ربيع سوداني مختلف

بحكم طبيعته كتنظيم نقابي، يبدو أفق تجمع المهنيين السياسي، القوة الابرز في تحالف قوى الحرية والتغيير، محدوداً لتولي قيادة التغيير المنتظر. التحدي الآخر الذي يواجه عملية التغيير يخص الأحزاب السياسية. فمعظم قياداتها هرمة بينما التحرك العارم شبابي. وأخيرا فتحقيق مدنية الدولة يتوقف إلى حد بعيد على كيفية إعادة هيكلة أجهزة الجيش والأمن وقوات الدعم السريع، وإخضاعها إلى سيطرة القرار السياسي المدني.
2019-08-07

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
الصادق عجينه - السودان

يشير السودانيون باعتزاز أنهم أول من افترعوا صفحة الربيع العربي، عندما أطاحواعبر ثورة سلمية بأول حكم عسكري في تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ثم كرروا العملية نفسها بعد ذلك بعقدين من الزمن بالإطاحة بالحكم العسكري الثاني في نيسان/ إبريل 1985. وهاهم الآن يكررونها للمرة الثالثة ويطيحون بالحكم العسكري الثالث، ليفترعوا الصفحة الثانية في كتاب الربيع العربي ويسجلوا في الوقت ذاته سابقة جديدة.

فعلى غير ما شهدته تجارب الربيع العربي، التي فتحت الباب أمام قوى الإسلام السياسي بصفتها الأكثر تنظيماً في الساحة، فإن الحالة السودانية جاءت باتجاه معاكس لهذا. إذ استخدم الحراك الشعبي كل وسائل المقاومة السلمية من مظاهرات وإضرابات وعصيان مدني ضد الإسلاميين السودانيين، وهم كانوا قد تمكنوا من مفاصل الدولة عبر ثلاثين عاماً بفعل الإحلال الممنهج، وأحكموا سيطرتهم السياسية والاقتصادية والأمنية عليها. ولهذا لم يكن غريباً أن يستمر التحرك ضد الرئيس السابق عمر البشير أربعة أشهر متصلة، لتتم إزاحته بواسطة اللجنة الأمنية المكونة من الجيش وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والشرطة، ثم ليستمر التحرك قرابة أربعة أشهر أخرى، مع اعتصام أمام مباني القيادة العامة للجيش لفترة تجاوزت المدة التي استغرقها اعتصام رابعة العدوية في مصر. وبهذا تجاوز الحراك السوداني من ناحية الوقت الذي استغرقه كل ما شهدته تجارب الربيع العربي زمنياً، وتمكن من الحفاظ على سلميته ليعصم نفسه من الانزلاق إلى أتون الصراع المسلح.

وعلى الرغم من الوحشية والدموية التي صحبت فض ذلك الاعتصام، وقطع شبكة الإنترنيت لمنع التواصل بين قيادة قوى الحرية والتغيير وقواعدها، إلا أن موكب الثلاثين من حزيران / يونيو سجل إضافة حقيقية في ذلك الحراك الشعبي، وإصراراً على الاستمرار باتجاه تحقيق هدف مدنية الدولة. فلا عملية فض الاعتصام والضحايا الذين سقطوا فيه وتجاوز عددهم المئة، ولا قطع الإنترنيت أسهما في إضعاف حجم المواكب التي انطلقت في العاصمة وعديد من المدن في الأقاليم وبصورة أكبر لم تشهدها المواكب من قبل، الأمر الذي جعل بعض الديبلوماسيين الأجانب يعتبرون أن ذلك الحراك قد غيّر من قواعد اللعبة.

مدنية الدولة

الإصرار الذي تجلى بصورة واضحة خلال الأشهر الماضية وضع هدفاً رئيسياً أمام عينيه وهو تحقيق مدنية الدولة، الأمر الذي يعني من ناحية إقفال الباب أمام عودة العسكر إلى صدارة المشهد السياسي، إذ أصبح العقل الجمعي السوداني يرى في سيطرة العسكريين على السلطة في البلاد لفترة 52 عاماً من سنين الاستقلال البالغة 63 عاماً، والتردي الذي أصاب مختلف المرافق سبباً كافياً لإبعادهم عن دفة العمل السياسي بأي وسيلة. ومن الناحية الأخرى يستهدف شعار المدنية أيضاً مفهوم الدولة الدينية الذي سعى نظام الإنقاذ إلى إقامته خلال العقود الثلاثة الماضية، وأصبح في نهاية الأمر تجسيداً لفشل النخبة في إدارة شؤون البلاد، مع تعميق للتشققات السياسية والاجتماعية وانتشار للفساد واستمرار النزاعات في مختلف أنحاء البلاد. ومع أن هذه المشاكل موروثة إلا أن الإسلاميين عملوا على إعطاء قداسة دينية لأدائهم في إدارة الدولة ومن ثم تحصينه من المساءلة.

بعكس سائر التحركات الشعبية في المنطقة منذ 2011، التي فتحت الباب أمام قوى الإسلام السياسي بصفتها الأكثر تنظيماً، فإن الحراك الشعبي السوداني لجأ الى كل وسائل المقاومة السلمية ضد الإسلاميين السودانيين الذين كانوا قد تمكنوا من مفاصل الدولة عبر ثلاثين عاماً بفعل الإحلال الممنهج، وأحكموا سيطرتهم السياسية والاقتصادية والأمنية عليها.

