كيف يمكن تغيير "ذلك"؟

للأفكار والقناعات قوتها الخاصة. وحين يتغير أي عنصر فيها فهو علامة على وجود مخاضات لتغييرٍ عام. وهو من جهة أخرى يدفع إليه ويساعد في تخليقه. ويصح الأمر على كل اتجاه للتغيير. وهنا، فلو صارت كتلة الذين يفرضون شرط العصمة بيد المرأة كبيرة لأشّر ذلك الى وقوع تغيير في المنظومة القيمية، ولساعد أيضاً على بلورة هذا التغيير.
2019-07-27

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
حمزة بونوة - الجزائر

... ليس تغيير كل شيء - أو تقريباً كل شيء – وهو هدف ضروري ولا شك، لأن العالم بكل بشره، في كل مجتمعاته غير راضٍ عن أحواله، إلا قلة قليلة يقال أنها تمثل 1 في المئة يشعرون بأنهم تمام التمام، لأنهم يملكون كل الثروات وكل السلطات. سعداء؟ الله أعلم! لكنهم يدافعون باستماتة عن أوضاعهم ووضعياتهم. فلنتركهم جانباً طالما الأمر هكذا، ولنختصر بأن هناك حاجة إلى حياة مختلفة، بخصوص البيئة أولاً، طالما أنها في نهاية المطاف إرثنا أو مصيرنا المشترك مهما تفاوتت شروط حياتنا، وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لهذه التفاوتات: قال العلماء أن حرارة الأرض هذا العام سجلت أعلى معدلاتها منذ ألفي عام، وهناك جبال جليد بقدها وقديدها ذابت في القطب الشمالي. وأما الأمراض الناتجة عن التلوث العام وعن التلاعب بالمنتجات المكوِّنة للأغذية والأدوية بغاية مزيد من الأرباح، وعن التكنولوجيات الجديدة التي لا تكترث ب"النتائج الجانبية" على البشر، وعن الأسلحة والحروب الخ، فتهدد هي الأخرى بإفناء الحياة.. علاوة على أنماط الإنتاج الاقتصادي السائدة، والتي كان يُفترض أنها تقرِّب البشر من الشبع فإذا بها تنتج ملياري جائع، ثلث البشر أو يكاد، وفوق ذلك تُشرِّد أجزاء كبيرة منهم لأن مناطقهم الأصلية صارت لا تعاش وإنْ تعددت الأسباب.. أو أن نتكلم عن الثورات التي تقع، ويقوم بها الناس الذين لم يعودوا يطيقون أحوالهم، ويبذلون في مجراها تضحيات جسام، ثم تنجح فتُحوَّر من داخلها (أليس دود الثمرة منها وفيها) أو تُقمع بلا تردد، وبكل الأحوال يمتطيها ثوار يُصبحون بسرعة مثل أسلافهم الذين ثاروا عليهم، عدا بعض التفاصيل، أو وحوش جدد يحملون الناس على الترحم على أسلافهم من الوحوش. وفي بالي مثال يجري أمام أعيننا اليوم ويخص السودان، حيث يصعد "الفريق" حميدتي على أكتاف التحرك الشعبي الهائل الذي لم يكن قطعاً يهدف الى تسييده... ومع ذلك يبقى المرء حتى اللحظة الأخيرة يأمل بأن "يصح الصحيح"، وبألاّ يقع ما هو قبيح. ولكن المؤشرات المتلاحقة ومرارات التجارب المحيطة تقارع الأمل.

وعلى الرغم من هذه اللوحة التعسة، فموضوعنا هنا ليس سؤال كيفية تغيير "كل شيء"، بل اتخاذ الحوادث "الفردية" (هل هي فردية طالما أنها تتكرر بهذا الشكل وفي كل البيئات؟) التي تقع في لبنان كل يوم، وتخص النساء، لنقاش معضلة التغيير وسبله. ليس لأن الموضوع يتفوق على سواه بالأهمية بل لأنه يصلح كمثال صغير لما يتعداه.

كيف؟

هناك ولا شك قطاع من اللبنانيين - من كل الشرائح الاجتماعية ومن كل المناطق ومن كل الطوائف - راضٍ ومقتنع بأن النساء أدنى من الرجال، وأنهن يجب أن يبقين تحت سلطتهم، لغبائهن أو لكيدهن الشرير أو لما شئتم. أو أنه، وبأحسن الأحوال، معتاد على الفكرة، ولا تزعجه، ولا تخطر على باله. وهؤلاء هم من الذكور والإناث. فلندعهم وشأنهم الآن.

