كيف صعد زعيم ميليشيا إلى سدة الحكم في السودان؟

برز مفهوم المركز والهامش بقوة في السياسة السودانية خلال السنوات الأخيرة، وها هو يتخذ أعلى تجلياته في اللحظة الراهنة، مع سقوط البشير وتضعضع الدولة والجيش السودانيان وصعود "حميدتي" الى سدّة الحكم.
2019-07-17

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
سمعان خوام - سوريا

لم يتوقع أكثر المتشائمين من مآلات "ثورة ديسمبر" أن تكون بمثابة تعبيد طريق لقائد ميليشيا قبلية ليصعد إلى سدة الحكم في السودان. لم يُرصد للرجل الأربعيني أي طموح سياسي لحكم البلاد طيلة السنوات التي شهدت تمدده العسكري على حساب مؤسسة الجيش، كما لم تسجل وسائل الإعلام أي تصريح أو تلميح للرجل تُستشف منه رغبته في الوصول لمنصب سياسي. كان طموحه العسكري الجامح لا تحده حدود، وكثيراً ما كان يتباهى في وسائل الإعلام بقواته المقاتلة التي خاضت بالفعل حروب في إقليم دارفور ضد الحركات المسلحة المنحدرة من أصول من عمق القارة الأفريقية. ومن الممكن والى حد كبير القول إنها قضت على النشاط العسكري لهذه الحركات في الإقليم. غير أن قواته الضاربة في الكثرة اكتسبت سمعة سيئة في دارفور حيث عُرفت بالانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين خلال المعارك العسكرية.

بعض المتابعين يؤكدون بروز طموح سياسي للرجل منذ الفترة التي أعقبت أشهر معاركه ضد حركات دارفور. معركة "قوز دنقو" التي وقعت في العام 2015 بين "قوات الدعم السريع" و"حركة العدل والمساواة" التي تُعد من أكبر الحركات المسلحة في دارفور. كانت تلك المعركة قاصمة لظهر حركة العدل والمساواة، وبالمقابل حصد بعدها حميدتي رصيداً عسكرياً وسياسياً ضخماً، وقال صراحة في أعقاب تلك المعركة إنه يتطلع لكرسي البشير.

بدأت قوات حميدتي - التي خرجت من رحم جهاز الأمن الوطني - بنواة قوامها .5000 مقاتل مجهزين بألف سيارة عسكرية، ثم تمددت لتصل الى ما بين 30 الفاً بل وحتى 40 ألف مقاتل وفقاً لمعلومات عسكرية أغلبهم اليوم يقاتلون في اليمن ضمن "التحالف العربي" الذي تقوده المملكة العربية السعودية.

يعبّر طموح حميدتي في الصعود لسدة السلطة - وهو المنحدر من كبرى قبائل دارفور العربية - عن مشاعر تيار عريض لا ينتمي جغرافياً إلى ما يُعرف بالوسط النيلي (وسط السودان) وهي المنطقة التي سيطرت نُخبها على حكم الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى حكومة البشير.

مقالات ذات صلة

في حوار نشرته صحيفة "التيار" السودانية في العام 2015 مع الزعيم القبلي موسى هلال، الأب الروحي لمليشيات "الجنجاويد"، كشف الرجل عن حلمه بحكم السودان وتساءل بتعجب "لماذا حينما يتحدث الناس عن بديل البشير يطرحون أسماء مثل نافع، علي عثمان أو غيرهم من قيادات وسط السودان، لماذا لا يقولون إن البديل موسى هلال؟". وتلك كانت إشارة إلى مفهوم المركز والهامش الذي برز بقوة في السياسة السودانية خلال السنوات الأخيرة. ومصطلح "المناطق المهمشة" المتداول في السياسة السودانية جاء في بيان "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ("المانفستو" الصادر في الثمانينات الفائتة) حيث حدد المصطلح المناطق المهمشة بأنها كل السودان ما عدا وسطه.

وقوات محمد حمدان الشهير بـ "حميدتي" هي سليلة القوات المعروفة بـ "الجنجاويد" التي أسسها الزعيم القبلي موسى هلال مع جنرالات الجيش السوداني لمجابهة حركات التمرد الأفريقية. وقادت الجرائم التي ارتكبتها تلك القوات الى أن يصبح المخلوع عمر البشير مطلوباً لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي فبتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم الذي يتقلب في الحرب منذ 2003.

