مزبلة التاريخ

في قلب وادي الصليب في مدينة حيفا تجدون سوق الخردة، ونسمّيه في فلسطين «سوق الرابش» من (Rubbish) ومعناها القمامة، وهو سوق لبيع القطع القديمة على أنواعها. الغريب في سوق القمامة أن زبائنه غالباً ما يأتون من طبقات اجتماعيّة يتفق سادتها على أن يخطروا الشرطة إن لمحوا رجلاً غريباً ينبش القمامة في أحيائهم النظيفة، النظيفة جداً.سوق الرّابش لا يحكي رواية تاريخيّة ما، بل يجمع في حركته
2013-11-20

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
(تصوير مصلح كناعنة)

في قلب وادي الصليب في مدينة حيفا تجدون سوق الخردة، ونسمّيه في فلسطين «سوق الرابش» من (Rubbish) ومعناها القمامة، وهو سوق لبيع القطع القديمة على أنواعها. الغريب في سوق القمامة أن زبائنه غالباً ما يأتون من طبقات اجتماعيّة يتفق سادتها على أن يخطروا الشرطة إن لمحوا رجلاً غريباً ينبش القمامة في أحيائهم النظيفة، النظيفة جداً.

سوق الرّابش لا يحكي رواية تاريخيّة ما، بل يجمع في حركته شظايا الروايات، الكاذبة منها والصادقة، القاتلة منها والمقتولة. وهو لا يكتفي بأن يحكي عن التاريخ، بل يجعل حركة البيع والشراء فيه مرآة لعلاقتنا وعلاقة المستعمرين بتاريخنا وتاريخهم.

تبدأ الفروق بتحديد الموقع. إذا أردت أن أصف الموقع فسأقول بالضرورة ان السوق يحاذي مسجد الاستقلال، وهو من أهم معالم فلسطين، فيه استقر عزّ الدين القسّام وتولّى إمامته، وفيه نشأت بذور الثورة الفلسطينية الكبرى. أما الإسرائيليون فيوجّهون بعضهم البعض بالقول انّ السوق يحاذي «حمّص أبو مارون». ومن أطباع المستعمِر الأكيدة أنه يُحب الحمّص، حتى كدنا نرجّح أن من بقي داخل الأرض المحتلة بعد النكبة، إنما أبقته الصهيونيّة ليُعدّ الحمّص. عليه، فإن الحمّص، خاصةً إذا ما كان يُدعى باسم عربيّ تقليدي يبدأ بـ«أبو...»، هو المعلم الوحيد الذي يتنبه إليه السادة الصهاينة.

أغلبيّة البيوت العالية التي يعجّ السوق في طابقها الأرضي هي أملاك مغلقة للاجئين الذين طردوا من وادي الصليب. لكن البيوت والنوافذ والشُرفات العالية الميّتة ليست جزءاً من اهتمام الإسرائيليين المتجوّلين في السوق الصغير، ولهذا السبب ربما، لم ينتبهوا يوماً إلى مئذنة المسجد وقبّته فوق المبنى الضخم. إنهم يسيرون مطأطئي الرأس، يبحثون في خردة تاريخهم المصفوفة على طول الرصيف. أما البيوت القديمة العالية، بيوتنا، فليست أكثر من ديكور يوفّر لهم الأجواء الملائمة، ويوفّر لهم، في بعض ساعات النهار، ظلاً يحرس بياض بشرتهم.. وبياض وجههم، ليصيحوا بثقل دمٍ مستفز: «انظروا، إننا في حيفا نعيش بسلام وتعايش وتبادل للثقافات مع هؤلاء العرب»، وهي جملة غالباً ما يكررها الإسرائيلي كلما وجد بقعة زيت على قميصه وهو يحاول أكل الحمّص بالشوكة.

لسنا جزءاً من التاريخ المعروض للبيع على رصيف سوق الرابش. الباعة العرب في السوق يتجوّلون خلال الأسبوع في الأحياء اليهوديّة ويبحثون عن سكّان كبار السنّ يريدون التخلّص من محتويات بيوتهم القديمة، يتطوّع الباعة بتنزيل أثاث البيت ومحتوياته ويأخذونها، أو بأسوأ الأحوال يشترونها بثمن بخس، ثم يبيعونها في نهاية الأسبوع في الرابش.

لذلك، سنجد تاريخهم على الرصيف: كُتب باللغة الألمانيّة، اسطوانات أصليّة لجوقة الجيش الأحمر، أفلام إباحيّة بشريط من نوع «سوبر 8»، نياشين قديمة للجيش الإسرائيليّ، مئات المحاولات الفاشلة للرسم بالزيت، وساعات قديمة جداً (ما لنا نحن وللساعات؟ نحن على مواقيت الأذان!)، وستجد مئات الأواني التي لن تجدها عادةً في مطبخٍ عربيّ. التاريخ المعروض للبيع هو تاريخهم، أو بكلمات أخرى هو تاريخ من دون مكان، من دون لغة واحدة، تكسّرات مجتمعات أتت من كل مكان لتسحق أبناء هذا المكان.