مقالات ذات صلة

صحيح أن البنات اليوم تعلمن، وصحيح أن النساء يعملن، وهن يجنين من عملهن دخلاً. وهذان كانا شرطيَن ظنت جداتنا أنهما كافيان لتحقيق مساواتهن، إلا أنهما تَحققا ولم يُحققا المساواة، أو لم ينقذا النساء من البقاء في مرتبة دونية، ووسط المآسي أحياناً. صحيح أن بعض القوانين تغيرت، وإنْ بصعوبة، وأنها تغيرت لصالحهن وحلّت بعض الأمور، ولكنها هي الأخرى لم تسوي المشكلة.

فما الأمر؟

هما أمران على الأقل! هناك أولاً قوة القائم وجبروته، ليس فحسب بسبب الاعتياد العام عليه، بل لأنه أقام بنى ونسج علاقات ومصالح تنتظم في آليات، ما يجعلها متداخلة الفعل والتأثير: النظام السياسي في لبنان مبني على أساس سُمّي فيما سبق "الاقطاع السياسي" (ومَنْ استنسخه في العراق بعد 2003 أسماه هناك بأناقة متفلسفة "ديمقراطية المكونات"، إرضاءً لأسياده الأمريكان المودرن، وطبّقه كمحاصصة أسماها كذلك بتجهيل الكنية "العملية السياسية": شوفوا الشطارة!!).

الاقطاع السياسي إما أنه يعيد إنتاج زعماء، سواء من أبناء وأحفاد الزعماء الأصليين الذين كانوا فيما مضى اقطاعيين فعلاً وبكوات، أو ممن هم من أبناء وأحفاد رجالات تلك الصفقة التي سُميت "الميثاق الوطني" في 1943، وهم عموماً من الوجهاء، وبينهم من كانت وجاهته تستند إلى أسباب حداثية وقتها كالتعليم العالي، أو الارتباطات بجهات خارجية الخ.. أو أن النظام السياسي يجدد في هوية هؤلاء الزعماء، فيعيد إنتاجهم على غير تلك الأسس، وهو ما حدث بعد الحرب الأهلية المزلزِلة، التي فرضت مقاييساً اجتماعية مغايرة لما كان سابقاً لها. أو فلنقل أنها أولدت حالة "هجينة". وهكذا دخل إلى البرلمان أو إلى الوزارة وإلى المناصب العليا أناس أقل أناقة وكياسة من بعض أقرانهم الحاليين، وأيضاً وبالتأكيد ممن كانوا يحتلون هذه المواقع. فأجداد هؤلاء الوافدين الجدد وآباؤهم من أصول كادحة أو من فئات ومناطق مهمشة. وهم حملتهم إلى الواجهة الحرب الأهلية، بميليشياتها والتغييرات التي تتسببت بها في مواقع النفوذ بحسب السياقات الملازمة لها. وصارت مهمتهم أن يتعلموا بسرعة بعض السلوكيات والمظاهر. ولكن الأهم بقي صلداً من صخر. فالقانون الناظم لتوزيع المناصب والثروة استمر شغّالاً، بينما وعلى الأرض، تغيرت هنا أيضاً، وأحياناً، هويات الممسكين بحركته.

رصْد هذه الدينامية والتقاط مفاتيحها مهم لإدراك كيفية اشتغال المنظومات السائدة. فهذه تعيد إنتاج نفسها وفق قدرة عالية على استيعاب الطارئ عليها أو أمامها. وبينما كانت الموجة العارمة في عقود الستينات والسبعينات الفائتة تحمل أفكاراً تحررية – بما فيها ما يخص موقع النساء - وطموحات كبرى بالتغيير، نجدنا اليوم في موقع محبَط، وقد تخلى الناس عن أحلامهم باعتبارها "أوهاماً"، فانكفأ الجيل السابق وحرص بشكل مدهش على حماية أبنائه من لوثة ما كان هو عليه! وفي هذا حدثت القطيعة الملموسة اليوم.

انتصرت قوى رجعية، سواء كانت رجعيتها صريحة أم كانت تتلفح برداء حداثة شكلية، متغربة على الأرجح ومتعالية على كل حال، فعزِّزت تلك القطيعة الجيلية السالفة. وهذه تعتبر مجتمعاتنا ميؤوس منها ولا تستحق عناء جهدها. وأما مآسي النساء فتصبح لدى هؤلاء جميعاً – الرجعيون صراحة أو الرجعيون الحداثيون – تحصيل حاصل. الفئة الأولى تريد إرجاعهن إلى بيت الطاعة القديم، وشفائهن من أوهام شاعت عن المساواة الخ، والفئة الثانية تعتبر أن "جوهر" مجتمعاتنا لا ينتج إلا هذه المآسي... وليس هناك بالطبع كتيب يعلمنا كيف نتخلص من "جوهرنا" هذا، ما يوحي بأنه لا أمل بذلك.