يعبّر طموح حميدتي في الصعود لسدة السلطة - وهو المنحدر من كبرى قبائل دارفور العربية - عن مشاعر تيار عريض لا ينتمي جغرافياً إلى ما يُعرف بالوسط النيلي (وسط السودان) وهي المنطقة التي سيطرت نُخبها على حكم الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى حكومة البشير.

ارتكبت الميليشيات العربية إبادة جماعية ضد حركات دارفور المتمردة المنحدرة من أصول أفريقية سوداء. قبل وقد اصبحت قوة نظامية بقانون خاص بها أجازه البرلمان مطلع 2017، تحولت بموجبه من قوة مقاتلة تابعة لجهاز الأمن إلى قوات نظامية تتبع القوات المسلحة السودانية.

"حميدتي" هو أحد قادة المليشيات العربية (وهو المصطلح الذي يميزها عن "الافريقية") في إقليم دارفور. وقد عمدت حكومة البشير إلى تسليح هذه الميليشيات لقتال حركات دارفور المتمردة (المنحدرة من أصول أفريقية). وارتكبت هذه المليشيات إبادة جماعية ضد العنصر الأفريقي قبل أن تصبح قوة نظامية بقانون خاص بها أجازه البرلمان مطلع 2017، تحولت بموجبه من قوة مقاتلة تابعة لجهاز الأمن إلى قوات نظامية تتبع القوات المسلحة السودانية. وخلال أعوام معدودة وصل الرجل إلى أعلى الرتب العسكرية وتفوّق على من سبقوه من قادة المليشيات العربية. وعلى الرغم من أنه لا ينتمي إلى مؤسسة الجيش فهو الآن يحمل رتبة فريق أول مع منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الذي يشاركه فيه عدد من جنرالات الجيش الذين يدينون بولاء ظاهر له.

كيف وصل "حميدتي" إلى رئاسة السودان الانتقالية؟

للإجابة على هذا السؤال فلا بد من الوقوف قليلاً على الفترة التي سبقت سقوط البشير. خلال الاحتجاجات التي تفجرت في كانون الاول/ ديسمبر 2018 والتي استمرت 5 أشهر وانتهت بخلع البشير، كان "حميدتي"، قائد القوات الضاربة، يلتزم الحياد ويتفرج على المشهد من مكتبه المحاط بالمدرعات الإماراتية في أرقى أحياء العاصمة. وحينما اشتد الوغى على البشير كان متوقعاً أن تنزل ميليشيات حميدتي إلى شوارع الخرطوم لتحمي النظام والحليف المركزي للرجل. وكانت ميليشيات حميدتي آخر ورقة بحوزة البشير ليحمي كرسيه.

لكن ما حدث كان أن جمع الرجل قواته الضاربة في إحدى معسكراتها وطلب منها عدم التدخل ضد المتظاهرين لأن هذا ليس من اختصاصها. وعلى الرغم من أن الحديث كان حمّال أوجه، إلا أن قراءة هذا الخطاب كانت تشير الى تملّص حلفاء البشير من الولاء له في الساعات الأخيرة. وربما قرأ حميدتي المشهد بذكاء، وتيقن أن جذع الثورة سوف يتساقط عليه رطباً جنيا بعد حين.

اتخذت قوات "حميدتي" موقف الحياد ولم تقمع المتظاهرين طيلة شهور الاحتجاجات، وأيدت في الساعات الأخيرة إزاحة البشير. فقبِل بها الشارع الخرطومي على الرغم من فظاعاتها المرتكبة في إقليم دارفور. وبدأ الرجل يتلمس القبول الشعبي الذي اكتسبه بعد إزاحة البشير لدرجة عرض صوره في ميدان الاعتصام كأحد المنحازين للثورة.

