريد ذاك، مثل ما تفعل الكامورا، بل ذُكرت اسماء بلدان نفت حكوماتها فوراً وجود مثل هذه الاتفاقات، ثم ذُكر أن كلفة التوريد أعلى من القدرة على تحملها، فصرف النظر عن الكذبة، وعادت المعالجات للاختفاء، والله اعلم.

واليوم تنفجر "ميني" أزمة في شمال لبنان الجميل، تخص البلدات والقرى المترامية في الجبال المحيطة بطرابلس والمكتظة بالسكان، كما انها مصايف مزدهرة. وتشبه إدارتها حرفياً تلك التي اتبعت قبل سنوات في بيروت وسواها، لجهة ترك النفايات تتراكم لأشهر في منطقة زغرتا الزاوية وصولاً لبشري من جهة (ومعها منطقة الكورة)، وفي منطقة الضنية وصولاً لبلدة سيرعلى المقلب الاخر من سلسلة الجبال ( ومعها منطقة المنية)، ثم ترك العنان لما وُصف بحرب أهلية على مواقع التواصل الاجتماعي بين المنطقتين المختلفتين طائفياً.. وكأن للنفايات وروائحها وسمومها وأضرارها ديناً!

مقالات ذات صلة

بل يقول وزير البيئة بخصوصها - بصفاقة أو بسذاجة، كما تشاؤون - أن الناس أعجزت الدولة: "في كل مكان نبحث فيه عن حلّ نجد معارضة، وعلينا أن نختار بين مصلحة الأكثرية ومصلحة الأقلية، وأن نختار الموقع الأقل ضرراً، ولن نساوم على مصلحة الشعب الذي عليه أن يعطينا فرصة" (؟؟). وقال كذلك انه سيتجاهل الاعتراضات ويقمعها وأن قوى الامن والجيش سيواكبان نقل النفايات الى مستقرها، تنفيذاً للحل الذي قرره، والقائم على تجميع النفايات وطمرها بشكل سطحي ومتعجل في مكان اختاره هو.. والمضحك أن بعض المتنفذين السياسيين يقترحون حلولاً من هذا القبيل على قاعدة "ميانتهم" على أهل منطقة بعينها، وفقاً لاعتبارات الانتماء المذهبي، تقف خلفها زبائنيات مفضوحة.

.. قبل ذلك بسنوات قليلة انفجرت أزمة تراكم مهول للنفايات قرب مرفأ مدينة طرابلس وقيلت وقتها معلومات تقشعر لها الابدان، بينما كانت تلف "الفيحاء" روائحها السامة وينتشر غبارها. والفيحاء هو الأسم /الصفة التاريخي والرسمي لطرابلس التي كانت تعبق بروائح زهر الليمون، حين كانت بساتينه تحيط بالمدينة.

يقال، والله أعلم، أن نسبة الاصابات بالسرطانات المختلفة في لبنان تطال واحداً من كل خمسة مقيمين. وأن أمراضاً شتى أخرى تصيب الناس وبالاخص الاطفال وحديثي الولادة. وكان تقرير للبرلمان الايطالي قد أعلن أن نسبة الاصابات بالسرطانات في منطقة نابولي هي الأعلى وطنياً وأن نسبة الاطفال الذين يدخلون المستشفيات هي الأعلى وطنياً أيضاً.

ومن الكاذب تماماً القول أنه لا حلول.

يقول مقطع صغير من تقرير بعنوان "المخاطر الصحية لحرق النفايات في لبنان" اصدرته منظمة "هيومن رايتز ووتش" في كانون الاول/ ديسمبر 2017:

"لم يطبق لبنان خطة وطنية لإدارة النفايات الصلبة تشمل البلد بأكمله. بحسب أحدث أرقام حكومية منشورة، أنتج لبنان أكثر من مليوني طن من النفايات المنزلية في 2014. وبحسب باحثين في "الجامعة الأميركية في بيروت"، 10 إلى 12% فقط من نفايات لبنان لا يمكن تسبيخها (تحويلها إلى سماد) أو إعادة تدويرها. مع ذلك 77% ترمى في مكبات مكشوفة أو تُطمَر. بالاعتماد على أرقام وزارة البيئة، هناك 941 مكباً مكشوفاً في البلاد، منها 617 للنفايات المنزلية الصلبة. أكثر من 150 منها تُحرّق في الهواء الطلق بمعدل مرة واحدة في الأسبوع على الأقل".

نُعلِّم الكامورا الايطالية أم تعلِّمنا؟

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...