وأما الأمر الثاني فيخص من يدْعون إلى التغيير – ما زلنا في مسألة حقوق النساء ومكانتهن – ويقولون أنهم يريدونه. وهؤلاء يعانون من اختلال النسق الناظم لمسألة التغيير واضطرابه، أي كما كان مفترضاً به أن يكون وفق أفكار وقناعات وتيارات أنتجتها فترات سابقة سُميت أحياناً "نهضوية" أو "تحررية". إحباطه وانهياره، من دون أن تولد بدائله. وهكذا نجد معظمهم في حالة غيظ وغضب، يشتم المؤسسات الرجعية ويدعو عليها بالزوال. ولكنها لن تزول تحت وطأة اللعنات.

فمثلاً، المحاكم المذهبية التي ترعى كل عالم الحياة الشخصية للإنسان في لبنان منذ ولادته وحتى وفاته، وبينهما زواجه وحقه في الوظائف، هي التجسيد الرمزي لنظام الاقطاع السياسي ومحاصصاته الطائفية، وجبروتها ذاك على حياة الناس هو شرط اشتغاله وعدم تفلّت "مادته" منه، أي البشر والاجتماع الإنساني. ولولا ذلك لكان من غير المفهوم علاقة هذه المحاكم ورجال الدين فيها بمسألة الزواج مثلاً، واستطراداً الطلاق، ولكان من المنطقي أن يكون هناك نظام مدني مشترك لرعايتهما، ومعهما الحقوق والواجبات ومنها مسائل الحضانة. والبلدان التي تعتمد نظاماً مدنياً للأحوال الشخصية لا تمنع المؤمنين من كل الطوائف من عقد زيجاتهم في كنيسة أو في كنيس أو في جامع أو لدى الكاهن البوذي لو شاؤوا. وهذا يحدث كثيراً. ولكنه طقس إيماني يخص صاحبه. بينما تطلب الدولة من الراغبين بالزواج أن يقوموا بتسجيل زواجهم في بلدياتها، وتوكّل قضاة مدنيين مختصين بالنظر في مسائل الطلاق وشروطه وحضانة الأطفال.. بحكم وجود قوانين تجري مراجعتها بين حين وآخر.

وكل هذا لا يضر بالإيمان الديني، ولا دخل له به.

وكذلك فالمسألة عندنا ليست إيمانية بتاتاً، بل هي موجودة لتكريس سلطة سياسية بعينها، تختبئ وراءها مصالح اقتصادية هائلة. وبما يخص المسلمين تحديداً، بكل مذاهبهم، ففي هذه السلطة اعتداء على الإيمان: ألم يقل الإسلام أنه لا كهنوت لديه، ولا يحتاج المؤمن لوسيط بينه وبين ربه؟ ألم يقل الإسلام أن الزواج ليس سراً إلهياً وأنه عقدٌ مثل سواه، وشرطه الأول هو القبول والإشهار؟ وقال بتوثيق العقود - كل العقود - يعني بكتابتها وتسجيل شروطها، وهو ما يمكن أن يتحقق في أي إطار. فمن أين جاء الشيخ الذي يمتلك سلطة الأمر والنهي في هذا المجال؟ الأصل في منحه هذه السلطة ليس الدين ولا الإيمان.

وثمة ممارسة "طريفة" (لو صح القول) وهي اقتران هوية رجل الدين المدعو ليوثق العقد بالمكانة الاجتماعية لصاحب العقد، وهي تشبه مراتب الحلوى والضيافات الأخرى التي تقدَّم في هذه المناسبة. فكلما ارتفعت مكانة صاحب العقد (أو طبعاً أبنائه) في المال والجاه والسلطة، كلما تطلبت رجل دين ذا مرتبة عالية، وصولاً إلى المفتي شخصياً كما يليق بالكبار، أو البطريرك وليس أقل لدى المسيحيين، بينما يكتفي الفقراء بالذهاب بأنفسهم إلى المحكمة (المذهبية) أو بإحضار شيخ "معتّر" إلى البيت، يوثق العقد ثم ينقله إلى سجلات المحكمة التي تنقله الى سجلات النفوس المدنية المنظَّمة هي الأخرى في دوائر نفوس مدنية تراعي التوزيع الطائفي.. ما هذا الدوران؟

ما أهمية تطبيق ممارسة دينية تماماً وهي تسجيل شروط في عقد الزواج - ويمكن وضع أي شروط ومنها ما قد يخص حضانة الأطفال في حال الطلاق، ومنها مثلاً ألا يتزوج الرجل بأخرى. وفي زمان الرسول والصحابة كانت هناك شروط غريبة من قبيل ألا يخرج الرجل إلى أبعد من مسافة كذا من دون إذن زوجته، وهي ربما من الطرائف اليوم. ولكن المؤكد أن رجال الدين لا يرغبون بتسجيل أي شرط، فيتركون بذلك الرجال طلقاء.. ولعله تضامن ذكوري!