الفترة الانتقالية التي سوف تستمر لثلاث سنوات، ويتضمن برنامجها تفكيك مؤسسات نظام الإنقاذ، ستواجه العديد من التحديات، على رأسها إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وإعادتها إلى المربع المهني، وهي التي عمل نظام الإنقاذ على أدلجتها. هذا بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي الذي أطلق شرارة الاحتجاجات في المقام الأول، ثم قضية السلام مع الحركات المتمردة في دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وإعادة إعمار علاقات السودان الخارجية، وعلى رأسها رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

مواجهة هذه القضايا المتشابكة يتطلب وضوح رؤية وقيادة موحدة. إلا أن قوى الحرية والتغيير – التحالف السياسي الذي قاد عملية التغيير - هو لقاء بين قوى سياسية ونقابية متعددة جمعها في المقام الأول عداؤها لنظام الإنقاذ، وفي حين تتباين رؤاها حول ما ينبغي عمله، وهو ما اتضح جلياً في موقف الحزب الشيوعي الذي انتقد الاتفاق الأخير مع المجلس العسكري بل وقرر معارضته، وهو موقف يضعه - وللمفارقة - في موقف واحد مع خصومه التاريخيين والإيديولوجيين من الإسلاميين الذين أزيحوا من السلطة. ويتوقع حدوث بعض الانقسامات في معسكر الحرية والتغيير مع الدخول في مرحلة إدارة الدولة واتخاذ القرارات الصعبة.

تجمع المهنيين

ومع الصعوبة والبطء الذي يلازم العمل في إدارة تحالف سياسي، في الوقت الذي تتطلب فيه القضايا المتشابكة والمعقدة تحركاً أسرع وأكثر فعالية، إلا أن هناك علامات استفهام أصبحت تتراقص وتطال البعد السياسي لقوى الحرية والتغيير. فأحد أهم مكوناتها هو تجمع المهنيين، ويضم مجموعة من النقابات التي تصدت لسياسات نظام الإنقاذ في مختلف المجالات، ومن ثم تزعمت الحراك الشعبي حيث لقيت دعواتها للتظاهر استجابة واسعة، ولم تتمكن قوى المعارضة التقليدية من الأحزاب من مجاراتها فيه كما اتضح في مطلع العام الماضي، عندما بدأت حكومة البشير في تطبيق برنامج تقشف اقتصادي ورفع الدعم، وهو ما حاولت قوى المعارضة التقليدية استغلاله والدعوة إلى تظاهرات ضده لم تجد إلا استجابة محدودة. وتجمع المهنيين، وبحكم طبيعته كتنظيم نقابي، فأن أفقه السياسي يبدو محدوداً لتولي قيادة التغيير المنتظر. فأعضاء النقابات التي تنضوي تحت لافتة تجمع المهنيين لهم أفكارهم وميولهم السياسية المختلفة والمتباينة.

الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدها السودان في 1958 وفي 1969 وأخيراً في 1989 إنما جاءت كلها استناداً إلى دفع من قوى حزبية محددة قررت "اختصار الطريق إلى السلطة" بعد يأسها من نجاعة اللجوء إلى الممارسات والمؤسسات الديمقراطية لتنظيم وحسم الصراع.

التحدي الآخر الذي يواجه عملية التغيير باتجاه التحول الديمقراطي هو أن العديد من الأسئلة تطال أحد أهم مفردات العملية الديمقراطية المتمثلة في الأحزاب السياسية. فمعظم هذه الأحزاب تتولى قيادتها شخصيات في الستينات والسبعينات من العمر وظلت في مواقعها تلك لعقود من الزمن.. في الوقت الذي يتسيد فيه الشباب المشهد، الأمر الذي يحد من قدرتها على التعاطي مع هذه القاعدة النشطة، وفي الوقت نفسه لم تتبلور بعد أشكال تنظيمية جديدة لاستيعاب هذه المجموعات الشبابية.

مقالات ذات صلة

كما أن المدخل إلى تحقيق مدنية الدولة يتوقف إلى حد بعيد على كيفية إعادة هيكلة أجهزة الجيش والأمن وقوات الدعم السريع، وإخضاعها إلى سيطرة القرار السياسي المدني. وتأمين استدامة هذا الوضع، حتى بعد تحقيقه، يعتمد على القوى السياسية وليس العسكرية. فنظرة سريعة إلى تاريخ السودان توضح بجلاء أن الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدها السودان في 1958 (حكم لفترة ست سنوات) ثم في1969 (استمر 16 عاماً)، وأخيراً انقلاب 1989 (استمر لفترة 30 عاماً) إنما جاءت كلها استناداً إلى دفع من قوى حزبية محددة قررت "اختصار الطريق إلى السلطة" بعد يأسها من نجاعة اللجوء إلى الممارسات والمؤسسات الديمقراطية لتنظيم وحسم الصراع. فالانقلاب الأول جاء نتيجة لأمر مباشر من رئيس الوزراء ووزير الدفاع وقتها عبد الله خليل، وهو في الوقت ذاته السكرتير العام ل"حزب الأمة"، وذلك لقطع الطريق أمام تحالف سياسي جديد كان سيطيح به وبحزبه، أما الثاني فكان عبارة عن رد للحزب الشيوعي ومناصريه على استبعادهم من البرلمان وحظر حزبهم، وحدث الشيء نفسه مع الإسلاميين الذين رتبوا للانقلاب الثالث.

ثم هناك الأداء السيء للقوى الحزبية في إدارة شؤون الدولة وتحسين مستوى التنمية والخدمات، مما جعل من القبول الشعبي بالانقلابات أمراً متوقعاً. ويظهر ذلك في عدم إكمال أي دورة برلمانية فترتها الزمنية المقررة، أو النجاح في إجراء انتخابات ثانية وتجديد التفويض الشعبي، أو حمل قوى سياسية جديدة إلى سدّة السلطة. وكانت أهم ملامح هذا الوضع فشل كل الجمعيات التأسيسية المنتخبة في تحقيق تقدم ملموس في مهمتها الأساسية، وهي وضع دستور دائم للبلاد.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...