وفعلياً لم تتورط "قوات الدعم السريع" في قمع المتظاهرين طيلة شهور الاحتجاجات حتى سقوط البشير. وحينما خطط مدير الأمن السابق صلاح قوش لسيناريو إزاحة البشير تحت الضغط الشعبي في نيسان/ أبريل الذي تحول لاعتصام في محيط قيادة الجيش، كانت المعضلة الرئيسية وقتذاك هي "قوات الدعم السريع" التي بناها البشير لسنوات طويلة لمثل هذا اليوم، وحوّلها إلى قوة ضاربة وجعلها شوكة في حلق الجيش الذي لا يثق فيه كثيراً. وقتها كان قوش قد حيّد القوة العسكرية لجهاز الأمن/ كما حيّد وزير الدفاع ونائب البشير، عوض بن عوف، الجيش، فلم يتبق إلا القوة الضاربة التي يدين صاحبها بشكل شخصي بالولاء المطلق للبشير.. لكن ردة فعل حميدتي.. كانت أن رحب بقرار اللجنة الأمنية بإزاحة البشير بعد أربعة أيام من اعتصام القيادة ليصبح مشاركاً في الثورة باستجابته للتخلي عن البشير وكفّ يد قواته عن قمع المتظاهرين. ولما كان الجيش السوداني مهيض الجناح، تحول ميزان القوة لصالح "قوات الدعم السريع" وقائدها.

اتخذت قوات حميدتي موقف الحياد في قمع المتظاهرين طيلة شهور الاحتجاجات وانحازت في الساعات الأخيرة لإزاحة البشير. قبِل بها الشارع الخرطومي على الرغم من الفظاعات التي ارتكبتها في إقليم دارفور. ورويداً بدأ الرجل يتلمس القبول الشعبي الذي اكتسبه بعد إزاحة البشير، لدرجة عرض صوره في ميدان الاعتصام كأحد المنحازين للثورة. لكن سرعان ما أظهر حميدتي طموحه الشخصي وتغيّر خطابه المساند للثورة إلى خطاب معادي لها ثم تهديدي، منطلقاً بالضرورة من سند إقليمي مطلق (الإمارات - السعودية). الإمارات ترى في حميدتي الذي يقاتل معها في اليمن حليفاً مستقبلياً لتعزيز الوجود العسكري الإماراتي في ليبيا وتجتهد كذلك لتعزيز منظومته العسكرية باعتبارها بديلة للجيش السوداني الذي لحق به تدمير ممهنج خلال حقبة البشير. ويتخوف كبار ضباط الجيش من إقدام الإمارات على تسليح الرجل بالأسلحة الثقيلة (المدرعات -الطيران)، وهما السلاحان اللذان يتفوق الجيش السوداني بهما عليه.

في الثامن من رمضان الفائت، وبلمح البصر، فقد الرجل كل ما اكتسبه من قبول شعبي في الخرطوم بعد محاولة لفض الاعتصام تورطت فيها قواته وقتلت عدداً من المعتصمين. ثم توالي سقوط القناع بمجزرة القيادة الشهيرة في الثالث من حزيران/ يونيو قبيل عيد الفطر بيوم، التي نُفذت بالسيناريوهات ذاتها التي حدثت في دارفور حيث أحرقت قرى بأكملها وارتكبت انتهاكات جسيمة بحق المدنيين. هذه المجزرة فرضت واقعاً سياسياً وثورياً جديداً في السودان ومددت غضب الشارع ضد المجلس العسكري الانتقالي الذي يسيطر عليه حميدتي بقواته الضاربة، وانفصل الشارع فعلياً عن هذا المجلس الذي قبِل به على مضض، ليتواصل التصعيد الثوري ضده بينما تتواصل المفاوضات مع القوى السياسية الممثلة للشارع.

المفارقة الجسيمة

بعيداً عن زخم ثورة ديسمبر ومطالبها المجيدة، ومشروع التغيير الكبير الذي ينشده كل السودانيين، فإن صعود حميدتي السياسي مثّل على ما يبدو أملاً كبيراً لتيار في "الهامش". حتى لدى بعض هؤلاء ممن قاتلهم الرجل في إقليم دارفور. بُعيد تسمية حميدتي نائباً لرئيس المجلس الانتقالي، كان أحد القادة السياسيين المنحدرين من قبيلته يُجري اتصالات مكثفة مع الإدارات الأهلية بشرق السودان ويحاول دفعهم لإظهار الولاء لحميدتي باعتبار أن الدولة القادمة هي دولة "الهامش"، ومنطقة شرق السودان ليست بعيدة عن إشكالية "المركز والهامش" الحاضرة بقوة في السياسة السودانية. وبالفعل، وبعد أيام معدودة من هذه الاتصالات غير المعلنة، بدأت عمليات تجنيد وسط قبائل شرق السودان في صفوف قوات الدعم السريع.