ولكن وبعيداً عن المزاح، فهناك "حقد" خاص على شرط العصمة بيد المرأة من قبل رجال الدين، حتى أنّ كثيرين منهم يرفضون إجراء العقد عند وضع هذا الشرط من قبل صاحبيه، فيضطر هذان للتخلي عنه ويرضون بالعقد كما يكتبه الشيخ، أو لو كانا عنيدين أو لديهما وقت، يستبدلان الشيخ بسواه!

لماذا الإلحاح هنا على شرط العصمة بيد المرأة (الذي تضمّنه عقد زواج فاطمة بنت الرسول من ابن عمه علي ابن أبي طالب!)؟ ليس لأنه "يشيل الزير من البير"، وليس لأنه حل للمشاكل المصاحبة لإشراف المؤسسات المذهبية على حياة البشر من ألفها إلى يائها، بل لأهميته الرمزية والفكرية في المقام الأول. صحيح أن هناك من الرجال من يمارس "الإعضال"، أي تعليق المرأة بلا طلاق نكاية بها أو ابتزازاً لها لدفعها إلى التسليم بما يريد من أجل الخلاص (والإعضال منهي عنه نهياً صريحاً في القرآن). والعصمة بيد المرأة قد تكون حلاً بالمعنى المباشر لهذه الممارسة، كما هي حل لممارسات المحاكم المُهينة بحق النساء.

لكن أهمية تبنّي شرط العصمة اليوم وإشاعة ممارسته وفرضه من قبل متبنيه على رجال الدين والمحاكم في عقود زواج المسلمين لا تقف عند هذه الحدود الهامة إجرائياً، ولكن البدائية. وإنما هو يمكنه أن يصبح تعبيراً عن حجم انحياز النساء لمطالبتهن بحقهن. فلو شاعت الممارسة لسجّلت وقوع تغيير في منظومة القيم السائدة، لأن هذا الشرط في هذا الإطار لا بد أن يوافق عليه الرجل وإلا فلا يُعقد الزواج. وغالباً لا بد أن توافق عليه عائلتا المتزوجيَن وهما يتدخلان في كل شاردة وواردة، مما يمثل "إعادة تأهيل" لهما، أو ولو كانا موافقين أصلاً فهو يعبر عن حجم انزياح عن السائد أكبر من حجم الفردين، الزوجة والزوج.

للقيم السائدة أسبابها وأسسها بالطبع، لكنها – هذه القيم – لا تتغير آلياً مع التغييرات في تلك الأسس والأسباب. هذا أولاً. ومن جهة أخرى لا تقل أهمية، فللأفكار والقناعات قوتها الخاصة، وحين يتغير أي عنصر فيها فذلك يؤذن بوجود مخاصات نحو تغيير عام، وفي نفس الوقت هو يدفع إليه ويساعد في تخليقه، بما لا يقل فعالية عن أي وسيلة أخرى أو سلاح. ويصح الامر على أي اتجاه للتغيير، سواء أكان تحررياً أم رجعياً. وهنا، فلو صارت كتلة الذين يفرضون شرط العصمة بيد المرأة كبيرة لأشّر ذلك الى وقوع تغيير في المنظومة القيمية، ولساعد أيضاً على بلورة هذا التغيير.

المنظومة القيمية السائدة اليوم مختلة بعمق، وتعاني من انفصامات شتى، وتخضع لاعتبارات تافهة من قبيل مراعاة المظاهر أكثر من "المضامين"، وهي تُبرِّر كل أشكال المهادنة والمراوغة والتقوقع والأنانية والوصولية والجبن والمشي في ظل الحائط الخ، ولذا فالاشتغال على بناء منظومات قيمية شخصية نقيضة لهذه، متماسكة ومتطابقة، هو واحد من أبواب الرجاء، للخلاص من البؤس الذي نعيش فيه: البؤس النفسي والفكري والشعوري، الذي لا يمكن لمن يتخبط وسطه أن يفعل شيئاً من أجل التأثير في الشأن العام المشترك.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...