ونحن؟ هيهات منّا الذلّة. نحن لا نبيع تاريخنا، نحن سنحافظ على مدقّة الثوم الخشبيّة حتّى الرمق الأخير، وستصبح المدقّة في المستقبل القريب جزءاً من معرض «أبداً لن أفارق» الذي سيفتتح المتحف الفلسطيني قريباً في عاصمة أوسلو - رام الله، وهناك ستفوح مدقّة الثوم بعبق التاريخ...

نحن نحفظ أواني الماضي في بيوتنا، نخاف أن نتداولها لئلا نضيّع أنفسنا، لئلا نذوب ونتلاشى داخل رواية صهيونية كاذبة لكنها صلبة وقويّة وممأسسة. في الوقت الذي نفتقد فيه نحن الوضوح في التوجّه والأفق السياسي لنضالنا ومصيرنا.

يذهب إلى سوق الرابش الإسرائيليّون الأغنياء المُمعنون ببياض البشرة، هؤلاء الذين يرون أنفسهم في طليعة البشريّة وأرقى أشكالها، خاصةً إذا ما قارنوا أنفسهم بالباعة السُّمر الذين يعتاشون من بيع القمامة. انتبهوا للعمليّة: القطع ذاتها تكون جزءا من القمامة ما بقيت مع البائع الفلسطيني، ثم حين يشتريها الإسرائيلي ويمتلكها، تتحوّل الى عمل فني!

يذهبون لأنهم يرون أنفسهم في مقدّمة الحاضر، والأقرب إلى المستقبل المستنير. هم يرون أن من يستحق امتلاك الخردة كقطعٍ ذات قيمة فنّية، عليه أن يكون قد قطع شوطاً من التحديث والتطوّر والانفصال عن الماضي المظلم: كي تكون ممن يقدّرون المعنى التاريخي للقمامة عليك أن تكون على قدرٍ كافٍ من «النظافة».

مؤخراً، شعر الإسرائيليّون المرهفو الإحساس بأن هؤلاء الباعة الفلسطينيين لا يستحّقون السيطرة على سوق الرابش. فعلاً، إننا لا نقدّر القطع الفنيّة ولا نمنحها الاهتمام الكافي، إننا مقصّرون جداً باستخدام التقنيّات الفنيّة لخلق أجواء تليق بمدينة التعايش وتبادل الثقافات، وبالإضافة لهذا فإننا لا نتعامل بشفافيّة بما يتعلّق بالأسعار. في السنوات الأخيرة بدأ الإسرائيليّون المتخمون يسيطرون على سوق الرابش، يشترون بالجملة من الحمّالين ويفتتحون دكاكين ومعارض يبيعون فيها القطع ذاتها بأسعار خياليّة لا يمكن المساومة عليها. يا الله، سوق من دون مساومة؟ ما هذا الكابوس؟

تجدر الإشارة، إلى أنه في الوقت الذي توصّل فيه الإسرائيليّون إلى أن يتولّوا البيع في سوق الرابش، بدأت شريحة من الفلسطينيّين بممارسة موهبة حيازة القطع القديمة. زبائن من فلسطينيي الداخل ينتمون لشريحة أكسبتها ثقافتها (أو على الأقل كثرة المكوث برفقة من يتحدثون عن الثقافة) مقدرة «هيغليّة» فذّة على التحليق فوق التاريخ. هؤلاء لا يحبّون حمّص أبي مارون بشكلٍ خاص، ولديهم تجربة عمليّة غنيّة في التغميس، لكنهم بالوقت ذاته، وهم ينظمون القصائد عن بؤس وادي الصليب المنكوب، يتجنّبون النظر في عيون المصلّين الداخلين إلى صلاة الجمعة في المسجد.

حين يتعامل فلسطينيّو «النخبة» مع الباعة من أبناء جلدتهم، يحاولون أن يميّزوا أنفسهم عن الإسرائيليين ويسخروا من الإسرائيليّين أمام الباعة بنوع من نداء الاستغاثة: «نحن لسنا معهم، والله العظيم لسنا معهم». أما بنظر الباعة فكلهم أغبياء يدفعون أموالهم لشراء القمامة... بالنسبة لمن يقضي أسبوعه حمّالاً ليبيع بضاعته نهاية الأسبوع: أنت زبون متخم، وهو أبٌ يطعم أولاده.

مقالات من حيفا

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...