تسيّد حميدتي سدة الحكم حجر عثرة أمام التغيير الذي قامت لأجله الثورة: الرجل يمتلك قوة عسكرية/قبلية ضاربة، ويجنّد في أطراف السودان، وتسيطر قواته على منطقة جبل عامر الغنية بالذهب والمعادن وهو مورد خارج الاقتصاد الرسمي، كما يحالف دولاً أوروبية لوقف الهجرة غير الشرعية إليها، ويرسل اعداداً كبيرة من مجنديه الى الحرب باليمن فتجازيه السعودية والامارات بأموال ضخمة.

رحّب "مني أركو مناوي" أحد أبرز قادة الحركات المسلحة في دارفور بصعود حميدتي على نحو لافت بل واعتبره جزء من التغيير، ومضى أبعد من ذلك بتصريح صادم إذ قال "حميدتي ليس عدوّنا"، ويواصل في حوار نشرته صحيفة "التيار" السودانية في أيار/ مايو الماضي: "عدوّنا المركز"، مختصراً الصراع بمفهوم المركز والهامش بعيداً عن القتال بين المكوّنين العربي والأفريقي. ويعزز هذا الاتجاه السياسي أن بعض الحركات المسلحة المنحدرة من أصول أفريقية تحتفظ بعلاقات نوعية مع زعيم الجنجويد موسى هلال الذي أسس لحروب الإبادة الجماعية ضد العنصر الأفريقي خلال حقبة البشير. ويتبنى خطاب الهامش والمركز العديد من مثقفي الحركات المسلحة الذين يبدو حل الأزمة السودانية أمامهم هو تفكيك دولة الوسط النيلي التي ظلت تحكم السودان منذ الاستقلال.

حجر عثرة ضد الثورة

على العموم، مَثّل تسيّد حميدتي سدة الحكم في السودان في أعقاب ثورة أذهلت العالم، حجر عثرة أمام التغيير الذي قامت لأجله الثورة، وحجر العثرة هذا يتمركز بشكل رئيس حول القوة العسكرية / القبلية الضاربة للرجل، ونشاطه التجنيدي المتزايد في أطراف السودان، واستقلاله الاقتصادي الكامل عن سلطات الدولة، حيث تسيطر قواته على منطقة جبل عامر الغنية بالذهب والمعادن وجبل عامر هو مورد خارج منظومة الاقتصاد الرسمية للدولة وتعتبره دول أوروبية حليفاً مهماً لوقف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ويدعم حميدتي الوجود العسكري لـ"التحالف العربي" في اليمن بإرسال أعداد ضخمة من المقاتلين من أبناء قبيلته مقابل أموال طائل، وعقب سقوط البشير صرح الرجل بأنه كان يُسيّر خزينة الدولة طيلة شهور الاحتجاجات من أموال قوات الدعم السريع الخاصة التي تأتي من حرب اليمن، علاوة على إيرادات الذهب.

وحميدتي المتورط في حروب دارفور بجانب عدد من جنرالات الجيش يحاول، ومن معه، إقامة حصن متين للحماية من المساءلة. وعلى الرغم من تاريخ الرجل الدموي، فقد وجد صعوده ترحيباً في أوساط من كانوا في خانة ألد أعداءه حتى سقوط البشير. والذين يدافعون عن صعوده يتكئون على منطق مقنع - بالنسبة لهم على الأقل - وهو أن الرجل سليل مدرسة البشير الدموية، ومثلما حكم البشير السودان فلماذا لا يحكمه من هم خارج النادي السياسي التقليدي الذي سيطر على الدولة السودانية منذ الاستقلال.

صعود حميدتي المنحدر من دارفور حدث نادر في تاريخ الدولة السودانية، فالرجل جمع كل المتناقضات. هو أمير حرب ويمتلك في الوقت نفسه قوة عسكرية ضاربة تكاد توازي القوة العسكرية للجيش، وهو من إقليم دارفور الذي عانى ويلات الحرب والتهميش، وهو وفر لنفسه استقلالاً اقتصادياً كاملاً.. لكنه فشل حتى الآن في تأسيس حاضنة سياسية أو شعبية له فيعتمد بشكل تام على القوة العسكرية وعلى حلف إقليمي هزيل.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه